يظهر من تاريخ الإنسان على وجه هذه البسيطة، أنه كلما تطورت الحياة التي يعيشها الإنسان، تبدلت مواضيع القلق ومصادر الخوف في حياة الإنسان.

فلكل زمن مصادر قلقه، ومواضيع أزمته واللازمة الوحيدة في هذا المجال، هي استمرار القلق والخوف والأزمة في حياة الإنسان، بحيث إننا نستطيع القول، إن هذه الاستمرارية هي ملازمة لحياة الإنسان مهما تطور وضعه أو اخترع من آلات وتقنيات. من هنا فإن مفهوم السعادة الذي ينشده الإنسان على وجه هذه الأرض، لا يعني خلو واقعه من القلق والخوف، وإنما يعني على المستوى الواقعي، تحسين شروط وجود الإنسان على هذه الأرض في المستويين المعنوي والمادي.

والحضارة المعاصرة، تخترع الكثير من الحاجات المعاصرة، كي تليها حاجات، وكأن الحاجة (بالمعنى العام) هي المحفز الحقيقي على التطور والوصول إلى صناعات تقنية رفيعة المستوى. وقد أشار (مالينوفسكي) إلى هذه الحقيقة بقوله: لا يمكن أن يكون هناك اختراع أو ثورة أو تحول ذهني أو اجتماعي ما لم توجد حاجات جديدة.

وبطبيعة الحال فإن هذه الحاجات متجددة متغيرة، لذلك هي التي تضع الإنسان المعاصر، في دائرة القلق والخوف، وتضيف مع التطور المادي والتقني الهائل مشاعر الحرمان والنقص عنده. وأن كل تقدم على حد تعبير كتاب (العلم في نقد العلم دراسات في فلسفة العلوم) يحصل على مستوى المعارف والتقنيات، يتطلب استقلالية متزايدة عند الأشخاص ووعيا أعمق للحرية، وهو ما ليس من المؤكد حصوله حتى الآن على مستوى عام وشامل.

فالإنسان في العالم الثالث مثلا، يخضع لعبودية مركبة، فهو لا يزال يعاني الجوع والمرض والقهر، وفي نفس الوقت، يخضع لعبودية الأدوات الحديثة: تلفزيون وسلع استهلاكية مشابهة، تشكل له التعويض الموهوم لحريته الفعلية والجوهرية المفقودة، هذا الإنسان يتطلع إلى الهرب من عالمه (الجنوب) إلى العالم الآخر (الشمال).

إن هذا بالذات، أحد أقسى جوانب العبودية الحديثة وإن النمط الاستهلاكي الذي تغذيه ثقافة الحضارة المعاصرة، لا يقتصر دوره السلبي على تشتيت جهود الفرد وإدخاله في عالم الشيزوفرينيا المعطلة لكل طاقاته وإمكاناته. وإنما يتعدى ذلك ويصل إلى مستوى أن لهذا النمط الاستهلاكي الدور الرئيس، في القضاء على البنية التحتية الكونية (إذا جاز التعبير) فمثلا الاستخدامات المتصاعدة للمواد المنتجة من الأشجار، تؤدي إلى القضاء على أعداد متزايدة من الأشجار، فهنالك غابات بأكملها تختفي سنويا.

وإذاما علمنا أن (30%) منها فقط صالحة للزراعة وأن كل (10 مم) من التراب تحتاج الأرض لإنتاجها من (100) إلى (400) سنة وتحتاج الأرض إلى ما بين (3000) و(12000) سنة لإنتاج عمق كاف للزراعة أدركنا المخاطر المترتبة على تعاظم النمط الاستهلاكي في حياة الإنسان.

وكلما تقدم الإنسان في علمه واختراعاته تطورت في المقابل مصادر قلقه وخوفه وأصبحت القيمة الكبرى، هي الكسب، ذلكم هو عالم الآلة المسفسطة المهيمنة على حياتنا وكما يقول (ديزاكو وإيكيدا) وكذلك الإنسان الذي تصيره الآلة على صورتها ومثالها، فهو يكاد يفقد عافيته واستقلاله وذاكرته التي تصير آنية.

إن الأزمة التي تهز البشرية اليوم ليس مصدرها الخارج وتسول لي نفسي أن أقول إن المنزل الذي نعيش فيه ليس مهددا بإعصار ظاهر من الأفق، وإنما يهدده شاغلوه (البشر) المتنافسون في سباق الكسب الذين يتخاصمون على أثاثه ويقتلعون سقوفه وأخشاب أرضيته وينخرون ركائزه فيهددونه بالانهيار.

وإذا وصل العلم إلى مستوى من القدرة على التلاعب بماهية الإنسان وجوهره، وذلك بالتلاعب في الكروموزوم والجين المورث، إضافة إلى تخريب البيئة، وتدمير عناصرها الأساسية فيكفي أن نعرف، أن طنا مستهلكا من الفحم يطلق في الهواء نحو عشرين كيلو غراما من الانهيدريد الكبريتي.

وتتلقى سماء فرنسا (كما يقرر كتاب شرق وغرب حوار في الأزمة المعاصرة) منه أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون طن سنويا، وحين يلامس الماء العالق في الجو يتعرض لسلة من التحولات تنتهي إلى حمض الكبريتيك. وإن مدينة باريس تتلقى في السنة تسعين ألف طن من الرماد وخمسة عشر ألف طن من الغبار. وإن في الكيلومتر المربع من نيويورك أربعين طنا من النفايات الضارة العالقة.

وبهذا يكون التقدم المادي الذي ينتجه العالم الغربي، يحمل الأزمة والشرور التي تعاني منها البشرية جمعاء، بما فيها المجتمعات التي صنعت هذا التقدم. إذ إن التقدم بمجالاته المادية الواسعة، لم يصبح هو الطموح النهائي للإنسان، إذ سرعان ما ظهرت في حياة الإنسان تطلعات وأمنيات وحاجات عقلية وروحية بحاجة إلى إشباع وتلبية إلى متطلباتها.

ويشير إلى هذه المسألة (رينيه هويغ) بقوله: إن الحضارة الجديدة تؤمن للإنسان ولا ريب سيطرة على العالم الخارجي لم يكن بوسعه أن يحلم بها من قبل هذا من جهة، ولكنه من جهة أخرى يدفع الثمن لهذه الميزة التي لا تعلق بحاجاته ورغباته خللا في التوازن بل بترا داخليا لأنه مضطر بالمقابل أن يخنق أعمق وظائف الحياة، وأن يوقف نموها، وأن يخنق في الوقت نفسه أسمى هذه الوظائف ويوقف نموها.

وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن العودة إلى عصر ما قبل الحضارة والتقنية هو الحل. ولكننا نريد القول، ان التقدم العلمي والتكنولوجي، ينبغي أن يصاحبه تزايد في الوعي وحضور للأخلاق وسَلكة في عمليات التطور العلمي، فمستقبل الإنسان مع هذا التطور العلمي والتقني الهائل المنضبط بضوابط قيمية وروحية وأخلاقية، بإيقاظ إنسانية الإنسان، وبلورة غايات إنسانية عليا، يسعى إنسان هذا العصر إلى تحقيقها والوصول إليها.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق