على الرغم من كل ما رافق احتجاجات تشرين الماضية وانتهت اليها، الا انها تكاد أن تكون انقلابا على الوعي الذي حاول سياسيو بعد 2003 إرساءه في البلاد. ومثّلت تلك الاحتجاجات صعودا مدويا لجيل ثالث من اصناف الوعي العراقي في التعامل مع مشروعي بناء الدولة والأمة العراقيتين...
تمهيد:
على الرغم من كل ما رافق احتجاجات تشرين الماضية وانتهت اليها، الا انها تكاد أن تكون انقلابا على الوعي الذي حاول سياسيو بعد 2003 إرساءه في البلاد. ومثّلت تلك الاحتجاجات صعودا مدويا لجيل ثالث من اصناف الوعي العراقي في التعامل مع مشروعي بناء الدولة والأمة العراقيتين.
مدخل نظري للتفسير والفهم:
يمكن تصنيف استجابات الناس الوظيفية حيال النظام (أياً كان شكله) الى انماط متعددة بالاعتماد على معيارين اساسيين: الاول- (الأهداف) وهي تلك الغايات التي يعرّفها النظام لنفسه. والثاني- (الوسائل) وهي تلك الأدوات التي يشرعنها النظام من اجل تحقيق أهدافه.
وبناءً على هذين المعيارين تنقسم استجابات الأفراد المتفاعلين مع النظام والمحسوبين عليه الى خمسة أنماط:
1- النمط المتكيّف: وهم الأفراد المنسجمون مع النظام بأهدافه ووسائله. وهذا النمط متفاعل متآلف مؤثر ومتأثر بالنظام بشكل مريح ووفق سياقاته المعرّفة مسبقا.
2- النمط المبتكر: وهم الأفراد المنسجمون مع النظام بأهدافه دون وسائله. ويرفض هذا النمط من الافراد الوسائل المشرعنة المقدمة من قبل النظام مقدمين بدائل لها. وهؤلاء لا يتوانون عن نقد النظام، الا انهم يرغبون بالحفاظ على كلّيته وانسجامه وبقائه.
3- النمط الطقوسي: وهم الافراد الملتزمين بالوسائل، الممارسين لها في حياتهم اليومية، لكنهم يرفضون اهداف النظام ويرغبون بتغييرها. وعلى الرغم من تحفّزهم للمساهمة بتغيير الاهداف الا انهم يفضلون الاستمرار بالأدوات المتاحة ضمن النظام نفسه.
4- النمط المنسحب: وهم الأفراد الرافضين للأهداف والوسائل معا. وهؤلاء يفضلون العزلة والانسحاب عن الحياة أو التفاعل مع المحيط بشكل كامل.
5- النمط المتمرد: وهم الافراد الرافضين للأهداف والوسائل معا، لكنهم يقدمون بديلا لتلك الاهداف والوسائل التي يطرحها النظام. هؤلاء هم الثوريون المعارضون للنظام بكلّيته، والمتفائلون بوجود بديل يحل مكانه.
تصادم الأجيال: هل سيقوى النظام السياسي على الاستمرار؟!
تسنّم الجيل الأول من السياسيين العراقيين زمام السلطة بعد 2003، متعكّزين على شرعيتين اساسيتين: الاولى- مناهضة البعث ومعاداته بوصفه الشر المطلق الذي قضى على فرص بناء الدولة والأمة في العراق، ممارسا شتى صنوف القتل والحرب والتجويع بحق العراقيين. والثاني- النظام الديمقراطي البديل للدكتاتورية الذي يعتمد صناديق الاقتراع. وبهاتين الشرعيتين وبمعية الشرعية الدولية اكتسب النظام السياسي الجديد مشروعيته (بمعنى مقبوليته من قبل العراقيين) ضمن مسيرة واجه خلالها الأعداء الارهابيين من التحالف البعثي مع تنظيمات القاعدة والمتطرفين.
وشكّلت المعارضة السياسية قبل 2003 من الاسلاميين المبعدين والحزبين الكرديين عماد الجيل الأول، وهو جيل حمل معه تأريخ نضالي طويل ضد الدكتاتورية، وهو جيل اكتوى بلظى نار التمييز الطائفي والقومي، وهو المرتاب دوما من التحالفات الاقليمية والدولية التي طالما اجهضتا احلام العراقيين بمعيّة النظام السابق.
وبذلك شكّل الانتماء الديني/المذهبي/القومي هاجسا لهذا الجيل الذي لم يتوان عن الاحتماء بهذه الهويات وتصديرها في خطابه اليومي، ضمن الوعي والتوعية التي ميّزت هذا الجيل.
