q
يركز السيد مرتضى الشيرازي في كتابه (الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي) على مفهوم (الأمة الوسط) لترسيخ الاعتدال كمشروع حياة يرتقي بالفكر الانساني، ويجعل للتعايش قيمةً تقبل بالآخر، وتسمح بالتحاور معه وفق المشتركات الانسانية بين بني البشر انطلاقاً من التأكيد القرآني : \"وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكون الرسول عليكم شهيداً / البقرة 143\".

يركز السيد مرتضى الشيرازي في كتابه (الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي) على مفهوم (الأمة الوسط) لترسيخ الاعتدال كمشروع حياة يرتقي بالفكر الانساني، ويجعل للتعايش قيمةً تقبل بالآخر، وتسمح بالتحاور معه وفق المشتركات الانسانية بين بني البشر انطلاقاً من التأكيد القرآني : "وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكون الرسول عليكم شهيداً / البقرة 143".

والأمة الوسط في مفهوم السيد مرتضى الشيرازي هي التي "تتميز بالتوازن بين مثلث العلم والفكر والإنتاج والبناء والأخلاق والمناقبيات"1

ويجيب السيد الشيرازي عن إشكال قد يُطرح من خلال الآية الكريمة أعلاه، والإشكال هو هل ان كل من يتشهد الشهادتين ويصلي نحو القبلة مشمول بقوله تعالى : "لتكونوا شهداء على الناس"؟ ويأتي الجواب من خلال فحوى مفهوم (الأمة الوسط)، فهي "نخبة النخبة"

ومعنى ذلك هو أن الأمة الوسط هي الصفوة المنتقاة من قبل الله تعالى، والتي يليق بها لاعتبارات إيمانية وأخلاقية أن تشهد في حضرة الخالق العظيم؛ لأن هذه الصفوة العظيمة هي القادرة على إحداث التوازن الذي لا إفراط ولا تفريط فيه بين العناصر الخاصة بديمومة الحياة وأهمها العلم والاخلاق.

وهذه الصفوة تتمثل بمن أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم، وهم أهل بيت الرسول صلوات الله عليه وآله، والمتخلِّقين بأخلاق الحبيب المصطفى المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق.

نعتقد أن هذا الشرح هو الأقرب لمفهوم (الأمة الوسط) من بقية الشروحات؛ فالمتتبع المنصف لسيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يجد أن فحوى الوسطية متجسد بشكله الكامل، فهم الذين رحموا ورأفوا بأعدائهم، واستوعبوا مخالفيهم وحاججوهم بالمنطق العقلي البعيد عن التشنج أو التطرف المفضي إلى العنف فكانوا فعلاً (أوسط الأنماط) كما يعبر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).

ومن الشروحات التي تناولت هذا المفهوم شرح الدكتور (محمد أبو موسى) عضو هيئة كبار العلماء في مصر، والذي عرضه الكاتب (إبراهيم العجلوني) في صحيفة الرأي الأردنية بتاريخ 14/5/2017، حيث رأى أن الوسطية هي (العدل) طبقاً لقول (أحمد بن حنبل) من أن الوسطية هي العدل.

قد يكون هذا الكلام مقبولاً من الناحية الشكلية؛ لأهمية العدل وتحقيق العدالة، وهو ما أكدت عليه الشريعة الإسلامية في أكثر من نص ومورد. لكن من هو العادل الذي يمكن أن يكون الممثل الحقيقي للوسطية؟ هل هو الحاكم مثلاً؟

وإذا أخذنا بهذا الرأي؛ قد نجد أنفسنا أمام إشكالية كبيرة تتمثل في ضرورة الطاعة العمياء للحاكم كيف ما كان، حتى مع تعين فسقه وفجوره. هذه الضرورة وردت في نصوص وفتاوى تم التأكيد عليها حتى من قبل (أحمد بن حنبل) بقوله: "لو أعلم لي دعوة مستجابة لجعلتها في السلطان" فكيف ندعو للسلطان في دعوة مستجابة في حال لم نتأكد من عدالته التي يشترط أن تكون هي أساس الوسطية؟

كم من السلاطين والحكام لهم من الأخلاق والسلوكيات ما يقترب من التأكيد القرآني في ضرورة اللين وعدم التعصب : "فَبِما رحمةٍ من الله لنتَ لهم ولو كنت فَظَّاً غليظَ القلبِ لانفضّوا من حولك / آل عمران 159"؟

وعندما تحضر مثل هذه الإشكالية حضوراً واقعياً طبقاً لما أوردناه من مثال؛ لابد إذاً من إعادة النظر في المفهوم وإرجاعه إلى ما يتناسب ويتوافق مع العقل والمنطق.

إن العدل لا يعني الحاكم بقدر مايعني التزام الحاكم بمنهج الاعتدال، ووعيه بالرسالات السماوية التي تريد ترسيخ الوسطية كخيار نهائي لصلاح البشرية وخلاصها من مظاهر الفساد والجهل والتخلف، ومن محاولات المتطرفين والمتشددين في تهديم ركائز الوسطية على مستوى العقائد وإنتاج الأفكار، وتعطيل العقل والاستسلام لموروثات وآثار نصوصية تم تحريفها، والعبث بمحتواها الحقيقي؛ لغايات تتعلق بالتسلط، ومصادرة العناصر التي تؤكد على الأمة الوسط كالرحمة والوسطية والتعاون واللين.

لابد للوسطية من تحقيق العلاقة الآمنة بين الذات والمحيط، وتكريس المفاهيم التي تقود إلى الحرية والعدل وغيرها من مكونات الحياة الحضارية. هذه المكونات يمكن الاستدلال عليها من خلال مقاصد الشريعة كما يرى السيد (مرتضى الشيرازي) حيث يقول : " فاللين والرفق واللاعنف واليسر هي من مقاصد الشريعة، والتي تتفرع عنها سلسلة كبيرة من الأحكام ، كما أنها بدورها متفرعة عن المقصد الأعظم للشريعة وهو (الرحمة) وأيضاً (الحكمة)"2

ومفردة (المحيط) التي يراد لها علاقة آمنة مع الذات تتفرع إلى محيط عقائدي واجتماعي وفكري، بحيث تنسجم الذات مع كل مسمى من هذه المسميات بما يحقق تكاملية العلاقة بين أفراد البشرية في جو من الألفة والمحبة والقبول بالآخر الذي يختلف في جزئيات معينة، ويتفق في أخرى، لذلك ينبغي التركيز على ما يُتَّفق عليه، واعتبار الاختلافات حالة طبيعية وإيجابية لا ينبغي أن تكون مدعاة للتناحر والتصارع، بقدر ما تكون حافزاً للتحاور الثقافي والمعرفي ، وتبادل الثقافات، وهو عين ما يريده الفكر الوسطي المعتدل، أو مفهوم (الأمة الوسط).

---------------------------
1:الوسطية والاعتدال في الفكر الاسلامي للسيد مرتضى الحسيني الشيرازي، ص11
2:نفس المصدر السابق، ص15

اضف تعليق