الطائفية في معيار موضوعي (ولا أقول معيارها الموضوعي حتى لا أصادر آراء الآخرين في تقييم معاييرهم) وهو معيار موضوعي من وجهه نظري ينص على ان الطائفية تأثرت بقوة بمفهوم العصبة القبلي في أسوأ تحولاته المتطرفة نحو العصبية التي وسمت هوية التعامل القبلي الذاتي، وقد انتقلت في الطائفية من مجالها القبلي الى مجال الدين أو المذهب. وكان انتشارها قد بدأ من خلال الاصولية الوهابية في القرن الثامن عشر بين القبائل في الصحراء وهو دليل على ذلك التواطؤ بين العصبية القبلية والطائفية، فاستعاضت القبيلة البدوية في صحراء الجزيرة العربية عن عصبتها القبلية بعصبيتها المذهبية التي تؤسس معنى الطائفية وترسم حدودها.
وقد لاحظنا في العراق في السنوات الأخيرة عودة انتشارها بين القبائل الساكنة على حدود الصحراء وتفرعاتها القبلية في المدن العراقية، تلك التفرعات الاجتماعية للقبيلة التي وجدت أمامها فرص استقبال المدنية التي تمكنها من العيش في المدينة من خلال استيعابها والتأثر بها، لكن قواعدها القبلية ظلت كما هي بعد أن نزحت الى المدينة من متونها الاجتماعية وهوامشها القبلية.
وبذلك فالطائفية وبمقارنة مفهوم العصبة القبلي في تحوله نحو العصبية يمكن ادراكها من خلال تحليل نشأة ذلك التحول.
فالعصبة في تفسيرها الاجتماعي تعني جماعة المرء التي تشكل بالنسبة له حاضنته وحمايته وضمان عيشه، أنها بالنسبة اليه كل عالمه، لذلك يتحول لفظ العصبة الى معنى عصب الحياة بالنسبة اليه، ونتيجة عزلة هذه العصبة –القبيلة- المكانية فأنه شيئا فشيئا ينغلق على ذاته ولا يعود يعرف من العالم شيئاً سوى هذه القبلية التي تغدو عالمه الشخصي والكلي والمنغلق على ذاته نتيجة العزلة المكانية.. واذا كانت العصبة في تقويمها الاجتماعي العربي ليس شيئاً معيباً بل هي جذر قيمي وتكافلي وتمر حياة المرء قديما فيها بأمان وسلام، فان العصبية التي تنتج في حالاتها لاتنتج عن هذه العصبة بما هي انتماء عرقي – اجتماعي بل تنتج عن الانغلاق على ذاتها والعزلة في مكانها وكون العصبة بمفهومها القبلي تمهد لها. والدين او المذهب اذا حل في هذه العزلة المكانية وعاش انغلاقه الذاتي الذي تمهد له تلك المؤسسات القبلية، فإن العصبية تتشدد في أتباعه وتنال من حس الدين او المذهب الانساني والاخلاقي السامي.
وهو مايفسر لنا ذلك التواطؤ بين المؤسسة القبلية في الجزيرة العربية والحركة الوهابية في تأسيس التشدد المذهبي – الحنبلي ودور هذا التأسيس في غرس الطائفية في منطقتنا وبشكل رسمي على يد أولئك البدو ورؤسائهم القبليين منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر والى يومنا هذا الذي بدا فيه غرس الطائفية آثماً وقاتلاً ومدمراً لحياه المجتمع والدولة بآن واحد. وهي ما تتنافى وقواعد الايمان ودعوات الانبياء التي تلخصها دعوة احد الانبياء (ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب) «هود 88» وكذلك نحيل هنا الى التذكير بإشارة القرآن الكريم الى الاعراب في تأخر دخول الايمان الى قلوبهم "لا تقولوا امنا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان الى قلوبكم" ونذكر ايضاً بأن النبوءات كلها في الحواضر دون البوادي وبين الحضر دون البدو.
