q
كيف يمكن تغيير الأنماط الفكرية السائدة في مجتمعنا؟، سؤال لا يمكن الكف عن ترديده إلا إذا سلّمنا بأن التغيير الفكري بات مستحيلا، وهو تسليم خاطئ وغير واقعي لأن الفكر بطبيعته من أكثر الفعاليات البشرية القابلة للتنوع والتأثّر والتغيير، ولكن تبعا لاشتراطات محددة موضوعة من قبل عقول رائدة متميزة تمتلك قدرا كبيرا من الديناميكية الفكرية...

حين تتشكل كرة ثلج صغيرة وتبدأ بالتدحرج، فإنها سرعان ما تلتقط ما تمر به في طريقها لتكبر وتتكوَّر أكثر فأكثر، فتصبح بالنتيجة كرة كبيرة من المترادفات التي تلتقط بعضها البعض، هكذا يصف الكاتب مصطفى حجازي تضخّم التفكير المتجانس، فإذا كان تفكيرا إيجابيا سوف يجتذب الأفكار المقارِبة له، وكذا الحال إذا كان تفكيرا سلبيا، فنمو الأفكار هنا أشبه ما يكون بالعدوى والتأثير السريع، أي أن طريقة التفكير لشخص ما، يمكن أن تؤثر في الآخرين بصورة متنامية.

في كتاب إطلاق طاقات الحياة للكاتب مصطفى حجازي يُفسَّر التفكير (الإيجابي بأنه اتجاه ذهني للاهتمام بالأفكار والصور الكلمات المؤدّية إلى النمو، النجاح، والتوسّع، إنه اتجاه ذهني يتوقَّع نتائج جيدة وملائمة، كما يتوقع الذهن الإيجابي غَلَبة النهايات الناجحة والطيبة لكل فعل أو وضعية، ولا يقبل كل الناس مثل هذه التوقعات الطيبة، حتى أن بعضهم يعتقد بأنها نوع من المواقف غير الواقعية، كما أنهم لا يأخذون الدعوة إلى التفكير الإيجابي على محمل الجد، إذ يعتبرونها بمثابة تمنيات لا جدوى منها علميا، ذلك أن الناس يميلون عادة إلى إبراز السلبيات أكثر من الإيجابيات في رؤاهم وأحكامهم عند تقويم وضعية ما أو شخص ما أو مجموعة ما).

هذه العدوى الفكرية يمكن أن تجد لها حيّزا واسعا في مجتمعنا العراقي والعربي أيضا، حيث يسود التفكير التشاؤمي كظاهرة بين عموم الناس، ويندر أن تجد من يكسر هذا النمط الفكري بنمط آخر يتّصف بالإيجابية، حتى يبلغ الأمر درجة التندّر والسخرية اللاذعة ممن يطرح على الملأ تفكيرا جديدا جدّيا يروم الارتقاء بالناس إلى مراتب عليا، وحتما أن المراقب المتخصص كعلماء الاجتماع أو النفس لاحظوا هذه الظاهرة في المجتمع العربي، فإذا طُرِحت فكرة سلبية سرعان ما تجد من ينضم إليها ويؤيدها لتكبر وتنتشر في سرعة بين العقول كما ينتشر المرض المعدي، ولسنا هنا في معرض تضخيم هذه الظاهرة، أو المبالغة بها ما فوق الواقع، فكل منصف متعلّم واقعي عالم متخصص وحريص عليه أن يضع النقاط فوق حروفها، والقول بالنزعة السلبية في التفكير العربي لا غضاضة فيه، ولا ينطوي على تهمة مبالّغ بها، فهي الحقيقة التي تم التقاطها في الوسط العربي وكيف يمكن لتفكيره السلبي أن يتضخم لأسباب قد لا يكون له يد فيها.

هذا ما يمكن ملاحظته في المشهد العربي الذي يتم (إغراقه بالسلبيات والنزعات التشاؤمية لكثرة ما تتواتر الأزمات والمعوقات والنكسات، مما يجعل الأحكام السلبية ظاهرة شائعة أو مستفحلة عربيا في تقويم الأمور، نميل إلى الاهتمام بالمشكلات التي تقفز إلى الواجهة في نظرتنا إلى الأمور، ونبالغ في تضخيم هذه السلبيات في أحكامنا على الواقع، كما نميل إلى اصطياد السلبيات والتركيز عليها وتضخيمها في تقويمنا لسلوكيات الآخرين، ويندر أن نقيم موازنة بين إيجابيات وضعية أو شخص وبين سلبياته، كما تقتضيه المقاربة الواقعية للأمور).

وتكمن جذور هذه الظاهرة في طريقة التفكير التي تسود مجتمعنا أو طبيعة التكوين النفسي للإنسان العربي، فالتفكير الانفعالي (العاطفي) غير المبني على قواعد عقلية منطقية، سوف ينتشر بسرعة كبيرة، نتيجة لنمو رأي أو ثقافة القطيع الناتجة في الغالب تحت التأثير العاطفي غير المتعقّل، إذ سرعان ما ينتقل هذا النوع من التفكير السلبي بين الحاضرين من دون وسائط ناقلة وبلا جهد جهيد، ذلك أن العناصر الداعمة له غالبا ما تكون متوافرة في النسيج المجتمعي وطريقة تفكيره، فالتطرف، والحرمان، والشعور بالخيبة، وماهيّة التكوين النفسي العام، كلها عوامل تساعد على انتعاش الجانب السلبي في الرؤية والاستنتاج والتوقع.

ومن الملاحظ أن الجانب السلبي من التفكير له قدرة أكبر من الجانب الإيجابي في اختراقنا وكسبنا وانحيازنا له كمجتمع عربي، إذ يتّصف (التفكير السلبي عموما – بحسب المصدر السابق- بالعدوى الانفعالية أكثر من التفكير الإيجابي. إذ لا يلبث شخص أن يتحدث عن سلبيات حالة ما أو سلوك ما لدى شخص آخر، حتى تقوم جوقة من تداعيات الأفكار السلبية والإدانة أو الملامة أو التبرّم والشكوى. وكل موقف سلبي من أحد الحاضرين يعزز مثيله عند الآخرين، في نوع من كرة الثلج).

كيف يمكن تغيير الأنماط الفكرية السائدة في مجتمعنا؟، سؤال لا يمكن الكف عن ترديده إلا إذا سلّمنا بأن التغيير الفكري بات مستحيلا، وهو تسليم خاطئ وغير واقعي لأن الفكر بطبيعته من أكثر الفعاليات البشرية القابلة للتنوع والتأثّر والتغيير، ولكن تبعا لاشتراطات محددة موضوعة من قبل عقول رائدة متميزة تمتلك قدرا كبيرا من الديناميكية الفكرية التي تؤهلها لوضع لمسات مشجّعة على قلب التفكير من نزعته السلبية الناكصة، إلى تفكير ذي توجّه ينزع إلى التفاؤل الواقعي المحسوب، وليس القائم على استنتاجات مبالَغ بها أو مجافية للحقائق، فالتخطيط الفكري الذي لا يرتكز إلى منصات الواقع وحيثياته لا يرقى إلى ملامسة ما هو مطلوب من أفكار إيجابية تنقذ المجتمع العربي من السياق الفكري التشاؤمي الذي يعصف بهم.

والمرتكَز الأهم في هذا الجانب، أن يكون هنالك جهوزية ذاتية لردم الفجوة الفاصلة بين الواقع والتطلعات الإيجابية، بكلمة أخرى، العقل مطالَب بالنزوع الدائم صوب التفكير الإيجابي المتفائل، عن طريق مناخ ملائم من التقارب بين العقل والرؤية المستقبلية مع وضع التصورات المناسبة لطمس كل ما من شأنه تغليب السلبي من التفكير على الإيجابي، فالإنسان الفرد يقع عليه الثقل الأوضح من مهمة تغيير التفكير من سلبي إلى إيجابي، والخطوة الأولى تكمن في تفتيت كرة الثلج التي تتكور وتنمو من مجموعة السلبيات المتراكمة حولها والتي تلتقط بعضها بعضاً، وإذا ما اقتدر الإنسان الفرد على تهشيم السلبيات، وقلْبِها إلى تفاؤل واقعي، سوف يتخلص التفكير من سلبيته، ويقفز إلى الجانب الآخر، وهو ما ينبغي على الفرد أن يسعى إليه ويجعل منه ضالَّته التي يبحث عنها بدأب.

اضف تعليق