قامت فكرة العلمانية على عقيدة العقلانية التي تصادر الدين، وتنادي بفصله أو عزله، لكنها سرعان ما اتكأت على مفاهيم دينية؛ لتعويض (مصداقيتها) التي أخذت بالانحدار. ومن المعروف أن فكرة الخلق ترتبط بشكل أو بآخر بالدين والغيبيات والعقائد، غير أن العلمانيين أخذوا المفردة (الخلق) وراحوا يتحدثون عن خلق الإنسان لنفسه في سعي منهم لإعطاء صفة الإله للإنسان، بحيث صار هذا التوجه من التفكير أشبه بالدستور الذي قامت عليه الطروحات الليبرالية واليسارية...

قامت فكرة العلمانية على عقيدة العقلانية التي تصادر الدين، وتنادي بفصله أو عزله، لكنها سرعان ما اتكأت على مفاهيم دينية؛ لتعويض (مصداقيتها) التي أخذت بالانحدار. ومن المعروف أن فكرة الخلق ترتبط بشكل أو بآخر بالدين والغيبيات والعقائد، غير أن العلمانيين أخذوا المفردة (الخلق) وراحوا يتحدثون عن خلق الإنسان لنفسه في سعي منهم لإعطاء صفة الإله للإنسان، بحيث صار هذا التوجه من التفكير أشبه بالدستور الذي قامت عليه الطروحات الليبرالية واليسارية.

ومن أهم أسباب تصدع الجدار العلماني؛ التشبث بفكرة لامعنى العالم، واللاجدوى منه بحسب الأفكار العدمية والوجودية المتذمرة من كل شيء، والتي جعلت الإنسان غارقاً في سوداوية تأصلت بفعل العقلية المادية، ووهم الخضوع لمنطق الفردانية، والابتعاد عن المثاليات والغيبيات. ولكن، ومع مرور الزمن؛ وجد الإنسان نفسه بلا سعادة ينشدها،وأنه أصبح أسيراً لإرادات تفكك وجوده، وتستله من ذاته، وتجعله متخبطاً في دوائر من التيه، الأمر الذي جعل البوصلة تعود مجدداً لتشير باتجاه التدين.

وأكبر مشكلة واجهتها وتواجهها الحضارة الغربية اليوم تكمن في تأكيد منطق البقاء للأقوى، خصوصاً مع قوة الحضور التكنلوجي والإتصالي، فالقوي هو الذي يتفوق ويواصل في زمن التكنلوجيا، بينما يترك الضعيف لمصائر مجهولة؛ لأنه ــ وبحسب منطق الغاب هذا ــ غير نافع، وكأننا إزاء وجود استهلاك سلبي نفعي يتم بموجبه فصل كل القيم والمفاهيم من أجل العالم المتسارع بوحشيته التي صارت هدفاً تعمل على تحقيقه الأجندات الضارة، وهو خلل أصاب منظومة الإنسان كما نعتقد هو ذلك التداول السريع لبعض المفردات الساعية لإحداث خلل في المنظومة الطبيعية والفطرية للإنسان، وتوهمه بتحقيق المنفعة السريعة، وهي في الحقيقة (المنفعة) في حال وجودها ستكون منفعة محدودة بزمن يمكن أن نعده أقصر حتى من الظرف الزمني الذي تنشأ وتتفاعل فيه، وبالتالي فإن المستقبل يُغيب تماماً؛ لأن فورة التفاعل والتعاطي البشري مع هذه المنفعة ستختفي بزوال مبررات انتاجها غير الجدية في إيصال الإنسان إلى ضفة المستقبل المضيء. وشيئاً فشيئاً نرى انقلاباً هائلاً على المعنى الحقيقي للمفاهيم بحيث يكون الضد هو الصح والأصل هو الخطأ، فالأخلاق تتحول غلى عنف وكذا بالنسبة لمسميات مثل الحرب والسلام والديموقراطية والديكتاتورية والإيمان والكفر والخير والشر ... الخ، وكل ذلك من شأنه أن يجعل الفرد في دوامة من التخبط والبحث عن الحقيقة التي ستتحول هي الأخرى إلى محض لاجدوى، فيسود الخمول ذلك العقل الذي تنشط مرحلياً بفعل تلك المنفعة غير النافعة، المنفعة القائمة على العبودية المقيتة، والتقليد الأعمى، والاستهلاك العشوائي، ومصادرة القيم.

