السفر متعة لا تضاهيها متعة أخرى، لكن الأهم هو اختيار المكان، فهناك مدن يجذبك عطرها التاريخي ومتاحفها، وأخرى طبيعتها الخلابة وطعامها، ومدن أخرى يجذبك جمال أهلها، واسلوبهم الحضري. هناك من يفضل هذا وذاك، والبشر ألوان في البشرة والاذواق واللسان والطبائع، والكل بما يحبون ويرغبون...

السفر متعة لا تضاهيها متعة أخرى، لكن الأهم هو اختيار المكان، فهناك مدن يجذبك عطرها التاريخي ومتاحفها، وأخرى طبيعتها الخلابة وطعامها، ومدن أخرى يجذبك جمال أهلها، واسلوبهم الحضري. هناك من يفضل هذا وذاك، والبشر ألوان في البشرة والاذواق واللسان والطبائع، والكل بما يحبون ويرغبون.

هناك من تعود على مدن بعينها، وتأسست لهم جذور وصداقات واحلام وذكريات، وهناك من يعشق تجوال المدن الجديدة، وتجريب عوالم تضج بأسرار المكان المجهول، وغرائب لجغرافيا البشر لم نتعود التواصل معها، اما لأنها غير معروفة في خرائط السياحة، او لأنها خارج تغطية مزاج البشر، خاصة ان الجنس العربي تستهويه دائما مطابخ كاملة الدسم، وبشرة بيضاء تسر نظره، وترفع من منسوب طاقته الخيالية، بعد عمر اثقلت سنواته بشرة داكنة، وحياة سوداوية حزينة لا امل بها، وأمكنة مقفرة بالمآسي، ومعيشة مهينة، ومذلة من قوم يحكمون.

افريقيا لا يعرفها العرب الا من خلال صورتها النمطية، والدعاية السوداء التي صنعها الغرب ضد هذه القارة منذ سنوات، فيما يخصّ انعدام الأمان وكثرة النزاعات والجماعات المسلحة والهجمات الإرهابية وانتشار الأمراض والأوبئة والفقر والتخلف الفكري والثقافي، دون أن تتحرك هذه الذهنية قيد أنملة، رغم القفزات الكبيرة التي حققتها الكثير من دول القارة، ونجاحها في استغلال مواردها الطبيعية لدفع الحياة إلى أفضل سبل يمكن توقعها، مما آثر بشدّة على كلّ التوجهات المتعلقة بالسفر والسياحة اللذين يعتمدان بقوّة على درجة الأمان في تلك البلدان. هذا العام، كان امامي خيارات كثيرة لزيارة مدن أعرفها، لكنني كسرت قاعدة السفر والاختيار هذا العام، باختيار افريقيا، ربما بسبب تأثري بما قرأته، وما شاهدته من برامج تلفازية.

كان اختياري لرواندا بلد الالف تل، وعاصمتها كيجالي، من بين دول كثيرة ومعروفة، كجنوب افريقيا وكينيا وجزر المالديف ونامبيا وزامبيا وتنزانيا وزيمبابوي والرأس الأخضر، وكلها مناطق سياحية جميلة، الا لمعرفة السر الكبير الذي تحولت فيها هذه الدولة المعروفة بالفقر والتخلف والحروب الأهلية بين قبيلتي (الهوتو) و(التوتسي) الذي راح ضحيتها ما يقارب المليون ونصف مليون، ومئات آلاف الأيتام والأرامل وأصحاب العاهات المستديمة، وقصص مآس لا حصر لها تقشعر لها الأبدان الى أنظف عاصمة إفريقية، وواحدة من أكثر 10 وجهات سياحية أمانًا في العالم، وأهم الاقتصاديات الناهضة في العالم بمتوسط معدل نمو 7.5 بالمئة. رغم ان هذا البلد لا تتجاوز مساحته 27 ألف كيلومتر مربع ويقترب عدد سكانه من 12 مليون نسمة. ويقوم اقتصاده بشكل رئيسي على زراعة البن والشاي وتصديرهما.

