q
الوعي بالتاريخ، فلا يعني استعادته، بل استحضاره، بمعنى أخذ الدروس والعِبَرْ منه بما يفيد الحاضر والمستقبل، وتلك جزء من مهمة الاجتهاد، حيث يمكن أن تحدث النقلة النوعية في مستوى التفكير، بتعمّق الوعي، في إطار مسار طويل وتراكم تدرّجي وهو ما يؤدي إلى تطوير الخطاب الديني...

تثير مسألة الاجتهاد في الإسلام اختلافات حادة وتباينات عميقة لدى أوساط مختلفة فكرية وسياسية وثقافية ودينية، لجهة مرجعيتها وعلاقتها بقضية التجديد والتغيير، مثلما يثير الوعي بالتاريخ مثل هذا التعارض والتناقض في الفهم والسيرورة، لدى هذه الأوساط. ولهذه الأسباب حسناً فعلت إدارة معرض الكتاب الدولي في تونس بدورته الخامسة والثلاثين، لإدراج الموضوعين في محور واحد للنقاش المفتوح في جلسة حوارية مثيرة، وكما هو متوقع فقد كانت ردود الأفعال حامية والمناقشات عالية النبرة.

فالاجتهاد يعني استنباط الأحكام بما ينسجم مع المتغيّرات والمستجدات والتطوّرات التي تحصل في المجتمعات على صعيد العلم والتكنولوجيا والفقه القانوني والدستوري والسياسي والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

أما الوعي بالتاريخ، فلا يعني استعادته، بل استحضاره، بمعنى أخذ الدروس والعِبَرْ منه بما يفيد الحاضر والمستقبل، وتلك جزء من مهمة الاجتهاد، حيث يمكن أن تحدث النقلة النوعية في مستوى التفكير، بتعمّق الوعي، في إطار مسار طويل وتراكم تدرّجي وهو ما يؤدي إلى تطوير الخطاب الديني بشكل عام بحيث يستجيب لمتطلبات العصر، والأمر بقدر تعلقه بالإسلام، فإنه يتعلق بالأديان الأخرى أيضاً. وخطورة الخطاب الديني تتأتّى من كونه يحاكي القلب وليس العقل، وبالتالي يمكن أن يكون تأثيره عاطفياً وسطحياً وسريعاً، وهو مثل الموسيقى يمكن أن تصل إلى عدد كبير من الناس وتؤثر فيهم مقارنة ببقية الفنون الأخرى كالشعر والقصة والرواية والفنون التشكيلية والمعمارية وغيرها.

الخطاب الديني يؤثر أيضاً في المشاعر التي قد تجنح بعيداً، فتدفع المرء إلى التعصّب ووليده التطرّف، وهذا الأخير إذا ما تحوّل إلى سلوك، أي فعل، فإنه سيصبح عنفاً، أي ينتقل من التفكير إلى التدبير، والعنف إذا ضرب عشوائياً سيصير إرهاباً، خصوصاً إذا استهدف إرعاب المجتمع وإحداث الفزغ في صفوفه وإحداث نوع من عدم الثقة بالدولة والقانون.

كيف يمكن إذاً معالجة مسألة الاجتهاد بما يتجاوز الراهن الراكد والتقليدي الساكن، حتى ليبدو (الثبات) وإن كان نسبياً أقرب إلى التحجّر أحياناً، لأن كل شيء في الحياة والكون يتغيّر، فما بالك بالاجتهادات، فهي حتى لو صلحت لعصرها، فإن زمانها قد ولّى، أو أنها لم تعد تصلح لزماننا وتلك حكمة التاريخ حيث (تتغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان)، وهي قاعدة فقهية معروفة، يضاف إلى ذلك، فإن لكل زمان قوانينه التي تعبّر عن درجة تطوّر المجتمع، فما كان محظوراً في عصر قد يصبح مسموحاً في عصر آخر، و(للضرورة أحكام)، كما يُقال. والاجتهاد بقدر تعلّقه بالفكر الإسلامي يطرح سؤالاً محورياً هل الإسلام دين ودولة ويصلح لكل زمان ومكان؟ وكيف السبيل للتعاطي مع المتغيّرات بما فيها الحداثة والعلاقة بين الديني والعلماني وبين الاجتهاد ولغة الفكر أو الاجتهاد وفكر اللغة.

باختصار هل يحتاج الإسلام إلى التحديث والتجديد ونحن في زمن العولمة والثورة الرقمية (الديجيتل) والانفجار الإعلامي الرقمي السيبراني؟ وإذا كان الجواب لا: فالأمر يقود إلى التحجّر والصنمية والجمود، أما إذا كان الجواب نعم: فكيف ومن أين نبدأ؟ هل نبدأ من الفرد، أم من المجتمع أم الدولة وماذا نريد؟ ويتفرّع عن هذا السؤال (أسئلة الجدل) القديمة – الجديدة تلك التي تحدّد العلاقة بين الدين والعقل، وهي تطرح سؤال الدين من داخله وسؤال الدين خارجه، وكلاهما ينشغلان بالهمّ الفكري والإنساني والروحي، سواءً تفسيراته المثالية أو المادية، بأسبقية الوعي على المادة أو ألحقيته باعتباره انعكاساً للوجود المادي.

والمطلوب من التجديد لا تغيير النصوص وإن كان بعضها قد استنفذ سياقه التاريخي، بل تغيير الفهم لتلك النصوص، بما يتناسب مع العصر، والمطلوب التدبّر والبحث عما يتوافق ويتناسب مع واقع اليوم. وهناك في هذا المجال تحدّيان أساسيان: الأول يتعلق بتحديد الأهداف والأولويات فيما يتعلق بالبحث والاستنباط، والثاني باختيار الوسائل المناسبة للتجديد في إطار من الاجتهاد والحريّة دون وصاية أو تابوهات أو محرّمات باستثناءات (ثوابت الدين) كما يُقال. هناك حواجز فقهية ومعرفية اصطنعها بعض (رجال الدين) تحتاج إلى إعادة النظر في معانيها ومبانيها، انطلاقاً من قبول الاختلاف والحق في الاجتهاد وقد سبق للإمام الشافعي أن قال: رأيي صواب يتحمل الخطأ ورأيك خطأ يتحمّل الصواب. إذاً لا بدّ من البحث عن حالة جديدة تتناسب والواقع الجديد، وليس البقاء مرتهنين لكتب السلف الصالح والتفتيش فيها عن حلول قديمة لواقع جديد؟ وإذا كان القرآن الأجمل والأحسن والأكمل فإن فيه دعوة إلى العلم والتعلّم. أما كوابح التجديد، سواء من داخل المؤسسة الدينية أم من خارجها فهي: عدم القناعة بالتجديد والاستكانة لما هو قائم وانخفاض درجة الوعي والخشية من الانفتاح، لاسيّما في مواجهة العامّة، وفقدان الامتيازات، وخدمة السلطان، وتلك تشكّل عقبات أمام أية عملية تجديد، وعلى غرار هوبز فـ(أي إصلاح مفتاحه الفكر الديني).

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق