q

قبل الولوج في كيفية توظيف الأيديولوجية من قبل الحكام الفرديين، أو أنظمة الحزب الواحد، سوف تكون لنا إطلالة إلزامية على مفهومها كما وُضِع من المفكرين، فمنهم من رأى بأن الأيديولوجيا هي علم الأفكار وأصبحت في عصرنا الحالي تُطلق على علم الاجتماع السياسي تحديدا، ومفهومها متعدد الاستخدامات والتعريفات، فمثلا يعرفه قاموس علم الاجتماع بمفهوم محايد باعتباره نسقا من المعتقدات والمفاهيم، تسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منطق يوجه ويبسط الاختيارات السياسية، أو الاجتماعية للأفراد والجماعات.

وحول التفسير اللغوي لها، فهي باليونانية القديمة: إيديا، فكرة، ولوغوس علم، خطاب؛ وبالعربية: الأدلوجة، الفكروية، الفكرانية، العقيدة الفكرية)، وقد تناولت العديد من التعريفات جانباً أو أكثر من جوانب هذا المصطلح، بوصفه مفهوماً حديثاً، إلا أن التعريف الأكثر تكاملاً يحدد بحسب المختصين يرى أن الأيديولوجية هي "النسق الكلي لـلأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة، وهي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي، وتعمل على توجيهه.

وما يغني هدفنا في هذه المقالة هي (الأيديولوجية السياسية) التي يلتزم ويتقيد بها رجال السياسة والمفكرون إلى درجة كبيرة، بحيث تؤثر على حديثهم وسلوكهم السياسي، وتحدد إطار علاقاتهم السياسية بالفئات الاجتماعية المختلفة)، والسبب يكمن في أنها تمثل (الفكر) الحامي للسلطة، وقد يكون هذا هو السبب الذي حدا بعلماء السياسية الى فهم الأيديولوجية السلطوية بأنها الفكر الذي يؤمن به الحاكم الفردي أو حزبه وكتلته السياسية التي (يجب أن تؤمن بهذا الفكر جبرا وليس إيمانا أو اقتناعا)، فالحاكم هنا يستند الى تكتل حزبي يحمي به سلطته، فتُصبح الأيديولوجية هنا الدرع الفكري الحامي للسلطة ورأس النظام.

ولو سُئلْنا هل توجد أنظمة سياسية تصلح لكشف كيفية توظيفها للأيديولوجية في حماية سلطتها، فالجواب أن التاريخ بأبعاده الثلاثة (القديم، المنظور، المعاصر)، يغص بهذه التجارب (الفردية الدكتاتورية) السلطوية التي عانت منها الأمم والشعوب، ويكفي أن نذكر دكتاتوريات (أفريقيا)، و(أمريكا اللاتينية) كمثال وافٍ يحقق ما نصبو له، ولو دخلنا بعقولنا أبواب التاريخ العربي الإسلامي، فستلوح لنا تباشير الكارثة السلطوية في نماذج عديدة لأنظمة سلطوية متوحشة، تبدأ بالعصر الأموي السلطوي، وقد لا تنتهي بدكتاتوريات، صدام حسين، ومحمد حسني، والقذافي وغيرهم.

فهذه الأنظمة الفردية السلطوية، حمَت سلطتها بأيديولوجية فردية قامعة، معتمدة على أحزاب تحكمها المصلحة والنفعية، وليس الإيمان بما تطرحه الأيديولوجية القمعية من قيم ومبادئ، ظاهرها يلمع كالماس، وباطنها ظلام دامس، فقلّما تصمد العروش الفردية بلا حزب يدعم سلطتها، فتستطيل مخالب الفكر السلطوي، ليطول كل من يعلن على الأنام عصيانه أو رفضه لأيديولوجية الحزب الحاكم.