وفي الطريق من المطار إلى فندق الإقامة، لفت انتباهي نظافة الشوارع بطريقة مذهلة، أثارت تساؤلاتي فهل هذه حقاً عاصمة أفريقية، في بلد عصفته حرب أهلية عرقية شردت الآلاف وقتلت الملايين من البشر؟! كما بهرتني التضاريس الجميلة، حيث المرتفعات والمناظر الطبيعية الخلابة، والتلال البديعة، ووفرة الحياة البرية، بما في ذلك حيوانات الغوريلا الجبلية النادرة التى تحظى بشعبية لدى عشاق البيئة.

كلما يذهب يوم، ويأتي يوما آخر، أكتشف اسرارا جديدة، وتجربة انبهار، والفة قوية مع المكان والناس، ودروس عملية في صنع الحياة، ولن أتوقف عن التساؤل عن الكيفية التي تحققت بها تلك المعجزة، وكيف تجاوزت هذه الدولة أهوال الحرب الأهلية والإبادة الجماعية وإرثها في مدة قصيرة، مع كل تلك المعوقات، وكيف حولت الحروب الاهلية، التسامح وقبول الآخر الى ثقافة راسخة، تحت شعار وطني جميل (الحرية والعمل والتقدم)، وكيف تم اشراك المواطنين في صناعة الانجاز لتوليد الإحساس الدائم لديهم بالمسؤولية تجاه هذا الإنجاز ودفعهم للمحافظة عليه؟ نعم رأيت تجربة مثيرة للدهشة، لشعب قبلي جاهلي، صنع لنفسه ماركة دولية مسجلة في ابتكار الحروب الاهلية والقتل الجماعي، ثم استفاق ليصنع معجزة في بناء السلام والتسامح وقتل اليأس، ومغادرة الجهل الى العقل المتمدن، فألغى الماركة القديمة القبيحة بماركة الجمال وسياسة (الاتحاد والمصالحة) والاعتراف بخطأ الجرم القديم وفق نظام قضائي تقليدي يعرف باسم (غاكاكا)، أمكن بموجبه التعامل مع مئات الآلاف من الأشخاص المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، وتحقيق التسامح بين الناس واستئناف العيش المُشترك.

ومثلما قال لي احد الروانديين لم تكن الدولة في ذلك الوقت بحاجة إلى إعادة بناء الدولة، أكثر من إعادة بناء الأطفال، نفسياً وفكرياً وعلمياً لمواكبة توجهاتها الرامية إلى بناء العقل المحاط بالرحمة، وحب البشرية، والرغبة في تطوير كل جوانب الحياة التي تتأثر بها.

ومثلما كان الرواندي له دور في صنع الانجاز، فأن رئيسها القوي(كاجامى) كان له الدور البارز في تحقيق مجد كبير لهذا البلد الصاعد بقوة. وبقدر ما استمتعت بأيام الرحلة والتجوال، فقد كان جرح العراق يتوسع جرحا نازفا في سويداء القلب، وانا ارى تجربة هذا البلد الافريقي، واقارنه بمرض عراق اليوم واحزانه وخرابه، كنا زمانا نتصدق على هذه الدول بسبب فقرها وتخلفها، وكانت هذه الامم ترى فينا قدوة الدول والحضارة، فسبحان الله مغير الاحوال! كنت احلم بمشهد ان اضع كل السياسيين الذين يحكمون البلد بالجهالة والتخلف والطائفية في سيارات جمع النفايات، واقذف بهم في شوارع روندا ليتعلموا درس الانجاز والتمدن من الافريقي الذي كان يوما ما موضع الاستهزاء والتندر.

عشرة ايام من تجربة السياحة الراقية، والطبيعة الخلابة، والرقي في التعامل البشري، واثراء في المعرفة والدروس، وانبهار في التجربة الرواندية، واعجاب بنظافة المدن والعقول، حتى كدت لا اصدق انني في بلد افريقي .كانت على حق صحيفة (الغارديان) الفرنسية التي وصفت العاصمة كيجالي بأنها انظف من نيويورك ولندن، وتم تصنيفها ضمن الأنظف في العالم بعد مدن مثل وارسو وستكهولوم وسنغافورة.

كنت سعيدا بسفرة الدروس والتجارب، لكنني كنت مريضا بالمقارنات بين بلد افريقي متخلف انجز معجزة تفوق الوصف، وبين بلدي الذي اندثر فيه جمال الرافدين، وكنوز المعرفة، ولم يعد مانقوله بين المقارنات والمترادفات سوى القول: والله يازمن !

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق