لا بد من منح مراكز الفكر الستراتيجية في العراق قدراً كبيراً من الحرية والاستقلالية، بمعنى أن تكون لها الحرية في تناولها القضايا السياسية المهمة والحساسة. قناعة صانع القرار السياسي بأهمية تلك المراكز في عملية صنع القرار يعد عاملا أساسيا في استمرار عملها، ومنحها الثقة اللازمة لتطوير آليات عملها...

تزايد الاهتمام بمراكز الفكر الستراتيجية عالمياً بشكل واضح وملحوظ في العقود الأخيرة من القرن العشرين، فقد أصبحت تمثل أحد الدلائل الهامة على تطور الدولة واهتمامها بالبحث العلمي، واستشرافها آفاق المستقبل، وذلك انطلاقاً من كون تلك المراكز الفكرية تعد من الضرورات المجتمعية الملحة في الوقت الراهن، وأصبحت تحتل مكانة مهمة في العالم المتقدم وخاصة في مجال صنع القرار السياسي، وذلك يرجع لكونها مصدراً مهماً للتوجيه وبلورة الرأي العام، فهي تلعب دوراً مهماً في تطوير الفكر السياسي والستراتيجي، وذلك من خلال ما تقدمه من تحليلات ودراسات تُمد بها صانع القرار في الدولة من أجل المساهمة في ترشيد القرارات والسياسات.

عربياً، تنامى الاهتمام بمراكز الفكر الستراتيجية وأصبحت محل حديث بشكل واضح منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، واتسعت دائرة نشاطاتها من حيث الحجم الكمي، ومن حيث نوعية المساهمات التي تقدمها، وتأثيرها على مراكز صنع القرار على المستويين الداخلي والخارجي، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الدور الذي اضطلعت به مراكز الفكر الستراتيجية في الوطن العربي بشكل عام، مختلف عما هو عليه الأمر في الغرب، ولأنها لم تتبوأ مكانها الحقيقي، ولم تمارس دورها الحيوي المتمثل في المشاركة في صنع القرار السياسي، وهذا ليس بسبب عجزها عن أداء هذا الدور، بل بسبب المعوقات الكثيرة التي تحيط بها، وعدم تمكينها بهذه المهام بحكم طبيعة الحياة السياسية في العالم العربي وطبيعة أنظمتها وبعدها عن العمل المؤسسي المعمول به في الدول المتقدمة.

أولا: ماهية مراكز الفكر الستراتيجية

يقتضي إدراك مكانة مراكز الفكر الستراتيجية في بيئة صنع القرار السياسي تحديد ماهيتها من حيث: التعريف، النشأة والتطور التاريخي، أهمية مراكز الفكر الستراتيجية ودورها في صناعة القرار السياسي.

أ/ مفهوم مراكز الفكر الستراتيجية:

لا يوجد تعريف عام وشامل (جامع ومانع) حتى الآن لمراكز الفكر الستراتيجية، حيث ظهرت تعريفات كثيرة لهذه المراكز يعكس كل منها فهم صاحبه ومنطلقاته، وتكمن صعوبة إيجاد تعريف جامع لهذه المراكز في أن معظم المؤسسات والمراكز التي تقع تحت قطاع مراكز التفكير لا تعرب عن نفسها، وإنما تعلن عن نفسها كمنظمات غير حكومية NGO أو منظمات غير ربحية Non profit organization، وهذا يعد أحد التعريفات التنظيمية المعترف بها في القانون الأمريكي.

ويعرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مراكز الفكر والبحث بأنها: منظمات ملتزمة وبصورة دورية، بإجراء الأبحاث والدفاع عن أي موضوع يتعلق بالسياسات العامة، وتشكل جسراً يربط بين المعرفة والسلطة في الديمقراطيات الحديثة، إذ أنه يرى في المراكز البحثية هيئات وسطية بين المعرفة والسلطة، أو بين السياسيين والأكاديميين.

كما تعرف مراكز الفكر الستراتيجية بأنها: أي منظمة تقوم بأنشطة بحثية سياسية تحت مظلة تثقيف وتنوير المجتمع المدني بشكل عام وتقديم النصيحة لصناع القرار السياسي بشكل خاص.

ب/ مفهوم صنع القرار السياسي:

يمكن تعريف عملية صنع القرار السياسي علي أنها: عملية ديناميكية تتضمن مزيج من القوة والنفوذ والرشد والعقلانية، وتتم بواسطة مؤسسات رسمية وغير رسمية تتفاعل جميعاً لصياغة القرار السياسي كحل توفيقي بين جميع الاعتبارات، كما تعبر عملية صنع القرار السياسي عن توزيع القوة والموارد السلطوية وتتضمن تمثيل المصالح، كما تهدف إلى تحقيق أفضل النتائج الممكنة من خلال الموارد المتاحة، ولذلك فإن هناك قوتين تتجاذبان عملية صنع القرار السياسي، قوة تجذبها باتجاه تمثيل المصالح الأثقل وزناً نظراً لاستحواذها على عناصر القوة السياسية في المجتمع وقوة أخرى تجذبها نحو العقلانية والرشد وإقامة نوع من التراتب المعقول بين مختلف المصالح وتحقيق الأهداف المشتركة (فكرة المعقولية).

