آراء وافكار - مقالات الكتاب

الحاكم المنتظر

ان يكون أيقونة التسامح حاضرا في بناء الوطن، ولا نتردد من القول بأننا نريد حاكما عراقيا لا ينتظر لسنوات ما ينتظره الآخرون بأحلام التاريخ، انما حاكما متحضرا وَعَصْرِيًّا يبدأ بالقانون، ويتسلح بالإدارة الحديثة رغم أعاصير الدولة العميقة المتخلفة، نريده أن يبني لنا بيتا عراقيا للجميع...

السياسة العراقية لا دين لها. فهي مثل العاصفة، فإما أن ترفع السياسي وإما أن تدفنه. وهي بلا رحمة ولا أخلاق ولا دين. فلا مفاتيح لها ولا مغاليق. وهي عصية على الفهم؛ لأن فيها أكثر من لاعب وهدّاف، وفيها من الحمقى الكثير ضد حركة التاريخ ودروسه، وينطبق عليهم قول ونستون تشرشل: (يعيد التاريخ نفسه؛ لأن الحمقى لم يفهموه جيداً). والسياسة عندنا أصبحت مثل الأوصاف الشعبية في الكورونا؛ مكونات الليمون مع الخل وقليل من الثوم، أو كثير من الثوم مع الملح، وبعض من عسل النحل مع حبة البركة. وهي وصفة تصلح أن يتناولها الحاكم لكي يفهم ماذا يريد الشعب المثخن بجراح صبيان السياسة.

دخول الحاكم إلى موقع المسؤولية لن يكون أمرا سهلاً. ولا يصح له الخروج منها دون فعل مؤثر. فلا حاجة للعراق بعد كل هذا التدمير والكوارث والركام والمظالم إلى قنابل صوتية في الاجتماعات الرسمية أو البيانات الإعلامية الرنانة. ولا سياسة التخدير القائمة على الخديعة، والمكر المركب، ودغدغة المشاعر، لأن الذاكرة العراقية ليست مثقوبة. وينبغي التوقف عن الاستخفاف بالذات والذهنية العراقية.

الكاظمي خاض تجارب كثيرة بين أهله. وأجريت له امتحانات صعبة. نجح في القليل منها ورسب في الكثير. واختلف المؤيد والمعارض على أفعاله وممارساته. لكنه مازال يترنح بين القال والقيل، والفعل واللا فعل، والأقدام والتراجع السريع، والبطولة السريعة والخنوع المخفي. أعطى بعض الأمل للجميع، لكنه أمل يحتاج إلى ثورة حقيقية وليس إلى مفرقعات صوتية وآمال خادعة.

قدر المواطن العراقي أن يعيش منذ سنوات مع حاكم مهووس بالسلطة والمال. غارق في وحل الغيبيات والعمالة واللصوصية. لا نرى جسورا حقيقية بين الحاكم والمواطن. فالحاكم فكره أصلب من الصوان، متسلط قاهر ومستبد، وعلمه محدود القواعد والبنيان. وهناك مواطن بلا مواطنة، وقانون بلا عدالة، وعيش مليء بالأكدار والمصائب والبلايا. مصاب بفقر الأمل والمستقبل ومناعة الصدمات. ينتظر من يكشف له الضوء في آخر النفق ويحقق له طموحاته في العيش الكريم، ويعيد له السيادة المستلبة. وينشر له القانون بعيداً عن الدولة العميقة ومليشيات القتل والموت.

هناك يا صاحبي، جنوبي مصاب بالحسد، ومظلوميته اكتوت بذوي القربى (وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً ** على المرءِ مِن وقْع الحسام المهند)، حيث تسحق إنسانيته بالجوع والفقر والبطالة، وتنهب ثرواته، وتسمم أسماكه، ويقتل بالأفيون! وشماليٌّ لا يجد من يحميه، يستيقظ صباحاً على مدينته ليجدها نصفها مدمر، والنصف الآخر تحت انتداب الغريب! وشرقيٌّ تُقطّع بساتينه وتحرق مزارعه، وتسرق ثرواته، وتسلب هويته! وغربيٌّ يبحث عن نصف أهله في سجون الوطن، وخيمات الذل والتهجير، ومكتوب عليه "مُواطنٌ تحت التجربة"!

لعلها مفارقة لافتة للعراقيين؛ أن يكون الحاكم العراقي مهووسا بالعرّابة الدينية التي تحدد طريقة حكمه وصلاته وقبلته واختياراته، وتبرّر أفعاله وسجونه وقتله للآخرين. بل صار الموتى يُقَرِّرُونَ حياتنا ونظامنا وطقوسنا، ويؤسسون لنا نظامنا الزواجي، ومساحة قبورنا، وطريقة تفكيرنا، ويختارون ملابس نسائنا وزخرفة عيونهم. لم نعد نعيش إلا في دولة التوحش والقبور والبيوت الطائفية وخيم القبائل!