ولا تزال دماء الشهداء، ساخنة في العديد من الدول العربية والإسلامية التي استمات حكامها وأحزابهم، لدرء خطر المعارضين عن عروشهم المهلهلة، حتى الفكر المنظّم ومخالبه الحادة لم تستطع أن تحمِي الفرديين الجبابرة من الانسلاخ عن كراسيهم عنوة، وها قد عجزت مخالب الأيديولوجية عن الاستمرارية الرعناء في تقليم أظافر معارضيها، فهَوَتْ تلك الدكتاتوريات، من أخمص القدم حتى قحفة الرأس، من أعلى سلطة (الحاكم) إلى أصغر (برغي) يربط جزءاً من أضلاع النظام الضال.

وتبعاً للسقوط المدوّي لأنظمة الفكر السلطوي، سقطت الأيديولوجية وانتهى عصرها، وبإعلان إنتها عصر الأيديولوجية بأقلام المفكرين المبرزين، فقد قارب عصر التهويل الفكروي السلطوي على النهاية، حتى إمبراطوريات الخليج الصغيرة المحتمية بالفكر الوراثي السلطوي، شارفت على مغادرة عروشها، شاءتْ أم أبتْ، بالأخص بعد أن لفظت الأيديولوجية أنفاسها.

حتى وإن حاجج أحدهم بأن الفكر السلطوي ما فتئ يسجل حضورا بدرجة ما في عصرنا هذا، فالأصح والأثبت هو استمرارية زوال الأنظمة المعمَّدة بالفكر المحتمي بمخالب الأيديولوجيا، وشاهدنا قبل أسابيع أو أيام رحيل آخر دكتاتور أفريقي في زمبابوي (موغابي)، بعد أن أسقطته المعارضة، فعجزت كل مخالب الفكر السلطوي عن حمايته رغم تشبثه المستميت وبلوغه 94 من العمر، وفي مصر عجز الحزب الوطني بكل ما يمتلك من أيديولوجية، فأضحى مؤسسه وقائده حسني ورموز نظامه خلف القضبان وتهاوى عرشه.

وأحيانا تتشابه نهايات الطغاة، كما بين القذافي وصدام، فالأول صنع كيانا فكريا سلطويا مهلهلا بكتابه الأخضر اليتيم، وظاهرا سلّم السلطة بيد المنظمات الجماهيرية، ومبطّنا شخصه الذي يدير السلطة ويوجّه مقودها، أما الثاني فبدت حصانه الشوفينية تتدهور، حتى ذاب حزبه في أسابيع، وانتهى به الزمن في (حفرة) لم تزل محط هزء العراقيين والعالم.

فمع كل ما فعله الحكام المحتمين بالأيديولوجية الحزبية، وصرفهم لآلاف المليارات، لكنهم انتهوا الى مزبلة التاريخ، ولم يعوا حتى آخر لحظة من حكمهم أن السبب الرئيس في سقوطهم، هي مخالب الأيديولوجية التي بدلا من أن تقلم أظافر معارضيهم، توهّمت فقلّمت أظافر الحكام المحتمين بها، ويا للمفارقة الكبرى، حين تُبصر عيون الطغاة مطعَّمة بالخوف والهلع، يكسوهم الرعب ويهز قلوبهم، في تلك اللحظة ربما عرفوا فداحة وقسوة ووحشية الرعب الذي قذفوا به في قلوب ونفوس الملايين ظلما واستهتارا.

وهكذا انتهى عصر الأيديولوجية، وخذل الطغاة وأحزابهم الباهتة، ليبدأ عصر جديد يتسامى فيه الفكر الحر، لدرجة أن ديباجة المفكرين الأحرار، وصفته على أنه عصر الفكر الديمقراطي التحرري، وليس من باب الأمل الكاذب أن تتزين أصوات المفكرين المعاصرين بآراءٍ تصر على أن العالم البشري، قد دشّن عصرا جديدا من الحرية الفكرية بما فيها السياسية، فوُلد نظام عالمي قرر اقتلاع الطغاة واحدا إثر آخر، بعدما شرع بتقليم مخالب الأيديولوجية، وقص أظافر المغرمين بها، لينتهي عصر دموي، وتنفتح آمال عريضة بعصر الحرية الواقعي.

اضف تعليق