ج/ النشأة التاريخية:

عند تتبع المسار التاريخي لمراكز الفكر الستراتيجية سنجد أن الباحثين يختلفون في تحديد البداية التاريخية لتأسيسها، فمنهم من يقول أن نشأة تلك المراكز في صورتها الأولى كانت في الجامعات الأوروبية، وتحديداً في القرن الثامن عشر وكانت تعرف باسم (الكراسي العلمية)، وكان أولها نشأة كراسي الدراسات الشرقية في بولونيا وفي باريس، وهناك من يحدد نشأتها الأولى في عام ١٨٣١ مع تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدفاعية في بريطانيا، وهناك من يربط نشأتها بعام ١٨٨٤ مع تأسيس الجامعية الفابية البريطانية التي تعني بدراسة التغيرات الاجتماعية، وبصرف النظر عن البداية التاريخية لنشوء هذه المراكز، فإنه مع مطلع القرن الماضي تصاعدت حركة تأسيسها، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تم تأسيس معهد كارنيغي للسلام الدولي عام ١٩١٠، وفي بريطانيا تم تأسيس المعهد الملكي للشؤون الدولية عام ١٩٢٠، وفي فرنسا تم تأسيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية عام ١٩٧٩، ومن ثم انتشرت ظاهرت تأسيس مراكز الفكر عبر الغرب ومنه إلى العالم أجمع.

ثانيا: أهمية مراكز الفكر الستراتيجية ودورها في عملية صنع القرار السياسي

ترجع أهمية مراكز الفكر الستراتيجية إلى كونها تمثل بالنسبة لصانع القرار السياسي النوافذ التي تساعده على تكوين رؤية أفضل عن الواقع وما يواجه من قضايا ومشكلات، ومن ثم اتخاذ القرار السياسي الصحيح.

حيث تتمثل أهم الأدوار والمهام التي تقوم بها مراكز الفكر الستراتيجية في ميدان صنع القرار السياسي فيما يلي:

١/ إن مراكز الفكر الستراتيجية تشكل صلة الوصل بين عالم البحث والدراسة وعالم السياسة، فهي التي تمد الجسور بين المعرفة والسلطة، وذلك عن طريق ما تقوم به من أبحاث ودراسات تُمد بها صانع القرار السياسي.

٢/ القيام بالدور الاسترشادي لصانع القرار السياسي في الحالات والقضايا التي تتطلب معرفة متخصصة وسرعة في الإنجاز والقرار، وذلك عن طريق ما تقدمه تلك المراكز الفكرية من استشارات وإرشادات حول تلك القضايا، وذلك أيضاً من خلال ما تقدمه من بحوث علمية وموضوعية دقيقة تعمل على ترشيد السياسات العامة، وتمكن صانع القرار السياسي من اتخاذ قرار سياسي رشيد وعقلاني.

٣/ تمثل مراكز الفكر الستراتيجية قناة اتصال بين صانع القرار السياسي والشعب، حيث يقوم صانع القرار السياسي من خلالها بإرسال رسائل أو قرارات سياسية خاصة بقضايا معينة إلى الشعب.

٤/ تسهم مراكز الفكر الستراتيجية في فتح الآفاق لرؤية المستقبل بتصور علمي دقيق، وذلك من خلال دورها في استشراف المستقبل استناداً إلى قواعد علم المستقبليات وذلك من أجل مساعدة صانع القرار السياسي على التخطيط الاستراتيجي للمستقبل.

ثالثا: دور مراكز الفكر الستراتيجية في عملية صنع القرار السياسي في العراق

إن الدراسات التي تطرقت إلى واقع مراكز الفكر الستراتيجية في العراق بمختلف أشكالها تكاد تجمع على ضعف تأثير هذه المراكز في بيئتها السياسية بشكل عام، وفي بيئة صنع القرار السياسي بشكل خاص وذلك على المستويات الثلاثة:

١/ مستوى التواصل بينها وبين مؤسسات صنع القرار السياسي.

٢/ مستوى الاستفادة من خبراتها البشرية في إدارة الدولة سواء من خلال شغل المناصب المهنية المهمة في الدولة، أو من خلال قيام تلك المراكز بمرافقة الوفود الرسمية في الجولات الرسمية داخل العراق وخارجه.

٣/ مستوى الاعتماد على منتجها المعرفي من قبل المعنيين بالشأن السياسي، سواء فيما يتعلق بقيامها في تقديم الاستشارات والتحليلات والدراسات والأبحاث وإيجاد حلول للمشكلات التي تواجه صانع القرار السياسي.