كان حدسي أن الكاظمي، الرجل الهادئ، سوف يفعل بعض الشيء، ما لم يفعله السابقون الصامتون عن الحق. لأنه ليس ابناً لحزب، وليس من مافيا السياسة والفساد، بل يصر على أن يكون من حزب الشعب كما قال أكثر من مرة. لكن الأمنيات شيء والواقع شيء آخر. صحيح أننا لم نكن نريده أن يمسك عصا موسى ليغير الأحوال بسرعة البرق. لأننا نعرف ما ترك له الجهلة من حمل مداه ثقيل، وبلاؤه وبيل.

فهو يجلس اليوم في صحراء جرداء لا زرع ولا اقتصاد ولا مصانع ولا حياة صالحة للبشر.وانما كنا نريده أن يسقط الدولة العميقة بالحكمة العراقية، وأن يعيد للوطن هيبته بتجميع السلاح المنفلت، وتعطير الوطن بالقانون والعدالة الاجتماعية. لأن ما عانه الشعب ملحمة من الحزن مع الرعاع طيلة هذه السنوات العجاف.

فالعراقي بالمزاج والتجربة والوطنية يريد حاكما وطنيّاً في وطن حر. وزاهداً، يبني وطناً معطّراً بالمواطنة، وعدالة اجتماعية. وبيتاً عراقيّاً واحداً، لا بيوت شيعية ولا سنية ولا مسيحية. ولا أوقاف دينية تتنابز بالألقاب، يريد وقفاً عراقياً واحداً يجمع كل الأديان. وعراقاً سيّداً لنفسه لا محكوما من الخارج.

بالعربي الفصيح، يريد الشعب أن يكون الحاكم منقذاً للعراق، بأفعال رجل دولة، لا مجرد ظاهرة صوتية. وإن يجعل القانون هو السيد الأول، الكل سواسية أمامه. وإن يجعل السلاح المنفلت سلاحاً للشعب وليس لقتله. وإن يقلع جذور العملية السياسية من أساسها بانتخابات مبكِّرةٍ للخلاص من الوجوه القديمة الكالحة التي قتلت جمال العراق وهيبته، وجعلته في آخر الأوطان. وإن يفتح ملفات الفساد بقوة، فيبدأ من الأعلى إلى الأسفل، ويعيد المليارات التي سُرقت، أو جرفت كرواتب رفحاوية وحزبية وجهادية! والأهم من كل ذلك أن يثأر لدماء شهداء الوطن من الشباب الذي قتلتهم الحكومات السابقة والمليشيات بدم بارد. وأن يكون مانديلا أيقونة التسامح حاضرا في بناء الوطن.

لا نتردد من القول بأننا نريد حاكما عراقيا لا ينتظر لسنوات ما ينتظره الآخرون بأحلام التاريخ.انما حاكما متحضرا وَعَصْرِيًّا يبدأ بالقانون، ويتسلح بالإدارة الحديثة رغم أعاصير الدولة العميقة المتخلفة. نريده أن يبني لنا بيتا عراقيا بلا طوائف وقوميات وأديان.

سأقول كلاماً وأمضي بمنطق العقلانية السياسية: لا نريد أن يستمر الوطن مختبراً لتجارب حاكم جاهل وَغَيْبِيّ بالجينات والولادة. ولا أن يكون الوطن وصفة شعبية لعطّار سياسي ساذج يقول لنا بأن خلاص الوطن هو قطعة خضراء من القماش، وبصقة جاهل للشفاء، وعباءة سوداء فيها البركة. وآخر يقول لنا: كثير من الكمّون مع قليل من الخلّ، وكثير من زيت الزيتون، لأن العراق هو الوصفة السحرية الوحيدة للبقاء! بابل فينا وآشور لنا، والعراق فينا ولنا!

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
أنا اريد، والشعب يريد، وذاك يريد، وهذا يريد...!!! وماذا عن مسؤوليتي؟ ومسؤوليتك إزاء ما يجري؟ نعم؛ نحن جاهزون للتسقيط، وإحصاء الاخطاء، ورسم الأحلام الوردية، "فالعراقي بالمزاج والتجربة والوطنية يريد حاكما وطنيّاً في وطن حر. وزاهداً، يبني وطناً معطّراً بالمواطنة، وعدالة اجتماعية"، ثم ننسف "الغيبيات" و"العباءة السوداء" وكل القيم التي أنقذت شعوب وأمم منذ آلاف السنين، ويبدو أن العراق هو البلد الوحيد على مر التاريخ الذي لا تفيده هذه القيم. "عجيب أمور غريب قضية"2020-12-16