الحشد الشعبي.. جيش شيعي بإمتياز.. فصائل عراقية عقائدية مؤمنة مقاومة تنتمي شكلاً ومضموناً الى مذهب أهل البيت.. تتحرك في إطار الواجب الشرعي والوطني الذي تحدده فتاوى الفقهاء وإرشاداتهم. أبناؤه من خيرة رجال الفرات الأوسط والجنوب.. أبناء التاريخ المليء بالدماء والدموع، وورثة المضطهدين والمقتولين والمهجرين والمطاردين والمعتقلين والمعذبين والمدفونين في المقابر الجماعية؛ منذ 1350 عاماً وحتى الآن. أبناؤه الطيبون أحفاد العراقيين الأصلاء من سومريين وبابليين ومناذرة وفيليين وسادة علويين وعرب حجازيين ويمانيين. عراقيون أصلاء عانوا ظلم المحتلين والوافدين الأمويين والعباسيين والسلاجقة والأيوبيين والمماليك والعثمانيين والترك والشركس والقوقازيين.
هذه هي حقيقة الحشد الشعبي دون مواربة، وهؤلاء هم خصومهم التاريخيين، دون الإختباء وراء المصطلحات الضبابية والمفردات الدبلوماسية العائمة التي يستخدمها بعض السياسيين الشيعة المرعوبين أو الطامعين أو المخدوعين أو المناكفين أو المكابرين أو المشاكسين؛ لتحقيق أهدافٍ تنسجم وخياراتهم الشخصية والفئوية؛ وهي أهداف تمرر على حساب المواطن الشيعي المهمّش وحاضره ومستقبل أولاده وأحفاده. وأيضا دون هواجس الإتهامات التي يكيلها معظم السياسيين السنة للحشد الشعبي؛ وهم مسكونون بحلم العودة الى الوراء.. الى الدولة العراقية التي كانوا يتفردون بملكيتها وحكمها وإدارتها طيلة مئات السنين، ومسكونون بمعالجة صدمة أن يكون حاكم العراق والقائد العام للقوات المسلحة شيعياً ملتزماً ومتمظهراً بشيعيته. والأنكى؛ أن يكون للحشد الشعبي الشيعي مستشارون إيرانيون شيعة، ويكون مدعوماً من إيران الشيعية.
ولكن؛ ماذا لو كان أفراد الحشد الشعبي من السنة؟. دون شك سيوصفون بأنهم رمزٌ للرجولة والبطولة والتضحية والوطنية والأمانة والشرعية؛ حتى لو كانوا من بنغلادش والشيشان وتركستان؛ وكان لهم مستشارون من سيريلانكا ومنغوليا وكوبا، ومدعومون من إسرائيل وبريطانيا والولايات المتحدة. فالمهم أن لايكونوا شيعة ولامدعومين من شيعة.
وهذا يعني باختصار أن الشيعي الملتزم الطيب المقاوم؛ يبقى مأكولاً مذموماً.. يزرع ولايحصد، يعطي ولا يأخذ، يقدم دون مقابل، ويضحي دون ثمن، ويتنازل للجميع من أجل شعارات الوحدة الوطنية والمصلحة الإسلامية العليا. وفي الوقت نفسه؛ يبقى متهماً بدينه ووطنيته وإنتمائه حتى تقوم الساعة. بينما يبقى معظم المسؤولين السنة؛ أكلاً شارباً ممدوحاً مشكوراً.. يترقب ويخطط ويتحين الفرص وينفِّذ ضمن حسابات دقيقة؛ فيحصد دون أن يزرع، ويأخذ ولايعطي، ولايقدم شيئاً إلّا إذا تأكد أنه سيحصل على عشرة أضعاف ماقدّم. ومصداق هذه المفارقة السنية ـ الشيعية متجذرة في كل تفاصيل العملية السياسية العراقية بعد عام 2003، وفي كل حركات وسكنات الدولة العراقية. فالسنة العرب (المهمشون المظلومون الذين لاصوت لهم!)؛ يحتلون حوالي ثلث مناصب الدولة؛ في حين تبلغ نسبتهم 16% من نفوس العراق، وللشيعة ثلث المناصب أيضاً تقريباً؛ بينما تصل نسبتهم الى حوالي 64% من نفوس العراق. و رغم هذه المفارقة العجيبة؛ تجد السياسي السني صوته عالِ.. يهاجم إعلامياً ويقاتل سياسياً، ويحصل على التنازلات من الجميع. بينما السياسي الشيعي يدافع غالباً، ويدفع عن نفسه التهم والشبهات، ويقدم التنازلات المجانية لإرضاء شريكه السني.