هذه الطائفية في نشأتها الاجتماعية والتاريخية في منطقتنا، لكن الى اي مدى كان هذا الحس الطائفي موجود في المدن والحواضر العراقية حصراً؟ يتحدث المؤرخ ابن الاثير في كتابه "الكامل في التاريخ" عن الحروب والمعارك الطائفية بين المحلات البغدادية في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وكان المحرك لهذه المعارك والهجمات الاهلية في بغداد هم الحنابلة، ونجد انصراف كلمة العامة لدى المؤرخين الذين كتبوا عن هذه الحقبة او ما قبلها بقليل الى الحنابلة حصراً وليس كما يقول الباحث العراقي رشيد خيون أن لكل مذهب او فرقة في بغداد كانت لها عامتها الخاصة بها وان العامة لم تكن تعني الحنابلة حصراً، بل مذهب كل المؤرخين ان كلمة او وصف العامة كانت تنصرف الى الحنابلة وللمؤرخ المسعودي وصف رائع ودقيق للعامة في القرن الرابع الهجري يُمكنك من مقارنتهم بأحوال واوصاف جماعات الوهابية والقاعدة وداعش في سوء طباعهم وتجهم وجوههم وتشددهم فيما يدعون من دين.
وهو ما يؤشر او يؤكد ابوية الحنابلة للوهابية والقاعدة وداعش، لكن هل كانت لهم عصبية قبلية تنحو بهم هذا المنحى؟.
لم تتحدث مصادرنا التاريخية عن نزوع قبلي لدى هذه العامة او عصبية قبلية تجمعهم. لكن المخطط الاجتماعي لمدينة بغداد في هذه الحقبة التاريخية المؤثرة جدا كان يقسم اهل بغداد الى حارات ومحلات في اديانهم ومذاهبهم وقد استمر توزيع بغداد على اديانها ومذاهبها حتى نهاية النصف الاول من القرن العشرين.
وطبيعة هذا المخطط او التصميم الاجتماعي لمدينة بغداد يصنع عصبة من نوع آخر هي عصبة (المحلة) ويفرض نوعاً من الانغلاق في هذه المحلة، لاسيما وان الكثير من المحلات في تخطيطها الهندسي تخطط لها بوابات تفتح صباحاً وتغلق ليلاً. ويتفاعل الانغلاق المكاني بقوة مع شعور العصبة - المحلة فيتولد التطرف والتشدد وفي أجوائها نمت الطائفية في بغداد في هذين القرنين. وقد وثق المؤرخون هذا التخطيط السكني -المذهبي في بغداد، فقد كانت محلة الكرخ للشيعة وكانت محلة باب البصرة للسنة ومحلات اخرى كانت لهذا المذهب او ذاك.
ويبدو من دراسة أوضاع هذه المحلات الدينية والاجتماعية ان الكراهية كانت سائدة بينهما وأن ردات الفعل العنيفة كانت تقع بينهم على قدم وساق وبشكل مستمر، لكن في المراجعة التاريخية نجد أن الحنابلة وهم العامة في باب البصرة وغيرهما من المحلات التي تتفق واياها بالمذهب هي المبادرة دائماً الى الاعتداء والهجوم على المحلات الأخرى التي يسكنها من غير طائفتهم.
ولم يكن اعتداءهم على الشيعة فحسب بل شملت الحنفية والشافعية فقد كانت تهاجم مساجدهم وحلقات العلم والدرس لديهم، وقد منعوا تشييع والصلاة على المؤرخ الطبري لأنه معتزلي وخالفهم في الرأي لمجرد قوله ان احمد ابن حنبل محدث وليس فقيه، فحكموا عليه بالخروج على الاسلام. كذلك كانوا قد احرقوا مشهد الامام موسى بن جعفر (ع) حين اختلفوا مع الشيعة وقد آذوا الدولة والمجتمع كما ينقل المؤرخ ابن الاثير ولازالوا الى يومنا هذا يؤذون الدولة والمجتمع في بقاياهم من الوهابية والقاعدة وداعش الذين استمر مفهوم العصبة المناطقية الذي اورث الطائفية فاعلاً لديهم في توريث الطائفية وترسيخها في نفوسهم ولذلك لجأوا الى تهجير الناس من المناطق التي يدخلون اليها في العراق وتصفيتها من غير اتباع ديانتهم ومذهبهم. فقد هجّروا الشيعة والمسيحيين والايزيديين واخلو مناطقهم منهم بدافع تلك العصبة المناطقية- العصبية الطائفية التي ورثوها عن اسلافهم الحنابلة في باب البصرة واقتداء بهم، فقد كان الحنابلة ايضاً يسعون الى اخلاء بغداد من كل من هو خارج على مذهبهم وغير معتقد بصحة قولهم. ومثلما مهد مفهوم العصبة القبلي في تحوله الى العصبية الطائفية كذلك مهد مفهوم العصبة –المحلة الى المذهبية الطائفية. وهكذا تكون الطائفية في تحليل نشأتها هي بمعيار قبلي وعصبوي.
اضف تعليق