q

لا يخفى أن الجوهر الحقيقي للتشظيات التي يعيشها الإنسان بصورة عامة، وإنسان الشرق الأوسط على نحو التخصيص؛ سببه هو التحديات التي أنتجتها العولمة، فضلاً عن النقلات التي أحدثها صراع المفاهيم وانتقالها من طور إلى آخر بسرعة تبعث على الاستغراب، بحيث لا يكاد الباحث ينتهي من استخلاص خلاصة معرفية تجاه مفهوم معين حتى يباغته ذات المفهوم بانتقاله إلى ما بعده كما في الحداثة وما بعد الحداثة. وقد أحدث هذا التصارع المفاهيمي نوعاً من الانقسام الحاد بين إنسان القيم والأخلاق من جهة، وبين إنسان الخضوع لعصر الانفجار والسرعة الذي يكاد يكون المهيمن حالياً بفضل العولمة من جهة أخرى.

ومن البديهي القول بأن الإنسان هو قطب الوجود، والسبب الرئيس في التحولات الحضارية والتاريخية التي مرت عبر أزمنة وقرون خلت. فنعمة العقل التي وهبها الله له وكرمه بها وميزه عن سائر الموجودات جعلته ينتقل تدريجياً من أطوار حياتية إلى أخرى، كالانتقال من حياة البر والتصحر إلى حياة القرى والعشب والزراعة، وهكذا وصولاً إلى طور التمدن الحياتي، الأمر الذي يقطع أي شك في أن الإنسان هو مبدع الحضارة ومنتجها.

لكن الخلل الذي أصاب منظومة الإنسان كما نعتقد هو ذلك التداول السريع لبعض المفردات الساعية لإحداث خلل في المنظومة الطبيعية والفطرية للإنسان، وتوهمه بتحقيق المنفعة السريعة، وهي في الحقيقة (المنفعة) في حال وجودها ستكون منفعة محدودة بزمن يمكن أن نعده أقصر حتى من الظرف الزمني الذي تنشأ وتتفاعل فيه، وبالتالي فإن المستقبل يُغيب تماماً؛ لأن فورة التفاعل والتعاطي البشري مع هذه المنفعة ستختفي بزوال مبررات انتاجها غير الجدية في إيصال الإنسان إلى ضفة المستقبل المضيء. وشيئاً فشيئاً نرى انقلاباً هائلاً على المعنى الحقيقي للمفاهيم بحيث يكون الضد هو الصح والأصل هو الخطأ، فالأخلاق تتحول غلى عنف وكذا بالنسبة لمسميات مثل الحرب والسلام والديموقراطية والديكتاتورية والإيمان والكفر والخير والشر ... الخ، وكل ذلك من شأنه أن يجعل الفرد في دوامة من التخبط والبحث عن الحقيقة التي ستتحول هي الأخرى إلى محض لاجدوى، فيسود الخمول ذلك العقل الذي تنشط مرحلياً بفعل تلك المنفعة غير النافعة، المنفعة القائمة على العبودية المقيتة، والتقليد الأعمى، والاستهلاك العشوائي، ومصادرة القيم بذريعة تجديد الأفكار.

وقد يكون للترابط بين التكنلوجيا والإيديولوجيا دور حيوي في الوصول إلى تشظية سياسية واقتصادية وثقافية، تمهيداً لمشروع أكبر يتمثل في لملمة المتشظي من القيم، ثم تبدأ عملية إعادة الانتاج، ثم وضع المنتج العولمي في دائرة خاضعة لسلطتها، فتزيد حالات الاغتراب البشري، ويتعزز الشعور الوجودي باللاجدوى، قبل أن يتحول الاغتراب إلى يقين مضطرب بضرورة استعادة ماتم فقدانه من خصوصية وهوية، فتتكون الجماعات والتيارات يجمعها هاجس الضياع على مائدة مضببة ومأزومة. والأخطر أن تتحول تكنلوجيا الاتصالات إلى فعل تبريري لحالات العنف والكراهية المنتشرة في العالم، والتي تتغذى على مخرجات العولمة بعد طلائها بألوان ثقافية براقة وجذابة، وقد بتسع الحديث هنا للاستشهاد بعشرات الصور الثقافية والفكرية المعاصرة، والتي تؤكد هذا النمط المُقنّع من العلاقات بين المفاهيم، فالإنسان الحاضر في هذه الصور إنسان هيكلي تُحركه محددات مبرمجة عولمياً محدثة شيئاً من التجريدية العشوائية لشكل الإنسان وصورته المتلاشية في الثقافة، في ظل سيادة العرقي على الأخلاقي عبر تحركه في عتمة عقلية هائلة.

كل هذه المعطيات، لابد من تكثيف الجهود البحثية الراصدة لخطر التداخل بين الراديكالية والتطرف الحداثي بمباركة عولمية، وذلك يكون من خلال استقلالية فكرية تتيح حرية العقل، وتمكنه من تفعيل الممارسات النقدية، وذلك بعدم إخضاعه لسلطات الإيديولوجيات المتصارعة من أجل البقاء على حساب كرامة الإنسان ووجوده.

نحن اليوم في أشد حالات الاحتياج لإعادة صياغة المنظومة الاجتماعية الإنسانية من خلال بلورة برامج وأفكار ومشاريع تساهم في بناء الذات وتعزيز الفاعلية الابداعية بعيداً عن التسرع والطيش، الذات التي تكون المعادل الموضوعي والكفء الحقيقي لوظيفة الإنسان في الحياة، تلك الوظيفة التي لا تجعله أسيراً لمواريثه التي عبث الانحراف والزيف في أكثر مفاصلها، وبنفس الوقت لا يركض بخطوات عشوائية غير محسوبة باتجاه المفاهيم التي تجعل من غموضه وضبابه هاجساً يطارده في حل وارتحال. ولابأس أن تتم عملية إعادة الصياغة بإحداث فعل تقارب بين الثقافة والعولمة وذلك عبر تمييز الإنساني من نقيضه اللاإنساني، وذلك لن يتم إلا بنبذ الاختلاف المؤدي إلى التشرذم بعد تشخيص جذوره ومسبباته التي قادت البشرية لكوارثها طيلة الفترات الزمنية السابقة، لا بتركه وفق منطق إهمال الماضي الذي للآن يزيد من مساحات الخدر على الخريطة الفكرية اليوم. لابد من اعتماد المقاييس الناضجة والعقلانية في إبراز صورة الإنسان في شكل ثقافي واضح متحرر من العقد والأزمات التي تحيط به من خلال العودة إلى الفطرة السليمة التي تحرره من الوحش الذي دخله من نافذة العولمة، وجعلته أسيراً لها ولإشكالياتها التعقيدية بحيث ضرب بعرض الجدار كل المكونات التي تشركه مع الآخر حضارياً وإنسانياً. إن الأشياء التي تجمع بني البشر أكثر من التي تفرقهم، فقط نحتاج إلى برامج توعية تقف في منتصف العلاقة بين الأصالة والتجديد، برامج شعارها الأخلاق والقيم، وليس المنافع والمصالح للمشاريع الغامضة.

اضف تعليق