أما وسائل الإعلام السنية فهي أكثر عدداً وأهم نوعاً من وسائل الإعلام الشيعية؛ وهي وسائل تهاجم بقوة، وصوتها يصل الى الجميع ويؤثر في الجميع؛ بل ويدخل بيوت الشيعة ويؤثر في بعضها ويخلق داخل قسم منها رأياً عاماً ضد الحكومة العراقية وضد كل الجماعات الشيعية. بينما الإعلام الشيعي يدافع عن نفسه غالباً؛ لأنه متهم، ويحاول بكل السبل إرضاء الشريك السني؛ بذريعة الحفاظ على اللحمة الوطنية والوحدة الإسلامية؛ واللذين يعنيان في جوهرهما إستمرار حاكمية السنة وإضطهاد الشيعة الى يوم القيامة؛ وكأنّ شعاري اللحمة والوحدة منذ وجدا على الأرض هما من اختصاص الشيعة ومسؤوليتهم دون غيرهم؛ حتى لو أدى تغليب المصلحة الإسلامية والوحدة الوطنية الى إبادة نصف الشيعة وفقدانهم معظم إستحقاقاتهم. أما غيرهم؛ فاللحمة والوحدة لاتعنيان له سوى السلطة والقدرة والهيمنة.
وهكذا بالنسبة للمحيط الإقليمي؛ فحكومات السعودية وقطر والإمارات والبحرين والأردن وتركيا وباكستان ومصر والسودان وفلسطين والمغرب، وكذا المؤسسات الدينية والسياسية والإعلامية شبه الرسمية والأهلية في هذه البلدان؛ ظلت كلها تدافع عن سنة العراق و(مظلوميتهم!) من منطلق طائفي صرف، وتدعم معظم سياسييهم بكل أنواع الدعم؛ ولاسيما المالي والإعلامي والسياسي؛ بل إن بعضها؛ كالسعودية وتركيا وقطر؛ تجاهر في تبني قضية السنة في العراق، ولاتخفي تدخلها السافر ودعمها اللامحدود. أما شيعة العراق فلايجاهر أحد بدعمهم؛ فحتى الجمهورية الإسلامية الإيرانية لاتدعمهم من منطلق طائفي، ولم تدافع يوماً عنهم لأنهم شيعة؛ بل تدعمهم من منطلق المشتركات الدينية والجغرافية والسياسية؛ وهو يشبه الى حد ما تبنيها للقضية الفلسطينية ودعمها لحركة حماس؛ وهي سنية. والأهم من ذلك؛ ان ايران لاتدعم الشيعة ضد السنة أو ضد الأكراد أو ضد دول الجوار؛ بل تدعمهم لدفع الخطر عن العراق عموماً. وحتى لو افترضنا ان إيران تدعم شيعة العراق وأحزابهم من منطلق طائفي؛ فلماذا نستكثر دولة واحدة فقط تدعم شيعة العراق، ولانستكثر عشرين دولة تدعم بكل ثقلها سنة العراق ضد شيعته وضد الحكومة العراقية.. نهاراً جهاراً ؟!
كل هذا التحشيد المالي والسياسي والقصف الإعلامي الطائفي الواسع والدعاية المكثفة ضد الشيعة وضد الحكومة العراقية؛ تسبب خلال عامي 2014 و2015 في إحتلال المناطق السنية في محافظات ديالى وصلاح الدين وكركوك والأنبار والموصل من الجماعات السنية الطائفية والتكفيرية بمختلف مسمياتها؛ كداعش وبقايا القاعدة وحزب البعث وجيش النقشبندية ومسلحي هيئة علماء السنة ومجلس ثوار العشائر وغيرهم؛ والتي دخلت هذه المناطق وعاثت الفساد فيها واستباحتها واغتصبت نساءها وأحرقت بيوتها وسرقت أموال الأهالي والدولة، وتسببت في هرب الحكومات المحلية السنية ومسؤوليها وشرطتها، كما تسببت في نزوح أكثر من مليوني سني.
فماذا فعل الحشد الشعبي الشيعي حيال ذلك؟ وماذا فعل السياسيون السنة ووسائل إعلامهم وجمهورهم؟
لقد قررت فصائل الحشد الشعبي الشيعي ـ من منطلق وطني وديني ـ دعم الدولة العراقية وقواتها المسلحة في تحرير المناطق السنية، وجمعت عشرات الآلاف من المتطوعين الشيعة من الوسط والجنوب، واستقدمت عدداَ من المستشارين العسكريين الإيرانيين الشيعة بقرار من الحكومة العراقية، وحصلت على أسلحة وعتاد بالمجان من إيران الشيعية؛ بقرار حكومي عراقي أيضاً، وأصدرت المرجعية النجفية الشيعية فتواها وإرشاداتها بالجهاد الكفائي لتحرير المناطق السنية وتخليص المواطنين السنة من بطش داعش، كما حصلت فصائل الحشد على تبرعات بملايين الدولارات من رجال أعمال شيعة، واستنفرت وسائل الإعلام العراقية وغير العراقية الشيعية لدعم الجهد الحربي. ثم قامت فصائل الحشد الشعبي بتحرير المناطق السنية في شمال وغرب بغداد، والمدن والنواحي السنية في محافظة ديالى، ورفعت الخطر عن سامراء السنية، وحررت نواحي ومدن محافظة صلاح الدين السنية؛ ولاسيما تكريت. ثم أعادت قوات الحشد الشيعية المواطنين السنة المشردين والنازحين الى منازلهم، وقدّمت لهم المساعدات، وأعادت المسؤولين السنة؛ بمن فيهم المحافظين والقائممقامين وأعضاء مجالس المحافظات والمجالس المحلية ومدراء الدوائر الى أماكن عملهم؛ معززين مكرمين. وبعدها قامت فصائل الحشد الشيعية بتسليم الأرض الى الحكومات المحلية السنية والقوات الأمنية المحلية السنية، وانسحبت من المناطق السنية المحررة خلال أيام؛ بعد أن قدّمت المئات من أبنائها الشيعة شهداء في سبيل تحرير المناطق السنية، كما خسرت عشرات ملايين الدولارات من الأسلحة والعتاد والرواتب؛ بل استشهد عدد من المستشارين الإيرانيين الشيعة في هذا السبيل.
في المقابل؛ ماذا فعلت الكتل السياسية السنية ووسائل الإعلام السنية والقوى الأمنية المحلية السنية والمسؤولين السنة المحليين والمركزيين والقوى الإجتماعية السنية؟. لكي نكون دقيقين في توصيف الواقع ولانعمم الخطاب والسلوكيات؛ فإن هناك أقلية محدودة من هؤلاء السنة شاركوا الحشد الشعبي جهوده العسكرية واللوجستية والإعلامية والسياسية من أجل تحرير مناطقهم، وأقلية أخرى اكتفت بتقديم الشكر الى الحشد الشعبي والمرجعية النجفية وإيران. ولكن ماذا عن الأكثرية الساحقة؟. لقد تركت الأكثرية الساحقة بيوتها ونزحت الى المدن الشيعية غالباً، أو تحّولت الى حواضن للجماعات المسلحة المحتلة، وتبخّرت القوات الأمنية المحلية، ولجأ معظم المسؤولين المحليين السنة الى المدن العراقية الأخرى.
أما الكتل السياسية السنية ووسائل الاعلام السنية والمؤسسات الدينية الطائفية؛ فإن معظمها لم يقابل الإحسان بالإحسان، ولم يصمت حدّاً أدنى؛ بل دخل في معركة سياسية وإعلامية كبرى ضد الحشد الشعبي الشيعي. فكان رموز تلك الكتل والجماعات يخرج على الفضائيات من مقراته الفخمة في عمّان وأربيل وبغداد ولندن والقاهرة؛ ليشتم الحشد الشعبي ويتهمه بكل أنواع التهم؛ في وقتٍ كان عشرات الآلاف من أبناء الحشد الشعبي الشيعي يقاتلون لتحرير المناطق السنية ويبذلون الدماء والأموال لتخليص أخواتهم السنيات وأخوتهم السنة من بطش المسلحين. ووصلت شتائم الطائفيين وافتراءاتهم في الفضائيات ووسائل التواصل الإجتماعي ضد الحشد الشعبي الى مستوى يدعو للإشمئزاز والغثيان، والى الكفر بكل المصطلحات والشعارات التي ظل الشيعة يذبحون تحت رايتها منذ مئات السنيين؛ بدءاً بوحدة الخلافة والمصلحة الإسلامية العليا وإنتهاءً بالوحدة الوطنية.
وقامت قائمة الحكومات الطائفية السعودية والقطرية والتركية ومؤسساتها الإعلامية والدينية ضد الحشد الشعبي الشيعي؛ بل راح بعضها يكيل الإتهامات والشتائم ضد المرجعية النجفية وضد ايران. ولم يقتصر هذا اللون من رد الجميل على الكتل السياسية والمؤسسات الإعلامية السنية العراقية والحكومات الطائفية المجاورة؛ بل تعداها الى مؤسسات سنية معروفة؛ كمشيخة الأزهر في مصر مثلاً؛ التي أطلقت نار التصريحات والبيانات بقوة غير مسبوقة على الحشد الشعبي؛ بدفع من القوى الطائفية العراقية والقوى الإقليمية السنية الطائفية.
وكان ولايزال أهم ما يشجع الوسطين السني العراقي والإقليمي في هجومهما الشامل على الحشد الشعبي الشيعي هو التصريحات والسلوكيات الأمريكية المعادية للحشد الشعبي؛ ولاسيما التصريحات التي تشيع الإتهامات بخطورة مشاركة الحشد في تحرير المناطق السنية، وطائفية فصائل الحشد، وعلاقتها بايران، وأخطائها بحق السكان السنة في المناطق المحررة. إضافة سلوكها الميداني الذي تسميه أخطاء طيران التحالف الدولي المعادي لداعش والذي تقوده أمريكا؛ كقصف بعض قطعات الحشد الشعبي والمقرات العسكرية أو إنزال شحنات الأسلحة والعتاد والمساعدات في الأراضي التي تحتلها داعش. فبات المقاتل الشيعي الطيب المدفوع بدينه ووطنيته وهو يبذل دمه لتحرير مناطق أخيه السني؛ محاصراً بين الدعاية الطائفية المحلية والإقليمية المركّزة والواسعة، والتحرك السياسي المحلي السني المضاد، والتحرك الإقليمي السني المعادي، وأخطاء طيران التحالف الأمريكي، ونيران داعش ومفخخاته.
وكالعادة؛ حقق الشيعة أهدافهم العسكرية لمصلحة إخوانهم السنة؛ ولكن حشدهم الشعبي لم يجن أية مكاسب مذهبية وإجتماعية و سياسية مقابل ما قدمه من تضحيات وخسائر وجهود من أجل تحرير المناطق السنية وإنقاذ إخوانه السنة، ولم يطالب إخوانه السنة بأي ثمن، ولم يتوقع منهم جزاءً ولاشكوراً؛ بل ظل يدفع عن نفسه التهم والشبهات، ويطالب أخوة الدين والوطن بالكف عن الشتائم والافتراءات لا أكثر. واكتفى بعض فصائل الحشد الشعبي بـ ( الزعل ) والإنكفاء بسبب الجحود المتوقع لأخوة الدين والوطن. هذا هو رد الفعل التاريخي التقليدي للشيعة الطيبين؛ والذي كان وراء إنكساراتهم المرعبة وسقوط دولهم في المغرب العربي ومصر وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين وشمال العراق والبحرين وشرق الجزيرة العربية واليمن وشبه القارة الهندية. كل هذه الدول الشيعية العربية وغير العربية انهارت على يد صلاح الدين الأيوبي والعثمانيين والأعراب العتوب النجديين والإنجليز؛ لأن الشيعة مؤمنون طيبون متسامحون يغفرون وينسون ظلم عدوهم، ولايكفِّرون أحداً ولايستبيحون عرضاً ومالاً ودماً وأرضاً، ولايشترون الذمم، ويعتقدون بوحدة المسلمين وحب الأوطان. بينما يستغل عدوّهم هذه الطيبة والتسامح والإلتزام؛ للتنكيل بهم وللسيطرة عليهم وابتزازهم والإنقلاب عليهم.
واليوم تظهر الحاجة الماسة لتدخل الحشد الشعبي الشيعي في تحرير محافظتي الأنبار والموصل السنيتين؛ فالجميع يذعن بأن شبراً واحداً من أرض العراق لن يتطهر من إحتلال الجماعات المسلحة التكفيرية والطائفية بدون قوات الحشد الشعبي، وبدون الدعم الإستشاري والتسليحي الإيراني، وبدون استمرار تفعيل فتوى المرجعية النجفية وإرشاداتها. هذه هي الحقيقة الإستراتيجية الميدانية التي لاتقبل الجدل؛ رضينا بذلك أم لم نرض؛ كرهناها أو أحببناها.
ولكن؛ هل ستتكرر مأساة المقاتل الشيعي الطيب في الرمادي أيضاً ؟!؛ فيبذل دمه ووقته وجهده وماله وسلاحه؛ ويحرر الأرض والعرض، وفي الوقت نفسه؛ يتحمّل الإفتراءات والشتائم والإتهامات من معظم أصحاب هذه الأرض وحلفائهم المحليين والإقليميين؛ ثم يسلم الأرض لهم، ويعيد اللاجئين الى مناصبهم، والنازحين الى بيوتهم؛ وينسحب حاملاً شهداءه وجرحاه ورماحه المثلومة..عائداً الى مقراته؟! فلا يطالب بأي إستحقاق عسكري وسياسي واجتماعي وإعلامي ومعنوي؟ّ!، أو في الحد الأدنى ضمان عدم تحول هذه المناطق مرة أخرى الى حواضن ومنطلقات للإرهاب. الجواب التقليدي ربما نستصحب جوهره. ولكن بعد تجربتي ديالى وتكريت المريرتين؛ لابد من جواب صريح وتفصيلي من قادة الحشد الشيعي.. السياسيين والميدانيين؛ ينطوي على أفكار جديدة وخطاباً مختلفاً..
اضف تعليق