أن أكثر المجتمعات التي خضعت للمنطق الاستهلاكي العلماني ــ الأمريكية أنموذجاً ــ عاش إنسانها بشكل بالغ السطحية، حيث لاهم له سوى الحصول على رغباته، فهو يحب أن يسافر ويستمتع، ويحصل على الأموال، ويعشق الإثارة التي توفرها له وسائل الإعلام مستسلماً لأمواج الدعاية والإعلان التي قد تساهم بالعبث بمستقبله وتدميره كلياً، وهو أبعد ما يكون عن الانتباه لذلك، خصوصاً مع تغييب واضح لأنساق الثقافة والفكر، وقد أشارت عدة تقارير عالمية إلى تراجع الأدوار الثقافية التوعوية عن وسائل الإعلام الأمريكية، وأنها تقل من سنة لأخرى؛ وذلك لعدم مقبوليتها من عموم المجتمع الذي خدر على أفلام الجنس والعنف والتشويق المُقنَّع.

ويتجلى واضحاً سقوط الرهان العلماني على انحسار الدين ودوره في الحياة؛ لأن منسوب المعتقدات الدينية لازال في ارتفاع بينما يجب أن يكون ــ بحسب رهان العلمانية ــ في هبوط قياساً بموجة التحديثات العالية التي أحدثتها العلمنة في المجتمعات. ويرى عالم الاجتماع (ديفيد مارتن) أن الوظائف التي يؤديها مفهوم العلمنة هي وظائف إيديولوجية معتقداً بعدم وجود أي تحول من مراحل التدين إلى مراحل العلمنة، كما أن (ألكسس دو توكفيل) يعتقد أن الواقع شيء، والنظرية العلمانية شيء آخر ولايوجد تشابه بينهما بأي شكل من الأشكال، ضارباً المثل بالفرق بين شعوب أوروبا وأمريكا حيث يقول : "توجد شعوب في أوروبا لايعادل مدى عدم إيمانها إلا مستوى جهلها وحقارتها، بينما إذا نظرنا إلى أميركا ــ وهي إحدى أكثر دول العالم حرية وتنويراً ــ نجد أن الناس فيها يلبون بكل حماسة جميع الواجبات الخارجية التي يتطلبها منهم الدين"1

وحتى في أوروبا، فإن تقلص الفعل الديني ليس بالضرورة ناتج عن تفوق الرؤية العلمانية، بقدر ماهو يمثل ردات فعل اجتماعية تتأثر ببعض الأحداث الجانبية، فضلاً عن انحسار ظاهرة الإلحاد إذ يرى (رودني ستارك) أن "تصنيف أي دولة بأنها على درجة عالية من العلمانية، بينما لايزال معظم سكانها يؤمنون بالإله لهو طرح سخيف مناقض لنفسه"2

وقد نختلف مع الطرح الأخير في أن جوهر العلمانية هو الإلحاد؛ إلا أننا يمكن أن نتفق على ازدواجية المعايير في الطرح العلماني الذي ينادي بفصل الدين، بينما لاتزال سلوكيات الشعوب التي تُطرح بينها مثل هذه المعايير المزدوجة التي تؤكد اقتراب العلمانية من خريفها الأبدي المحتوم.

----------------------------------
1: يُنظر مجلة الاستغراب، العدد الثامن، صيف 2017 ، ص50
2: نفس المصدر السابق

اضف تعليق