مع الموافقة والترحيب الذي حصل عليه بيتر غالبريث من قبل القيادات التنفيذية والحزبية في إقليم كُردستان في تقديم إقتراحاته حول الدستور العراق الدائم، إزداد تحمساً في لعب دوراً أساسياً في مجريات عملية كتابة مسودة الدستور العراقي أثناء مداولات القوى الكُردية الرئيسية مع القوى الشيعية التي كانت معارضة في الغالب للنظام السابق، والمتحمسة أيضا للحكم في النظام السياسي الجديد، وبعض الأطراف السُنية في ظل معارضة ساحقة للنظام السياسي الجديد من قبل أغلب الرموز والقوى الدينية والسياسية والمجموعات المسلحة (بعثية وسلفية) التي تصنف نفسها على أنها ممثلة لهذا المكون.
وبعد مساهمته (بيتر غالبريث) في صياغة بنود الدستور المحلي لإقليم كُردستان، كما كان يقول في مذكراته: كُردستان لابد لها من الإمساك بالمبادرة من خلال تدوين دستورها قبل أن تبدأ العملية الدستورية العراقية. فحث أولاً زعيمي الحزبين الكُرديين الأساسيين بأن لا يتفاوضا بشخصيهما مع الأطراف السياسية في بغداد كما يذكر في إحدى مذكراته: "حثثت البارزاني والطالباني على العمل من خلال مفاوضين بدل مشاركتهما المباشرة في المباحثات الدستورية"، ويعلل ذلك لسبب يتمثل بالآتي: إن القادة باعتقاد بيتر غالبريث نادراً ما يفهمون المعاني المبطنة في النصوص، وحين يجلسون إلى مائدة التفاوض يقعون تحت ضغوط تقديم الإجابات الفورية، وهنا غالبريث كأنما يتقمص دور الخبير في علم النفس السياسي.
يقول بيتر غالبريث: "إن كل ما كان يريده الأكراد لتخطيهم لعراق فيدرالي أو تحويلاً للسلطة"، أي أن تمنحهم بغداد بعض الحقوق، هنا حثهم بيتر غالبريث على قلب المعادلة كما أوضح في مذكرة بعث بها إلى كل من: برهم صالح، ونيجيرفان بارزاني، ميز فيها بين الفيدرالية ومقترحات الحكم السابقة منها: ذهابه إلى أن الفيدرالية نظام يعمل من الأسفل إلى الأعلى فالوحدة التنظيمية للبلاد هي الولاية أو المقاطعة، أي يتم تكوين الولاية أو المقاطعة التي تفضو المركزية بتولي بعض السلطات، فالأمر يختلف عنده عن ترتيبات الحكم الذاتي التي تقوم بموجبها الحكومة المركزية بمنح ما تختاره من السلطات إلى السلطة المحلية، وبموجب النظام الفيدرالي تبقى السلطات المتبقية بأيدي الوحدة الفيدرالية، كما رأى بيتر في حال تحقق ذلك ليس في مقدور الحكومة المركزية أن تلغي وضعاً أو سلطة فيدرالية في حين أنها قادرة على الإلغاء بموجب ترتيبات الحكم الذاتي.
وحث غالبريث الكُرد على تبني وثيقة مختصرة نسبياً فيها توضيح دقيق لسلطات حكومة كُردستان بالمقارنة مع سلطات الحكومة في بغداد، وقد أبرز أيضا ثلاثة قضايا أساسية: النفط، والشرطة، والقوات المسلحة، إذا ما كانت كُردستان ستحكم ذاتيا ما لم يكن لديها مصدر للدخل إذ أنه يدرك أن العراق ليس له مصدر إقتصادي غير النفط. كما حثهم على إمتلاك، وإدارة مواردهم النفطية الخاصة بهم (تصدير النفط)، وهذه ستشكل فيما بعد إحدى أهم نقاط الخلاف ما بين الحكومة الإتحادية في بغداد، وحكومة إقليم كُردستان على الرغم من المفاوضات التي أجراها الطرفان إلا أن المشكلة هذه لم تنتهي، إذ غالباً ما تصرح حكومة بغداد بأن حكومة الإقليم لا تلتزم بمضمون الإتفاق، وعدم الرجوع للمركز في مسألة تصدير النفط عبر (شركة سوموا/الخاضعة لإشراف الحكومة العراقية)، إضافة إلى السيطرة الكاملة للإقليم على الإيرادات الإقتصادية والتجارية الأخرى والمنافذ الحدودية بالرغم من أن حكومة الإقليم تأخذ نسبة 17% من الميزانية السنوية العامة للدولة العراقية التي يقرها البرلمان كل عام.
كما أكد بيتر للكُرد على ضرورة وضع ضمانات صريحة لكُردستان بالسلطة اللازمة لتأسيس وإدامة وضبط قوة للدفاع المدني عن كُردستان، رغم زعمه بأن تطلعات البنتاغون في تكوين جيش عراقي موحد بعد حل الجيش العراقي السابق. ويشير غالبريث في مذكراته للكُرد على أهمية أن يقر الدستور العراقي الدائم بأن دستور كُردستان والقوانين الكُردية الأخرى هي التي سيتم العمل بموجبها في حال نشوب خلاف: "لابد للدستور أن يؤكد بأن دستور كُردستان والقوانين الصادرة بموجبه هما قانون البلاد في كُردستان، وفي حال نشوب خلاف بين قوانين كُردستان، وقوانين أو دستور العراق، سيتم تسويته بموجب قوانين كُردستان".
وفي ضوء تقدم القوى الكُردية في مداولاتها مع باقي القوى العراقية حول كتابة الدستور العراقي يمكن القول، كذلك أن بيتر غالبريث كأنما يريد أن يعلن بأنه حقق إنتصاراً للقوى الكُردية وحلمهم القومي عندما أصبحت أفكاره هذه في نهاية الأمر الأساس الذي أرتكزت عليه مقترحات كُردستان في شأن الدستور العراقي كما جاء في كتابه (نهاية العراق)، في إشارة إلى مواده الآتية: (117/أولاً) و(120) و(121). وتحقيق هذه الطموحات باعتقاد غالبريث يساهم في إستقلال الكُرد مستقبلاً عبر هذا التنصيص الدستوري على موقع الكُرد ومكتسباتهم، ولعل أولى الإشارات في دستور العراق التي يعتقد غالبريث أنها جعلت الدولة العراقية في طريقها للتفكك هو الباب الخامس (سلطات الأقاليم) وتناوله إلى مكونات النظام الإتحادي في المادة (116) من الدستور.
كما أن بيتر غالبريث إستطاع أن يحقق للكُرد إعترافاً ضمنياً ولأول مرة في تأريخ الدساتير العراقية بضم محافظة كركوك إلى الإقليم عبر ما جاء في المادة (140) من الدستور، بعد أن لمس رغبة قومية من قبل القيادات الكُردية في جعل كركوك كمدينة متنازع عليها ضمن أي تطور مستقبلي يخص الجغرافية السياسية للإقليم، إذ أن كركوك عند القيادات السياسية القومية تمثل: (عروس كُردستان). وإذا كانت القدس قبلة المسلمين الأولى فإن كركوك عند الكُرد تمثل: (قدسهم) مثلما ينقل بيتر غالبريث عن زعيم حزب الإتحاد الوطني ورئيس العراق الراحل جلال الطالباني. وقد إزداد تمدد الكُرد بالخارطة الجغرافية السياسية مع سيطرة قوات كُردية بالكامل على مناطق أخرى أو ما يعرف بسياسة الأمر الواقع الذي عبر عنها رئيس الإقليم مسعود بارزاني بقوله: (الحدود ترسم بالدم)، جاء هذا التطور أو سياسة ضم الأرض للإقليم الذي يتمناها بيتر غالبريث أثناء المعارك التي تخوضها القوات العسكرية العراقية ومن ضمنها قوات البيشمركة وحزب العمال إضافة إلى فصائل الحشد الشعبي لتحرير المدن في محافظة الموصل من خلايا تنظيم داعش الإرهابي.
وعليه يرى بيتر غالبريث طموحات الكُرد في تكوين دولة كُردستان في معالمها التأريخية وحدوها الجديدة بالإستقلال عن العراق ومن شأنها أن تحقق الإستقرار: "الأكراد الذين أعرفهم يريدون كُردستان مستقلة، وأنا أتعاطف معهم"، ويعلل غالبريث رأيه هذا من قراءته التأريخية للمجال السياسي في العراق: "إن إلقاء نظرة على تاريخ العراق التعيس منذ ثمانين عاما من شأنه أن يوضح بأن الجهود المبذولة في الحفاظ على تماسكه هي التي تسببت في تقويض الإستقرار".
ويشير إلى تجدد هذه الرغبة بصورة مباشرة بعد سقوط النظام الإستبدادي السابق في عدة مناسبات منها في أيلول من عام 2004 حيث يقول: "طلب مني منظمو حركة الإستفتاء أن التقي بهم بفندق الشيراتون الجديد في أربيل، وأثناء تناولنا القهوة التركية تباحثنا حول الطرق التي روجت من خلالها حركات إستقلال أخرى لقضاياها، رويت لهم أن واحدة على الأقل من حركات الإستقلال، إجراء إستفتاء غير رسمي في نفس يوم إنتخابات البلاد العامة من خلال مراكز أقتراع قريبة من المراكز الرسمية"، في إشارة إلى أول إنتخابات برلمانية بعد إنتخاب الجمعية الوطنية المخولة بكتابة الدستور بعد إصرار السيد السيستاني (أعلى مرجعية دينية في العراق) على أن يكتب عن طريق لجان منتخبة، إذ كان السيستاني يأمل أن يكتب الدستور بطريقة ديمقراطية، لكن الذي حصل هو كتابته بلغة المكونات وعملية التحاصص التي سادت في البلد بعد عام 2003، فجاء الدستور العراقي مشوهاً ولا يساعد على الإستقرار السياسي والمجتمعي.
وعموماً يحلق بيتر غالبريث بعيداً في مشروعة التقسيمي وخياره المفضل عندما يذهب أيضا إلى ما أسماه بتقسيم العراق لم يكن يعود إلى فترة سقوط النظام، وإنما يرجع قبل هذا التأريخ، حيث يرى بأن العراق قسم إلى ثلاثة كيانات (كُردية، شيعية، سنية)، وبدأت معالم هذا التقسيم عندما إنفصلت كُردستان في عام 1991، كما أسفرت ما أسماها بـ"الثورة الشيعية" في إشارته إلى أحداث عام 1991 أو ما عرفت بالإنتفاضة الشعبانية، وكذلك يرى ما وصفها بالحرب الأهلية التي أتهم السنة بإندلاعها (بادر إليها السُنة)، ساهمتا باعتقاده بتجزئة العراق وفق خطوط طائفية، ولعل بيتر غالبريث من أجل الوصول إلى أهدافه يحاول أثناء تحقيبه في تأريخ العراق المعاصر أن يفتعل شرخا هنا ويزيد على شرخاً هناك بين القوى والشرائح والمجموعات العراقية، من أجل الوصول إلى مشروعه بتفكيك العراق أو ما أسماه بـ(نهاية العراق). وسنحاول تسليط المزيد من النقد على مشروعه هذا في الجزء القادم.
اضف تعليق