وتتمثل أهم التحديات التي تواجه مراكز الفكر الستراتيجية العراقية فيما يلي:

أ/ تعد مشكلة التمويل أهم عائق يواجه مراكز الفكر الستراتيجية في العراق، حيث أن معظم تلك المراكز يعاني من قلة الموارد المالية التي تمول نشاطاتها، ويعتبر هذا الأمر منطقي جداً عندما نعلم أن العراق شأنه شأن باقي الدول العربية من أقل بلدان العالم إنفاقاً على البحث العلمي، وقد انعكست مشكلة التمويل الضعيف لبرامج البحث العلمي على كم الإنتاج المعرفي والتنموي لمراكز الفكر الستراتيجية، ومن ثم تعجز تلك المراكز في العراق عن لعب دورها الحيوي والتنموي والمساهمة في صنع القرار السياسي العراقي.

ب/ عدم إيمان صانع القرار بأهمية دور مراكز الفكر الستراتيجية في صناعة القرار.

ج/ انعدام العمل المؤسسي المستقل لتلك المراكز بالإضافة إلى غياب المناخ الديمقراطي، حيث هناك العديد من القيود السياسية المفروضة على عمل المراكز الفكرية وذلك لعدم ثقة صانع القرار السياسي فيها.

د/ عدم وجود استراتيجية واضحة تمتلكها تلك المراكز وذلك يرجع لعدم امتلاكها لقيادات تمتلك رؤية استراتيجية واضحة ترسم لها ملامح السياسة العامة التي يجب أن تنتهجها لكي تؤثر على صانع القرار.

رابعا: سبل النهوض بمراكز الفكر الستراتيجية العراقية

بعد الحديث عن التحديات والمعوقات التي تواجه مراكز الفكر الستراتيجية العراقية، يتبادر إلى الذهن البحث عن السبل والآليات اللازمة للنهوض بمراكز الفكر الستراتيجية العراقية ومستوى مساهمتها في عملية صنع القرار السياسي في العراق، وتتمثل أهم تلك السبل والآليات فيما يلي:

١/ توفير مصادر التمويل: وذلك لأن من أهم المعوقات التي تواجه مراكز الفكر الستراتيجية في العراق هو التمويل، ولذلك يجب على الجهات الحكومية في العراق توفير التمويل المالي لتلك المراكز الفكرية وذلك من أجل تغطية نشاطاتها، وذلك حتى تتمكن من تحقيق أهدافها، ودورها في صناعة القرار السياسي العراقي.

٢/ وضع قواعد تشريعية واضحة لنشأة تلك المراكز الفكرية الستراتيجية في العراق: من شأنها أن تساعد على تنمية تلك المراكز وتطور أدائها، ليس هذا فقط بل يجب إعادة النظر في القوانين المرتبطة بتلك المراكز الفكرية، وذلك من أجل إعطائها الصفة القانونية كموجهات وعناصر دعم لصانع القرار السياسي في العراق.

٣/ الاستقلالية وحرية العمل البحثي: لا بد من منح مراكز الفكر الستراتيجية في العراق قدراً كبيراً من الحرية والاستقلالية، بمعنى أن تكون لها الحرية الكاملة في تناولها القضايا السياسية المهمة والحساسة.

٤/ القناعة بأهمية مراكز الفكر الستراتيجية ودورها في صناعة القرار السياسي: حيث أن قناعة صانع القرار السياسي بأهمية تلك المراكز في عملية صنع القرار السياسي يعد عاملا أساسيا في استمرار عملها، ومنحها الثقة اللازمة لتطوير آليات عملها.

الخلاصة:

في النهاية، بعد التطرق لماهية مراكز الفكر الستراتيجية ودورها في عملية صنع القرار السياسي في العراق، خرجت الدراسة بمجموعة من الاستنتاجات الرئيسية والتي تتمثل فيما يلي:

١/ تعد مراكز الفكر الستراتيجية من الضرورات المجتمعية الملحة والمؤسسات التطويرية والنهضوية الرائدة في عالمنا المعاصر، فضلاً عن أهميتها ودورها الفعال في دعم عملية صنع القرار السياسي.

٢/ إن قوة مراكز الفكر تنبع من عمق بحوثها ودراساتها، ومدى قدرتها على امتلاك كفاءات علمية وكوادر بشرية عالية الخبرة ولديها رؤية استراتيجية واستشرافية للمستقبل يمكن أن تفيد بها صانع القرار.

٣/ على الرغم من التنامي العددي لمراكز الفكر في العراق لا سيما بعد عام ٢٠٠٣ إلا أنها لا زالت تعاني من تحديات جمة تحول بينها وبين النجاح الحقيقي في عملها ودورها في عملية صنع القرار السياسي، ولكن في النهاية نذكر بأن هذه التحديات التي تواجه تلك المراكز الفكرية قد تختفي ولكن ذلك مرهون باستخدام الآليات والسبل اللازمة للنهوض بمراكز الفكر الستراتيجية ودورها في عملية صنع القرار السياسي العراقي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2021Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق