q

اُجري مؤخرا في تركيا استفتاء على التعديلات الدستورية بتحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي يمثل نقطة تحول في تأريخ تركيا الحديثة، فيمكن القول أن نتيجة الاستفتاء ستدخل تركيا بمرحلة الجمهورية الثانية وانتهاء مرحلة الجمهورية الأولى التي مثلتها المبادئ الأتاتوركية الستة وأهمها العلمانية وتدشين مبادئ الأردوغانية الإسلامية.

مثلت نتيجة الاستفتاء –سياسيا- إنقساما حادا في المجتمع التركي قد لا يتيح أن تتمركز الأردوغانية في النسق الفكري والثقافي، لأن الاستفتاء كان انتصارا بالحد الأدنى فأردوغان فاز بفارق حرج ومحدود وضئيل حتى أن صحيفة "دي فيلت" الألمانية عنونت افتتاحيتها حول الاستفتاء (انتصار يعادل هزيمة). وهذا ما نعتقده ونتصوره، الهزيمة ستكون كسرا للحواجز الواقية للديمقراطية في تركيا واعتبار النظام الرئاسي رصاصة الرحمة لمستقبل الديمقراطية التركية وعلاقتها بمحيطها الإقليمي والدولي.

والاستدلال على ذلك كان عبر اللجنة الانتخابية التركية التي أعلنت أن نسبة المشاركة بلغت 85% في الاستفتاء وفازت الـ(نعم)، لكن معسكر رافضي تعزيز السلطات الرئاسية فاز في المدن الكبرى الثلاثة إسطنبول وأنقرة وأزمير. كذلك، صوتت مناطق جنوب شرق البلاد حيث غالبية السكان من الأكراد، بشكل كبير ضد توسيع صلاحيات الرئيس. مما يعني أن الاستفتاء يعكس مدى إنقسام البلاد وخطورة هذا الإنقسام على مستقبل تركيا واستقرارها السياسي ونظامها الديمقراطي الذي أصبح أكثر هشاشة.

إن نسبة المصوتين بنعم لا تتعدى ٥١% وكثير منهم صوت بدافع الخوف والرعب من تبعات الملاحقات والاعتقال والفصل الوظيفي والقمع بحجة حالة الطوارئ.

أردوغان فاز بالسلطة المطلقة وفوز أردوغان كان مرده إلى تكريس كل أوقات البث في الإعلام الرسمي للترويج للنعم وكذلك إلى المضايقات والتخويف وإقفال المؤسسات الإعلامية المعارضة بحجة حالة الطوارئ التي أقرت بعد محاولة الإنقلاب الفاشل في تموز ٢٠١٦.

أردوغان سوف يستغل صلاحياته الجديدة والتفويض الشعبي للعمل على تصفية المعارضين ثم ينتقل إلى خطوة حل البرلمان ما قد يؤدي بفوز كاسح لحزبه بعد أن اهتزت الأحزاب المعارضة جراء القمع والخوف وتوظيف القضاء والشرطة والإعلام ضدهم.

الخطوة الأهم في هدم أسس الديمقراطية هو أن علاقة تركيا مع أوروبا سوف تدخل مرحلة جديدة بعد الاستفتاء، ‎بالرغم من الحملات السياسية والإعلامية التي تطمئن خلاف ذلك، فلا نعتقد أن تركيا ستبقى بالنسبة للغرب شريكا أساسيا وعنصرا مهما في التوازنات الإقليمية، خاصة إذا ما شرع في الحصول على تعديل دستوري جديد يتيح الحق بإعادة العمل بعقوبة الإعدام في تركيا مما يبعد خطوط التلاقي مع أوربا التي تعد مهد الديمقراطية وبوابة تكريسها في تركيا في حال دخولها للنادي الأوربي.

إذن مشكلة تركيا ستكون هي رجب طيب أردوغان التي لا تتعدى شخصه وموقعه في السلطة المطلقة، إذ سيكون استقرار المؤسسات وحيويتها موضع للشك في حال حصول الرئيس على كل الصلاحيات من دون منازع.

‎وإذا جعل أردوغان السلطوية والدكتاتورية بدل الديمقراطية، والأهم بعد الاستفتاء التساؤل عن إعادة تأسيس تركيا ودورها هل سيبقى توجهها نحو الغرب أم سيكون هناك طموح مع رجب طيب أو من دونه لتسلق سلالم الزعامة في الشرق أو الدخول في نفق التفكك.

مع كل ذلك فالكل يعرف أن الرئيس التركي المعروف بالبراغماتية والنفعية واللهث وراء المصالح دون قيود أو موانع ورغم طبعه الحاد والمتعصب يمكن أن يكون قادرا على تلطيف النبرة والتوجه مع أوروبا وإبداء مبادرة إنفتاح تجاه الأكراد بعد الاستفتاء، وسيجيز التعديل الدستوري الذي صوت عليه الأتراك في وقت سابق، للرئيس التركي البقاء في السلطة حتى 2029 على الأقل. حينئذ سيكون بلغ الـ75 من العمر إن التمس خيار تلطيف الأجواء مع الخصوم الأكراد وغيرهم وأوروبا وجيرانه.

خلاصة القول تتجسد بالاحتمالات الآتية:

1- إن الاستفتاء على تعديل النظام السياسي في تركيا إلى النظام الرئاسي جاء كرد فعل للعلاقة المتشنجة مع أوروبا والتحديات الإقليمية والمحلية.

2- إن تركيا بعد إقرار النظام الرئاسي ستتحول من دولة إقليمية علمانية ذات ديمقراطية فريدة في المنطقة إلى التدحرج نحو حكم الفرد الواحد والحزب الواحد بأصول وتوجهات إسلامية متشددة.

3- ستدخل تركيا عهدا جديدا يمكن أن نسميه الجمهورية التركية الثانية وتوديع المبادئ الكمالية الستة والتوجه نحو المبادئ الأردوغانية المتشددة.

4- علاقة تركيا مع الغرب ستدخل مرحلة معقدة بين الطرفين أساسها التنابذ والمواجهة مما يمكن أن تستدير تركيا أتجاه روسيا والصين وشرق أوروبا.

5- من المحتمل تطبيق النظام الفيدرالي في تركيا في المناطق غير المؤيدة للنظام الرئاسي ولأردوغان بسبب الإنقسام الحاد في المجتمع التركي إزاء الاستفتاء ودخول تركيا مرحلة من مراحل عدم الاستقرار السياسي رغم رفض هذا الخيار من قبل حزب الحركة القومية المتحالف مؤخرا مع حزب العدالة والتنمية الذي يؤيد هذا الإجراء تكتيكيا.

6- من المحتمل أن يحكم أردوغان بمنطق حل الأزمات وتبني مقاربات شاملة للتحديات التي تواجه تركيا داخليا وخارجيا بأن يتصالح مع الأكراد ويعقد معهم أتفاق سياسي أو أطار عمل وفق الفقرة أعلاه مع تصويب البوصلة نحو الغرب لإمتصاص النقمة الدولية والداخلية الراغبة بهذا الاجراء، ويكون بذلك غطى على مساوئ النظام الرئاسي بمزايا النظام البرلماني الملغى لكن بقراره هو ورغبته وليس عبر الحوار والمشاركة واسترضاء الأطراف الأخرى والخصوم وهذا هو الفرق الذي يعني لأردوغان كثيرا.

7- إنعكاسات نتائج الاستفتاء التركي على العراق، تتمثل باحتمال تدشين تركيا استراتيجية جديدة للتوسع العسكري والأمني والإستخباراتي في المجال الحيوي العراقي مع توقع إعادة الانتشار للقوات التركية في هذا المجال، خاصة مع توفر منصة وغطاء سياسي من إقليم كردستان لمواجهة التمدد لحزب العمال الكردستاني في سنجار والحشد الشعبي في تلعفر مما يولد حالة من الأستقطاب والتنافس على النفوذ الإقليمي في العراق، وهذا الموقف يضع العراق بموقف ضعيف إقليميا ويصعد من حالة التوتر في "عراق مابعد داعش".. مما يحتاج إلى حلول ورؤى ومقاربات ناجعة لمواجهة هذا الاحتمال.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001-Ⓒ2017
http://mcsr.net

اضف تعليق