وبالطبع هذا الجيل تكيّف بشكل كامل مع النظام السياسي الجديد الذي وفّر له كل ما يلزم من مال وسلطة ومكانة وشعور بالأمان، ما يجعل الصنف الاول (نمط المتكيفين) ينطبق بشكل واضح على الجيل الأول. ومن نماذج ذلك قوى سياسية على سبيل المثال لا الحصر: (حزب الدعوة الاسلامية، المجلس الاعلى الاسلامي، الحزبين الكرديين، الخ).
وفي مقاطع زمنية مختلفة وبضغط من الشارع سعت قوى سياسية تشكّلت من رحم الجيل الأول الى أن تكون مختلفة عنه، وذلك من خلال رفضها لبعض الوسائل التي ينتهجها النظام دون ان يصل ذلك حد رفض الاهداف. ومن نماذج تلك القوى على سبيل المثال لا الحصر (تيار الحكمة، النصر، الخ).
والى جانب الجيل الاول كان الجيل الثاني من الشباب الذين تربّوا كثير من رموزه خارج البلاد، وهم القريبون من الجيل الأول في الهموم، والشعور بفداحة الاجرام الذي مارسه النظام الدكتاتوري السابق. لكن هذا الجيل وفي الوقت نفسه كان بعيدا عن الجيل الاول تنظيميا وتكوينا ثقافيا. ولعل فارق العمر الى جانب الانتماء التنظيمي أبعد هؤلاء عن مواقع السلطة، لكن ذلك جعلهم عماد الوعي الثقافي الجديد في عراق ما بعد 2003. فكان من الجيل الثاني المثقفون والناشطون والعاملون في منظمات المجتمع المدني والاعلاميون والمشتغلون في المؤسسات والمديرون لوسائل الاعلام والفاعلون في مواقع التواصل الاجتماعي والمدوّنون، الذين وجّهوا الرأي العام.
ان المكانة الاجتماعية وقرب الجيل الثاني من الشارع الذي صار يتحسس بمرور الوقت فشل الجيل الاول في ارساء دولة تخدم المواطنين، جعل الجيل الثاني يرفض اهداف النظام وأسسه، لكن وجود الامتيازات التي شكلتها (التواجد بالقرب من السلطة والإرتزاق منها أو من خلالها) كان دافعا لهذا الجيل نحو الالتزام بالوسائل المشرعنة سلفا، ما جعل هذا الجيل ضائعا حائرا هجينا منقسما في ذاته نحو السلطة ونحو المجتمع. وبذا يمكن تصنيف هذا الجيل بالجيل الرمادي الطقسي الذي يمارس حياته كما هو مطلوب من السلطة، لكن من دون قناعة بها.
وقد حمل الجيل الثاني شعار إصلاح النظام أساسا في التوعية اليومية والمظاهرات المتعددة التي قادها بدءا من 25 شباط 2011 وصولا الى الذروة في تموز 2015.
بدأ الجيل الثاني مسيرته في الوعي والتوعية والرؤية نحو بناء الدولة والأمة، طقوسياً (أي النمط الثالث من انماط الاستجابة للنظام) ممارساً للادوات الديموقراطية ومنسجما مع كلّية النظام وأساسه، من دون أن يصل ذلك حد الايمان بأهدافه. وقد رفض الجيل الثاني المحاصصة الطائفية والقومية، داعيا الى ابعاد تأثيرات الدين عن الدولة ضمن نظام مدني يحترم الدين والانتماءات، أو من خلال نظام علماني يبعد الدين وباقي الانتماءات عنه بشكل كامل.
وقد كان لفشل الاصلاحات بُعيدَ 2015 الأثر البالغ على الجيل الثاني، دافعا اياه الى أتون اليأس والعزلة، والتي بانت على شكل الدعوات لمقاطعة الانتخابات التي جرت في 2018 الماضي. وهكذا انتقل الجيل الثاني من النمط الطقوسي الى النمط الانعزالي المنسحب من الحياة والرافض للمشاركة في المجال العام.
ورغم كل ذلك فإن الجيل الثاني يتميز بضعف التنظيم أو انعدامه في غالب الاحيان. فما يربط ابناء هذا الجيل هو عالم المُثُل والافكار اكثر من تنظيمات مدنية او سياسية محددة. وتحرر هذا الجيل من الانتماء الايديولوجي جعله يرتمي بحضن السلطة (الجيل الاول من المتكيفين او المبتكرين) كلما سنحت له الفرصة لذلك. فيما بدا مشيعا للانسحاب للحياة كما في دعوات الكثير من المدونين.
ولا يزال هذا الجيل هو المصدر الاساس للافكار الاصلاحية التي يستمد منها جميع الفئات المستجيبة للنظام، على الرغم من شعور ابناء هذا الجيل بفداحة الخسارة جراء تعليقهم آمالا عريضة على نظامٍ تصدّر قوائم الفشل في جميع المؤشرات.
وبعد مرور 17 عاما على لحظة سقوط الدكتاتورية وفي ظل معدلات عالية من الزيادة السكانية تشكّلت معالم جيل ثالث جديد يبلغ من العمر 15-25 عاما حاليا. جيلٌ لا قِبَلَ له بالماضي، ولا يحمل مشاعر تجاه الحكم البعثي السابق، ولا ذكرى واضحة له عن الصراع الطائفي، ولا شأن له بالتخوفات والارتياب او الشعور بالامتنان او الانقياد او التبعية للمجتمع الدولي او الدول الاقليمية.
وتشير الارقام الرسمية الى ان مجموع من هم دون 35 عاما في العراق يؤلّفون 60% من سكان البلاد، ما يعطي تصورا اولياً عن حجم الجيل الثالث، الذي تربّى في ظلّ شتّى صنوف الوعي المتضارب والمتناقض في الساحة: وعي ديني طائفي قومي يبثّه الجيل الأول، ووعي اصلاحي يبثه الجيل الثاني انتهى الى اليأس والقنوط والدعوة الى الانسحاب من المجال العام، وبالتزامن مع تطلعات واحلام بزغت بفعل التواصل مع العالم صوراً للحياة وأساليب للعيش ورخاء في المأكل والملبس والخدمات، وتقدّم في مكانة الدول القريبة فضلا عن البعيدة.
لا تمثّل لحظة 2003 للجيل الثالث شيئا يذكر! فقد نمّا هذا الجيل عواطف ومشاعر خاص به ضمن تعبيرات جسدية وفنية وكلامية لا يفهمها الا مَن هم من هذا الجيل غير المؤمن بالقيم التي سعى اليها آباؤهم من الجيل الأول. إنه الجيل الثوري الذي يطالب بسقوط النظام، وهو النمط المتمرد الخامس من اصناف الاستجابة المجتمعية للنظام.
كانت لحظة تشرين الاول 2019 اعلانا رسميا لانبعاث الجيل الثالث. وقد رفض هؤلاء أن تكون للاحتجاجات قادة. ولعل السبب هو ان هذا الجيل الشاب وبحكم فارق العمر والثقافة والخبرة، يدرك أن القبول بقادة للتظاهرات سيعني القبول بتسلط الجيل الرمادي الثاني على مجريات الاحتجاج! وطالما سعى الجيل الثاني ان يكون جسرا بين الجيلين الاول والثالث عبر اقتراح منطق خاص للاحتجاجات تمثلت ببرامج مثل: (الدعوة لتغيير قانون الانتخابات، واعادة تشكيل مفوضيتها، وتقليل امتيازات المسؤولين، واجراء اصلاحات اقتصادية، واعادة النظر بالعلاقات الاقليمية وغيرها). فقد كانت هذه المطالب التي تصدرت الاحتجاجات من صُنع واقتراح الجيل الثاني، من دون ان يعني ذلك بالضرورة تبنيها من الجيل الثالث الذي رفع شعار اسقاط النظام! وظهرت مطالب هؤلاء من خلال رفض كافة المرشحين البدلاء لرئيس الوزراء المستقيل، والاصرار على التواجد في ساحات الاعتصام لمدد طويلة.
لا شيء يمنع عودة الجيل الثالث وبزخم أقوى الى الشارع. فالأغلبية المتضررة من كلفة الاصلاح الاقتصادي (تخفيض قيمة العملة، تخفيض الرواتب، وقف التعيينات، استمرار الفساد الخ) ستكون داعمة هذه المرة لمطالب هذا الجيل وشعاراته.
وبالنظر الى أن نحو 20% من مجموع الناخبين في الانتخابات القادمة سيدلون للمرة الاولى بأصواتهم، وبالنظر الى أن سلوك هذه الفئة غير معروف حتى الآن حيال المشاركة من عدمها في الانتخابات، وتزامنا مع اليأس العام المستشري بين المواطنين وايمانهم المتزايد بعدم جدوى العملية الانتخابية في احداث التغيير، واستدعاءً لما جرى بفعل المشاركة المخيبة للآمال للناخبين في 2018 والتي انتهت الى احتجاجات 2019، يمكن اقتراح التساؤل/الفرضية الآتية:
هل إن نسبة المشاركة في انتخابات 2021 -(مؤشر لاستمرار الثقة بالنظام)- ستكون الفيصل المحرّك للجيل الثالث في هَبّةٍ لا تبقي ولا تذر شيئا من النظام في قادم الأيام؟!
احذروا الجيل الثالث!
اضف تعليق