ثقافة التراجع عن القرار الخاطئ، نحن نحتاجها في العراق على وجه الخصوص، ومن المستحسَن أن ترسخ القيم التي تحث الأفراد والجماعات على هذه الثقافة، وخصوصاً من يصنع القرار السياسي أو الاقتصادي أو الإداري، لأن الاستمرار في الخطأ لا يشمل على أية جدوى ولا أية فوائد ملموسة، هنا من العيب والنقص والجهل أن يستمر القائد السياسي والمسؤول الإداري في تنفيذ قراره...

ان المواجهة والسباحة ضد التيار لن تجلب سوى الخسران!، في غالب الأحيان، فعندما نقرر الخوض في نشاط ما، يجدر بنا التخطيط له، ووضع اهداف استراتيجية تكفل رصانة الأداء، لذا فالإداري الناجح يجب ان يتحلى بالشجاعة الكافية لمواجهة أية صعوبات تبرز أثناء الأداء، ولا يصح الدخول الارتجالي في نشاطات مهمة قبل دراستها تفصيليا، لكن في الوقت الذي ينبغي أن يتحلى الإنسان بالقدرة على مواجهة الصعاب من أي حجم أو نوع كانت، عليه في نفس الوقت أن يمتلك الشجاعة الكافية للكف عن المثابرة والاستمرار بالنشاط العملي الخاطئ.

فهناك من يظن أن الاستمرار في المواجهة يمثل شجاعة خارقة له حتى لو كانت النتائج بالضد مما يتوقّع أو يريد، لكن علم النفس الحديث يؤكد على أن التحلي بالقدرة على الانسحاب لا تقل في نتائجها عن الشجاعة في التخلي عن المواجهة إذا كانت لا تصب في صالح الفرد والمجتمع، وهذا يعني أن القائد الإداري أو السياسي أو المؤسسي لديه خياران أساسيان:

الأول: المضيّ بقوة في مشروعه مع التحلي بعناصر القدرة على المواجهة والاستمرار.

الثاني: الكف عن المثابرة، والتحلي بشجاعة الانسحاب في حالة بروز أو اكتشاف خطأ في القرار المتَّخَذ.

ومن الأمور التي يمكن استبطانها أو ملاحظتها عينيا في المجتمع العراقي والعربي على وجه العموم، أن هناك تمسّكاً بالخطأ حتى بعد أن يكتشف الفرد (القائد) أو غيره هذا الخطأ، في حين أن المناسب والصحيح هو التراجع والكف عن الإيغال في المثابرة والثبات على المنهج أو الفكر أو السلوك أو التخطيط والتنفيذ الخاطئ، وقد قيل أن الاعتراف بالخطأ فضيلة، ولا يقل ذلك في أي حال عن شجاعة التمسك بالرأي والفعل المنطقي المقبول أو المدروس والمخطَّط له، فمع اختلاف المنهجين وتناقضهما، لكنهما يتحليان بالصحة، ويُنسَبان إلى الشجاعة في الحالتين، إذ أن المضي نحو الهدف بقوة وإصرار والثبات والمثابرة مطلوبة وصحيحة، لكن في حال اكتشاف الخطأ فإن الانسحاب يعدل شجاعة التصميم والمثابرة والثبات نفسه.

ولعله من الخطر المكين أن تتحول هذه السلوكيات إلى ثقافة مجتمعية عامة، ثم تُقَر على شكل قيم تبتكر التبريرات والحجج للقرارات والأنشطة الخاطئة، ومن أخطر مخلفات هذه الثقافة، ثقافة الإصرار على الخطأ، أنها تنتقل إلى النخب السياسية والثقافية وسواها، لأن السياسي والمثقف هو نتاج حتمي للبيئة الاجتماعية، هنا تحديدا تكمن مصاعب وانحرافات ثقافة التمسك بالرأي أو الفكر أو السلوك الخاطئ، لذلك تمثل مواجهة الصعاب وتدبّر وسائل الظفر والتغلب عليها، كما يؤكد مصطفى حجازي أحد أحجار الزاوية في بناء الاقتدار، كما في طروحات علم النفس الإيجابي على وجه العموم، ويتعلق الأمر في هذه المجابهة بارتفاع الأهداف ونظام التوقّع في الدافعية، فقط الأهداف ذات المعنى ودرجة التوقّع العالية بالقدرة على تحقيقها، هما الكفيلان معاً بتعبئة أقصى الطاقات والمثابرة في مواجهة الصعاب وصولا إلى الظفر. وهذا يعني أن الإصرار يتضاعف مع حجم النتائج وأهميتها، فيستحسن التشبث والتمسك والإصرار في حالة النتائج المفيدة، ويُنبَذ في الحالة المعاكسة، أي في حالة إثبات السلوك والفكر الخاطئ.

من هذا المنطلق فإن العزوف عن الشيء شجاعة أيضا، إذ لا تعبّر المثابرة وحدها عن الاقتدار الإنساني، إنما أيضا التراجع والانسحاب في وضعيات مسدودة الأفق وبلا مخرج، هي دليل على اقتدار إنساني، إذ تتحول المكابرة إلى عنصر ضعف، تُدخل المرء في مآزق بسبب تدنّي الحسّ الواقعي، تتضمن وضعيات الحياة أحيانا شجاعة التخلي والانسحاب، مما يدل على الدربة في التوجيه الذاتي وليست دليل تخاذل، فالإنسان الفطن هو من يعرف متى ينسحب في الزمان والمكان المناسبين، مما يشكل اقتدارا فعليا هو على النقيض من الاستسلام الناجم عن العجز المتعلَّم أو المعتاد.

كأن العمل الإنتاجي والأنشطة كافة هي ساحة حرب بين فريقين، يخضعان للخطط الهجومية والدفاعية، فليس الحرب حالة هجوم دائمة، بل هناك تكتيكات الانسحاب المحسوب الذي يؤدي بالنتيجة إلى النصر، هذا ما يحدث في ساحات الإنتاج والعمل أيضا، فحين يكتشف رب العمل أو مسؤول المشروع أن الاستمرارية بالعمل ضرب من العبث، ونوع من مضيعة الوقت، وأن فشل النتائج ليس سوى قضية وقت، عند ذاك سوف يكون من الشجاعة والاقتدار أن يعلن رب العمل أو قائد المشروع الانسحاب الفوري الذي يكمن فيه وقف الجهد والهدر والفكر الذي يذهب سدى بدون أي مقابل سوى التمسك بكرامة مزيفة، سوف تُهدَر آجلا أو عاجلا.

ثقافة التراجع عن القرار الخاطئ

هذه الثقافة، ثقافة التراجع عن القرار الخاطئ، نحن نحتاجها في العراق على وجه الخصوص، ومن المستحسَن أن ترسخ القيم التي تحث الأفراد والجماعات على هذه الثقافة، وخصوصاً من يصنع القرار السياسي أو الاقتصادي أو الإداري، لأن الاستمرار في الخطأ لا يشمل على أية جدوى ولا أية فوائد ملموسة، هنا من العيب والنقص والجهل أن يستمر القائد السياسي والمسؤول الإداري في تنفيذ قراره، وهدره الجهود على المستويين المادي والمعنوي، لينتهي في آخر المطاف إلى حصد النتائج المؤسفة التي لا تقود الفرد والجمع إلى حالة الاقتدار المجتمعي الذي من شأنه النهوض بالجميع إلى المراتب الأعلى.

كفانا هدراً

في الختام، علينا كعراقيين بالأخص النخب أن نعترف بأننا مصابون بمشكلة اسمها (العزة بالإثم)، والتمسك بالخطأ إلى النهاية، وليس لدينا القدر على التوقف أو الانسحاب، وهذه مشكلة تتسبب في هدر وضياع الكثير من الجهود والثروات والوقت أيضا، قد تكون الخسائر فردية لكنها بالنتيجة تنتهي إلى الجماعة ومن ثم المجتمع كله، فلننبذ هذا السلوك الشائن، ولنكف عن العزّة الزائفة، فالأنفة والكرامة والتشبث بالرأي والفكر والقرار، ينبغي أن يدور في المدار الصحيح فقط، وأي انحراف أو خطأ في ذلك، يملي علينا التوقف والانسحاب الفوري تحت ضغط شجاعة الانسحاب.

اضف تعليق


التعليقات

مهدي صاحب حسين
العراق
أعجبني هذا المقال كأنه وضع اصبعه على الجرح.. فهناك عادة التمسك بالرأي وهي مشكلة تؤذي صاحبها أولا ومن يناصره يتاذى أيضا.. يا ليتنا نتعلم الاعتذار عن الخطأ ونسير فيما يصلح أحوالنا..2018-09-05
مجيد المسعودي
الحلة
قضية التمسك بالرأي قديمة جذورها عميقة تمتد إلى أجدادنا، واليوم تتواجد بيننا بقوة.. كأننا عدنا إلى الوراء مئات السنين.. نريد انسانا فاهما يعترف بغلطته واذا وصلنا إلى هذا الحد من الشجاعة فنحن بخير.. الله يوفقكم2018-09-05