q
الفلسفة اللاّعنفية تدعو للتمسك بالحق والمقاومة في سبيل إحقاق هذا الحق، لكن هذه المقاومة تتّخذ طابعاً سلمياً مدنياً لا عنفياً وليس طابعاً عنفياً. ونحن كشعوب ربما نحن معنيون أكثر من غيرنا بثقافة اللاّعنف، لاسيّما العيش بسلام واختيار طريق التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بحريّة ودون إملاءات خارجية...

نعتقد أن التلاقي الحضاري والتفاعل الإنساني والتطوّر التاريخي للأمم والشعوب والجماعات، لا يحصر الفكر في أمّة من الأمم أو شعب من الشعوب أو قارة من القارات أو تيّار فكري أو اجتماعي واحد، مثلما هي فلسفة اللاّعنف، عبارة عن تزاوج وتلاقح وتطوّر طويل الأمد يمتدّ جذوره عميقاً في التراث الإنساني ويجد صورته الحالية بفكرة الحداثة، مع وجود خلفيات لفكرة اللاّعنف في فلسفات الكثير من الأديان والأفكار والأيديولوجيات، ونظن أن هذه قضية مهمة وأساسية نحتاج أن نتوقف عندها لأنها مسألة تتعلق بصلب فلسفة التعاون وبصلب أفكار التعاون التي يجري الحديث عنها.

خمسة اتجاهات يمكن أن نحدّدها إقتفاءً لأثر الفكرة اللاّعنفية دائماً الحديث عن اللاّعنف يثير إلتباساً وغموضاً كما أشـرنا، لـذلك توزّع النظر إلى فلسـفة اللاّعنف عبر اتجاهات خمسة:

الإتجاه الأول: هو الإتجاه الرافض أو الإنكاري

وهو الذي اعتبر فكرة اللاّعنف دخيلة ومستوردة وهي صناعة غربية خالصة وبدعة لتحقيق مآرب سياسية هدفها تحبيط عزائم الشعوب المقهورة والمسحوقين المظلومين لكي لا يثوروا على ظالميهم وحكّامهم، أو لكي لا يطلبوا الاستقلال والتحرر من مغتصبيهم. ومثل هذا التفسير بواقع الحال لا علاقة له بالفلسفة ذات النزعة الإنسانية الخاصة باللاّعنف.

الفلسفة اللاّعنفية تدعو للتمسك بالحق والمقاومة في سبيل إحقاق هذا الحق، لكن هذه المقاومة تتّخذ طابعاً سلمياً مدنياً لا عنفياً وليس طابعاً عنفياً. ونحن كشعوب ربما نحن معنيون أكثر من غيرنا بثقافة اللاّعنف، لاسيّما العيش بسلام واختيار طريق التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بحريّة ودون إملاءات خارجية ودون استبدادات داخلية اذا جاز التعبير.

الإتجاه الثاني: هو الإتجاه الرّيادي الإنعزالي

ما علاقة الرّيادة بالإنعزال؟ هذا الإتجاه يرفض فكرة اللاّعنف لأنه يقول أنها غير موجودة في تاريخنا وفي شرائعنا الدينية، واعتماد فلسفة اللاّعنف سيقود إلى التحلّل وانعدام الغيرة على الدين، وأن في الشريعة، لا سيّما الشريعة الإسلامية هناك إجابات على كلّ شيء وهي صالحة لكلّ زمان ومكان، فما الحاجة إذن لفلسفة جديدة نضيفها مُبتدَعة ومُخترعَة ومُستورَدة من الخارج نُطلق عليها اللاّعنف؟

لدينا حسب هذا الإتجاه الرّيادة ولدينا الأفضلية ولدينا التميّز على جميع القوانين الوضعية. وهذا الإتجاه يُرجِّع كل شيء إلى الماضي أي أن كل ما في الحاضر موجود لدينا في الماضي. ولذلك لا حاجة لنا لمواكبة التطوّر الكوني إستناداً إلى القاعدة الفقهيّة التي يقول بها الإسلام قبل غيره "تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان"، ولذلك يظهر التناقض في هذا الإدّعاء الذي يقول نحن لدينا كل شيء وأن بضاعتنا ردّت الينا.

الإتجاه الثالث: هو الإتجاه الإنتقائي والتوفيقي

يحاول أصحاب هذا الإتجاه التوليف بين مفاهيم متعارضة، لا سيّما بإهمال نقاط ساخنة وحسّاسة في موضوع اللاّعنف. هناك رغبة في الإصلاح، لكن يجري انتقاء بعض الأفكار اللاّعنفية ووضعها "منزلة بين منزلتين"، أي لا هي عنفيّة ولا هي لاعنفيّة. يريد أن يأخذ قليلاً منها ويريد أن يواخيها مع أفكار عنفيّة سائدة واعتاد على قبولها في فلسفات وفي آيديولوجيات قائمة.

الإتجاه الرابع: هو إتجاه اغترابي

ينطلق من نقد للإتجاهات الثلاث المذكورة، ولكن بالمقلوب حين يعتبر التمسّك بالتراث والخصوصيّة خارج نطاق الحداثة ومناقض لها، وأن أي تفكير خارج نطاق الحداثة هو محاولة عقيمة ويائسة، وعلينا كمجتمعات شرقية، عرب أو مسلمين أو غير ذلك، اذا أردنا السير في طريق التطوّر، الإقرار كليّاً بمفاهيم الحداثة من دون زيادة أو نقصان بما فيها أفكار اللاّعنف "المجرّدة. هكذا بإختصار يحاول أن يصادر التاريخ والتراث، وكل ما بني في المجتمعات من تراكم وتطوّر تدرّجي بتلاقح حضارات وثقافات، ويلغيه باعتماده فقـط على فكرة الحداثـة وربما ما بعد الحداثـة إنطلاقـاً من فكرة العولمة التـي فيهـا كل شيء.

الإتجاه الخامس: هو الإتجاه الواقعي

إتجاه حضاري يزاوح ما بين الحداثة والتراث وما بين المعاصرة والأصول والخصوصية والشمولية، مع الآخذ بعين الاعتبـار التطـوّر التاريخي الكوني والإنفتاح والتفاعـل معه للإرتقـاء بفكرة اللاّعنف لتصبح فلسفة عمـل، أي أنهـا منهـج حيـاة والبحث فـي تراثنـا، بـل التنقيب في التـراث بمعـول جيولوجي عن تجـارب لاعنفية عرفتها مجتمعاتنا.

علينا أن نفكر كلّ منا من موقعه في مجتمعاتنا الصغيرة والأكبر عن نماذج لاعنفيّة، ونستخدمها في رؤية الحاضر واستشراق المستقبل. هل توجد نماذج لاعنفية؟ كيف نكبّر (نعظّم) هذه النماذج اللاّعنفية، نعطيها نفحة إنسانية بحيث تكون مرشداً لنا في العمل ونستفيد منها عند الحديث عن قضية اللاّعنف بقراءة الواقع برؤية جديدة تستند إلى فكرة اللاّعنف.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق