إدارة بايدن الحالية هي بحالٍ معاكس لما كان عليه ترامب في العلاقة مع مؤسّسات الدولة الأميركية المعنية بالسياسة الخارجية، والتي تشمل أيضًا وزارة الخارجية، بل يمكن القول إنّ الإدارة الحالية هي إدارة هذه المؤسّسات، فما ستضعه من إستراتيجيات هي التي سيسير عليها البيت الأبيض...

تميّزت حقبة الإدارة الأميركية السابقة بتباينات عديدة في المواقف بين ما كان يريده ويُصرّح به الرئيس السابق دونالد ترامب وبين ما كانت عليه سياسات "البنتاغون" وأجهزة المخابرات. وقد ظهر ذلك جليًّا في سياسة ترامب تجاه كوريا الشمالية ومسألة الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان وسوريا، إضافةً طبعًا للخلاف بين ترامب وبين المؤسّسات الأمنية والعسكرية في تقييم دور روسيا بانتخابات العام 2016.

إدارة بايدن الحالية هي بحالٍ معاكس لما كان عليه ترامب في العلاقة مع مؤسّسات الدولة الأميركية المعنية بالسياسة الخارجية، والتي تشمل أيضًا وزارة الخارجية، بل يمكن القول إنّ الإدارة الحالية هي إدارة هذه المؤسّسات، فما ستضعه من إستراتيجيات هي التي سيسير عليها "البيت الأبيض".

ولعلّ ما أشارت إليه صحيفة "واشنطن بوست" يوم 13/3/2021 من إمكانية تأجيل موعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان لمدّة سنة، لمثال على ما سبق ذكره. فإدارة ترامب السابقة كانت تضغط على "البنتاغون" لتحقيق الانسحاب الأميركي من أفغانستان قبل السنة الانتخابية في العام الماضي، ووصل الأمر إلى حدّ دعوة ترامب لقادة "طالبان" للمجيء لكامب ديفيد من أجل توقيع الاتّفاق معها، لكن ذلك لم يحصل بسبب ضغوطات كبيرة من الكونغرس والمؤسّسات الأمنية والعسكرية، وجرى الاستعاضة عن ذلك بتوقيع اتّفاقٍ في الدوحة منذ سنةٍ تقريبًا، تضمّن جدولًا زمنيًا لانسحاب قوات "الناتو" إبتداءً من شهر مايو في هذا العام، وهو ما لن يتمّ الآن تنفيذه.

فوزارة الدفاع الأميركية لا تجد بأنّ الظروف الأمنية والسياسية الحالية في أفغانستان تسمح بانسحاب قوات "الناتو"، حيث ما زالت "طالبان" تقوم بعمليات عسكرية وتفجيرات أمنية في أماكن مختلفة، ولا تقبل عمليًا بالشراكة في السلطة مع الحكومة الحالية، ويتّهم "البنتاغون" حركة "طالبان" بأنّها ما زالت تتعاون مع جماعات "القاعدة". لكن ربّما يكون السبب الحقيقي لسعي "البنتاغون" لتأجيل الانسحاب هو عدم تكرار تجربة الانسحاب الأميركي من فيتنام في حقبة السبعينات، حيث انتهى الأمر هناك بعد خروج الأميركيين بسيطرة الشيوعيين على عموم فيتنام.

وقد كشف استطلاع رأي أجرته مؤخّرًا وكالة أنباء "باجهوك" الأفغانية عن سيطرة "حركة طالبان" على 52% من البلاد، مشيرةً إلى أن 59% من السكّان يعيشون في مناطق سيطرة الحركة. وأظهر الاستطلاع الذي جرى بين 30 نوفمبر 2020 و3 فبراير 2021، أنّ الحكومة تسيطر على 46% فقط من الأراضي الأفغانية، وأنّ الـ2% المتبقية تخضع لسيطرة أطراف أخرى. وأشار الاستطلاع إلى أنّ المناطق الواقعة تحت سيطرة "طالبان" تبلغ مساحتها 337 ألف كيلومتر مربّع، في حين تبلغ مساحة المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة 297 ألف كيلومتر مربّع.

لقد كان الاتّفاق الذي وقّعته إدارة ترامب السابقة مع "طالبان" مفصلًا مهمًّا في سياق الحرب الأميركية في أفغانستان التي بدأت قبل 20 سنة، وهي أطول حرب تخوضها الولايات المتّحدة في تاريخها. فما تضمّنه الاتّفاق يعني قبولًا أميركيًا بتسليم السلطة مستقبلًا لحركة "طالبان" وبسحب "قوّات الناتو" من أفغانستان خلال 18 شهراً مقابل تعهّد "طالبان" بعدم السماح لأنشطة "القاعدة" و"داعش"، وأيضاً للمسلّحين الانفصاليين البلوش، الناشطين في جنوب غرب أفغانستان، من استخدام هذه المنطقة كمنطلق لهم في عملياتهم ضدّ باكستان المجاورة.

ولوحظ في المفاوضات السابقة عدم مشاركة حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني الذي عبّر عدّة مرّات في السابق عن امتعاضه من الموقف الأميركي، ومن عدم مشاركته في المفاوضات، ولغياب التنسيق مع حكومته، خاصّةً أنّ "طالبان" لا تعترف حتّى الآن بكل الوضع الدستوري والسياسي الذي جرى في أفغانستان بعد الغزو الأميركي.

لقد فشلت الولايات المتحدة في إنهاء حركة "طالبان" بعد إسقاط حكمها في نهاية العام 2001، ولم تنجح المراهنة الأميركية على إقامة "حكم بديل" يستقطب الأفغانيين ويعزل الحركة، رغم كل المحاولات والخسائر البشرية والمالية في حرب أفغانستان على مدار عقدين من الزمن. وكانت المبرّرات الأميركية في السنوات الأولى للحرب هي القضاء على حركة "طالبان" التي كانت تدعم بن لادن و"القاعدة"، ووفّرت لهما ملاذًا آمنًا قبل سبتمبر 2001، لكن ما هو مهمٌّ للإستراتجية الأميركية الآن يتربط بأهمّية الموقع الجغرافي لأفغانستان وجوارها لإيران ولباكستان الدولة النووية ولجمهوريات من الاتّحاد السوفييتي السابق، ولما فيها أيضًا من ثرواتٍ طبيعية.

إنّ تداعيات حرب أفغانستان جعلتها تُشبه إلى حدٍّ كبير الحرب الأميركية على فيتنام في القرن الماضي، والتي سبّبت خسائر كبيرة للولايات المتّحدة، وانتهت بمفاوضاتٍ في باريس أدّت إلى الانسحاب الأميركي وتسليم الحكم إلى من كانوا يحاربون أميركا من ثوّار فيتنام الشمالية "الفيتكونغ"، وإلى التخلّي عن حكومة فيتنام الجنوبية المدعومة من واشنطن.

وحرب أفغانستان هي الحرب الثانية، بعد العراق، التي "تخسرها" الولايات المتحدة في هذا القرن الجديد، لكن دون أن يؤثّر ذلك على القوّة العسكرية الأميركية المنتشرة في العالم، وعلى تفوّقها النوعي والكمّي على أيِّ دولةٍ أخرى. فما زالت الميزانية العسكرية الأميركية هي الأضخم بنسب كبيرة مقارنةً مع ميزانيات الدفاع لدى القوى الكبرى الأخرى. فالميزانية العسكرية الأميركية هي حوالي 10 أضعاف الميزانية الروسية وحوالي أربعة أضعاف الميزانية الصينية. ولم تكن خسارة أميركا في فيتنام مبرّرًا لخفض الإنفاق الأميركي على المؤسّسة العسكرية أو سببًا لانسحاب أميركا من الأزمات العالمية أو لعدم خوض حروبٍ جديدة. ومن هنا يمكن فهم تأجيل الانسحاب من أفغانستان وتعزيز الانتشار العسكري الأميركي في آسيا.

فصحيحٌ أنّ الولايات المتحدة قد فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها ومشاريعها في حروب وصراعات مختلفة حدثت في الماضي. وصحيحٌ أيضًا أنّ هناك سعيًا روسيًّا وصينيًّا دؤوبًا لتكريس نظام متعدّد الأقطاب في العالم. وصحيحٌ كذلك أنّ عدّة دول في قارّات العالم تحبّذ الآن حصول تعدّدية قطبية. لكن هل تتصرّف أميركا الآن على أساس وجود تعدّدية قطبية في العالم، أو هل سلّمت واشنطن، في الحدّ الأدنى، بهذه المتغيّرات الدولية الجارية حاليًّا؟، لا يبدو ذلك حتّى الآن!.

مدير مركز الحوار العربي في واشنطن *

................................................................................................................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق