q
كل أزمة تخلف احتجاجات جماهيرية؛ تشهد تطوراً ملحوظاً في شكل المطالبات أو في أساليب التعبير عن الاحتجاج الجماهيري، حتى صارت للاحتجاجات من الوعي صور من الصراخ للهم العام، وليس الهم المحدد بطائفة أو عرق أو قومية، أو الهم الخاضع للإيديولوجيا أو حتى الأشخاص...

كل أزمة تخلف احتجاجات جماهيرية؛ تشهد تطوراً ملحوظاً في شكل المطالبات أو في أساليب التعبير عن الاحتجاج الجماهيري، حتى صارت للاحتجاجات من الوعي صور من الصراخ للهم العام، وليس الهم المحدد بطائفة أو عرق أو قومية، أو الهم الخاضع للإيديولوجيا أو حتى الأشخاص. ومثل هذا الوعي نلاحظه حالياً في الاحتجاجات التي تشهدها مدينة البصرة التي خرج أبناؤها في مظاهرات صاخبة للمطالبة بأبسط حقوقهم في العيش الحر الكريم، بعد أن تفاقمت أزمة الماء غير الصالح للشرب، وغير الصالح للاستخدام البشري.

لاننكر أن بعض السلوكيات التي قام بها المتظاهرون اتخذت أشكال غاضبة لدرجة إحراق بعض الدوائر الحكومية، ومقار الأحزاب السياسية المتنفذة، إلا أننا قد نناقش الأنساق التي حركت هؤلاء المتظاهرين، وأهمها نسق غياب ملمح الانسجام في العلاقة بين السلطة والشعب.

وقد تجلى هذا الغياب من خلال الاستخدام المفرط للقوات الأمنية للعنف تجاه المتظاهرين، لدرجة إطلاق الرصاص الحي، وإزهاق أرواح الأبرياء، وهذه سابقة خطيرة بدأت تتفاعل للأسف الشديد في التجربة العراقية المعاصرة.

كما أن سلوك المتظاهرين في إحراق مقار الأحزاب السياسية المتنفذة، والتي لها من الرمزيات الدينية، فضلاً عن العمل الصريح بإحراق القنصلية الإيرانية في البصرة؛ يؤشر إلى حالة ينبغي التوقف عندها ومناقشتها وهي حالة التفلت من قيد التابعية المبنية على موروثات تاريخية واجتماعية؛ بسبب تقدم الوعي الذي نتيجة توفر الوسائل التي تديم زخم المعرفة وتطور العقلية، وخصوصاً في صفوف الشباب، وإلا كيف لنا أن نحلل سلوك احتجاجي لشبان مدينة ذات عمق مذهبي معين يتجاوز الخطوط التي ماكان لهم سابقاً أن يتجاوزوها؛ بسبب هيمنة المنطق المرحلي؟

كل هذه المعطيات تشير إلى تقدم الوعي في مقابل تراجع العلاقة حد التلاشي بين السلطة والجماهير الغاضبة التي لانبرر لها أفعال حرق المؤسسات أو مقار الأحزاب والقنصلية بقدر مانريد التأشير إلى حالة خروجها عن التابعية التي أضرت بواقعها المعيشي والخدمي في ظل تصارع سياسي، وانقسام في المواقف من أجل الحصول على المكاسب حتى وإن جاءت بتقديم فروض الولاء والطاعة لخارج الحدود.

سوء فهم السلطة

أكبر مشكلة تعاني منها بلدان الشرق اليوم تتمثل في سوء فهم السلطة، وعدم إدراك واجب الحاكم تجاه المحكومين، فالحاكم يرى أنه تسلط على هؤلاء وكأن له تفويضاً سماوياً فيتصرف بمقتضى هذا التفويض الموهوم بمقدرات وإيرادات الدولة وفق ميوله ورغباته.

وهذا عين ماحصل في العراق خلال أزمنة كثيرة من تعاقب أنظمة الحكم حتى وصلت إلى الذروة في زمن الذين حكموا بعد 2003 حيث التعددية التي يمكن لنا أن نطلق عليها وصف (التعددية الفاسدة) للأحزاب المتقاتلة على المناصب، لدرجة التسقيط الذي يمتد لجوانب غير أخلاقية كما حدث في أيام الترويج للحملات الانتخابية.

وبمجرد انتهاء الانتخابات وظهور النتائج يمكن لأطراف التسقيط والتسقيط المتبادل أن تتحالف فيما بينها لضمان مكاسب مشتركة أمام ذهول الناس وخيبتهم في مشاهدة المصافحات المستحيلة بين أطراف تنافرت وعادت لتنجذب بمغناطيس المصالح.

ومن دلائل سوء فهم السلطة، وتخبط المسؤولين هو القبول بأن تكون الدولة ساحة لصراعات خارجية وإقليمية، بل وانقسامهم إلى مؤيدين لأطراف الصراع الخارجي على حساب المصلحة الوطنية العليا، الأمر الذي يرسخ الفوضى، وبالتالي يلقي بظلاله التخبط على مشاعر الجماهير التي قد تصل لمرحلة اللاجدوى من البقاء تحت سياط الفساد والمفسدين المتنعمين بخيرات البلد الذي بدا وكأنه إرث لهم ولأحزابهم في الوقت الذي تنعدم فيه أبسط الخدمات التي ترتبط ببقائهم ومنها خدمة الماء الذي ثارت من أجله البصرة، وهي الثورة التي قد تلتهم الأخضر واليابس مالم ينتبه المسؤولون ولاأظنهم سينتبهون.

أداة لقمع الشعب

وبما أن الطبقة الحاكمة غيَّبت ملامح الانسجام مع الجماهير بإصرارها على انتهاج الفساد طريقاً للبقاء بالسلطة؛ فمن الطبيعي أن تكون لها القوة الأمنية التي تعمل على حماية مصالحها من أي خطر يهددها. والخطر يأتي من تذمر المسحوقين من الناس فتبدأ عملية القمع باعتبار أن المحتجين والرافضين لهذا التمايز الفاحش بين الحاكم والمحكوم هم من الخونة أو المأجورين أو المندسين، أو من (الهمج الرعاع) كما يتم وصفهم من قبل الزعماء الذين لاترضيهم مشاهد الاحتجاج على تنعمهم بمقدرات البلد، ليكون مشهد إطلاق الرصاص الحي على الأبرياء شيئاً طبيعياً، وقد يندرج ضمن بند الحفاظ على النظام بينما هو في الحقيقة حفاظ على أحزاب بعينها، وشخصيات بعينها أُحيطت بهالات من التقديس والتبجيل.

ما هو الحل؟

لابد من انتهاج خطاب يعي مفهوم الدولة، خطاب ينظم العلاقة بين السلطة وشعبها، خطاب يقوم على الثقة والإطار القانوني الذي ينظم هذه العلاقة، فضلاً عن ترسيخ مفهوم (وظيفية الحاكم)، أي يعتبر نفسه موظفاً مكلفاً بتقديم الخدمات للناس، ورعاية شؤونهم ومصالحهم، ومتابعة تنفيذ آليات تقديم الخدمات المناسبة. كما يلزم أن تترسخ ذهنية المعارضة السلمية التي تنتهج التشخيص والتصحيح، وليس المعارضة المتربصة بالأخطاء من أجل الدفع بالأوضاع إلى ماهو تخريبي وعنفي لن ينفع بالتالي سوى الإرادات الخارجية التي تريد غرز خناجرها في جسد الدولة.

اضف تعليق