q

مع تقهقر تنظيم داعش الارهابي في العراق واقتراب حسم معركة تحرير الموصل، طفت على السطح جملة مشاكل بعضها قديم متجدد كتحديد عائدية المناطق المتنازع عليها بعد تحريرها من سيطرة التنظيم وما يرتبط بها من صراع مكوناتي، وبعضها الاخر جديد له ابعاد قديمة وتحديدا فيما يتعلق بطريقة إدارة الحكم في العراق بعد التخلص من سطوة التنظيم، في ظل عودة مشروع الاقاليم الى الواجهة من جديد وتبنيه من قبل اطراف كانت معارضة له في السابق، والمقصود هنا (بعض الفصائل السنية). كل ذلك يحصل في ظل صراع إرادات دولية وإقليمية جعلت من الساحة العراقية مسرحا لها.

عودا على بدأ، فقد اشار الكثير من الباحثين والمحللين، حتى السياسيين انفسهم الى ان (عراق ما بعد داعش) سيكون اكثر تعقيدا، فالطموحات الكردية ارتفع سقف مطالبها علنا بإعلان رغبتها ضم مناطق اخرى تشمل سنجار ومناطق من كركوك وديالى، وفي هذا الصدد صرح مسؤولون اكراد بأن: (العراق ما قبل سقوط الموصل لن يعود كما كان). وتأكيدات رئيس الاقليم (مسعود البرزاني) على ان (جهود قوات البيشمركه لن تذهب سدى)، وتكرار تهديداته بإعلان (استقلال الاقليم)، والعيش كدولة مستقلة تتمتع بعلاقة "حسن الجوار" مع جارها الجديد (العراق).

هذه الطموحات الكردية غالبا ما تصطدم بمعارضة القوى السياسية (السنية) و(الشيعية) على السواء، مع الاجماع على ان تحطيم هذا الحلم يكاد يكون هو الرابط الوحيد الذي يجمع بين الفصيلين المذكورين.

فالجانب السني وعلى الرغم من كونه مدرك تماما بأن الحشد الشعبي هو الوحيد القادر على إيقاف التمدد الكردي، لا سيما بعد احداث (طوزخورماتو) العام الماضي والمصادمات التي حصلت بينه وبين قوات البيشمركه، الا انه في الوقت نفسه متوجس كثيرا من إمكانية تزايد نفوذ هذه المؤسسة، لا سيما بعد إصدار قانون خاص بها في مجلس النواب العراقي، ويأتي ذلك الخوف خشية حصول عمليات إنتقامية من جانبها (حسب وصف القيادات السنية)، وكذلك كون مؤسسة الحشد الشعبي مدعومة من قبل إيران الطامحة لمنح دور اوسع لهذه المؤسسة، لا سيما في ظل اشتراك قيادات عسكرية ايرانية على مستوى رفيع كقوات دعم مساندة ميدانيا لقوات الحشد الشعبي، ما يعني بالنتيجة زيادة النفوذ الايراني في العراق.

مقابل ذلك، لا يزال إقرار قانون الحرس الوطني معطلا بسبب إصرار الشيعة على عدم تمريره، إذ يعول السنة كثيرا على هذا القانون لحل عقدة التمثيل الامني بالنسبة لهم، لا سيما وان هذا المشروع مدعوم من قبل واشنطن.

معطى اخر يشير الى ان مرحلة ما بعد داعش ستكون أصعب واعقد، ذلك ان معظم الجهات السياسية امنت نفسها بوجود قوات تابعة لها، اضافة الى وجود الدعم الاقليمي لكل جهة من تلك الجهات ما يؤدي الى تبلور حالة من النزاع السياسي. هذا ناهيك عن الموقف التركي الرافض لسحب قواته العسكرية من منطقة بعشيقة فضلا عن تحكمه بمصادر المياه النابعة من الاراضي التركية، ما يزيد الامور تعقيداً اكثر.

بدورها افصحت الادارة الامريكية الجديدة على عهد الرئيس ترامب عن نواياها في تحصين الامن القومي الامريكي من خلال انهاء وجود داعش، وضرب جميع حركات الاسلام السياسي المتطرف، لكن ذلك لا ينفصل بطبيعة الحال عن السياسة الامريكية في تفكيك المفكك او بالأحرى تفتيت المفتت لضمان امنها القومي ولحماية امن اسرائيل، خصوصا وان هناك بوادر تلوح في الافق في هذا الاتجاه، لاسيما اذا ما علمنا بأن (الديمقراطيين) في امريكا هم من يقومون بهندسة المشاريع السياسية (والجمهوريون) هم من ينفذون، كما حصل في (قانون تحرير العراق) الذي اقر عام 1998 على يد الديمقراطي (بيل كلينتون) ليتم تنفيذه على يد الرئيس الجمهوري (بوش الابن) اما الديمقراطي (جو بايدن) فقد كان هو العقل المخطط لمشروع تقسيم العراق الى اقاليم عام 2007، وربما يكون (دونالد ترامب) هو المنفذ له، خصوصا في ظل وجود مقبولية لهذا المشروع من قبل عدد من ساسة العراق، لاسيما اولئك الذين كانوا يرفضونه سابقاً.

سيناريوهات ما بعد داعش

السيناريو الأول: الفيدرالية والاقلمة

اعتماد الصيغة الفيدرالية التي تكون في حقيقتها اقرب للكونفدرالية من خلال اعتماد (الاقلمة) ومنح الاقاليم صلاحية شبه مطلقة، خصوصا وان الدستور يدعم هذا الاتجاه في بعض مواده، وتحبيذ الامريكيون لهذا الخيار وطبخه على نار هادئة مع بعض ساسة سنة السلطة فضلا عن حكومة الاقليم.

فالادارة الامريكية تدرك تماماً ان القضاء على وجود داعش في العراق وترك الحبل على الغارب دون سد الفراغ الامني، يعني زيادة نفوذ ايران في العراق ومن ثم في المنطقة، وبالتالي سينعكس ذلك على امن اسرائيل، وستخضع المناطق السنية الى هيمنة قوات الحشد الشعبي وهو ما يرفضه السنة بشكل صريح، اذ اكد الشيخ (علي الحويت) المتحدث باسم العشائر الغربية في محافظة نينوى على تعضيده وتأييده لفكرة اقامة اقليم سني بداعي ان هذا المشروع مقر منذ عام 2007 في مجلس الشيوخ الامريكي.

كما قال الشيخ (علي سامي) شيخ قبيلة المحامدة في الفلوجة (كنا دائما من اشد المدافعين عن وحدة العراق، والان لا نريد الا اقليما لنا).

لكن الركون الى مشروع الاقليم السني لا يخلو من تحديات تواجهه لعل من اهمها عدم وجود قيادة زعامة موحدة للسنة تكون ناطقة باسمهم، كذلك عدم امكانية تجاوز التنافس بين القوى السنية المؤثرة، والتحدي الاهم هو المتعلق بجغرافية (الاقليم السني) فهل يضم هذا الاقليم محافظات عدة؟، ام يفصلها الى اقاليم متعددة؟.

ففي الوقت الذي يعتبر فيه بعض ساسة السنة مشروع الاقاليم مؤامرة هدفها تقسيم العراق، يعتبره البعض الاخر صمام امان لحماية وجود اهل السنة من التهميش، وضمن دائرة الاختلاف هذه تحول الامر الى خلاف وتناحر بين الفصائل (السنية-السنية) نفسها، ما ينذر بخطر اندلاع الحرب الاهلية داخل تلك المدن، لاسيما في المحافظات الغربية التي يلبس صراعها لبوساً عشائريا.

اما فيما يخص اقليم كردستان، فأحلام الانفصال مازالت قائمة، ومشروع الاقاليم هو الخطوة الاولى في ذلك، ونستشهد هنا بما قاله رئيس حكومة الاقليم (مسعود البرزاني)، (ان العراق يجب ان يقسم الى ثلاث دول شيعية وسنية وكردية بمجرد الانتهاء من الحرب ضد داعش).

لكن ما يثار هنا مشكلة المناطق المتنوعة سكانياً وعشائرياً، لاسيما وان ساسة الاقليم لم يترددوا في اكثر من مناسبة بإعلان رغبتهم بضم المناطق المتنازع عليها (المحررة) الى الاقليم، وتحديداً تلك التابعة الى محافظة نينوى او المتاخمة والقريبة من اقليم المحافظات الثلاثة، ما يثير اشكالية الصراع الديموغرافي التي تهدد مستقبل البلاد ككيان متماسك.

ويبدو ان اعلان الكردية في شمال العراق متوقف فقط على حسم عائدية تلك المناطق والتي ترتبط اداريا بمحافظات عراقية عدة منها محافظة نينوى.

مشكلة اخرى تواجه الاقليم، هي الازمة الاقتصادية في ظل تراجع اسعار النفط عالمياً، وبالتالي فأن استقلال الاقليم سيزيد الوضع سوءاً من الناحية الاقتصادية هناك في حال تركه يعتمد على نفسه بدون دعم الحكومة المركزية.

اما بخصوص اقليم الوسط والجنوب، فلا زال قادة الشيعة غير متفقين على تبنيه، ففي حين ابدت بعض الفصائل الشيعية مقبولية ضمنية لهذا المشروع (كالمجلس الاعلى الاسلامي العراقي) الذي حشد سابقاً للتصويت على الدستور بـ(نعم) كونه يتيح تشكيل اقليم تضم المناطق الشيعية في وسط وجنوب العراق، تجده اليوم يغازل مشاعر بعض الفصائل السنية الداعية لتشكيل (الاقليم السني) من خلال طرح مشروع (التسوية التاريخية) وتناسي خلافات الماضي، في اشارة الى وجود (طبخة سياسية) يكون عنوانها تقسيم البلد الى اقاليم ثلاثة (شيعية-سنية-كردية) مع احتفاظ العاصمة بغداد بوجودها كاقليم مستقل. هذا المشروع طبعا برعاية وترتيب اقليمي ودولي وعلى راسة الولايات المتحدة الامريكية.

في حين ترفض بعض فصائل الشيعة الاخرى مشروع الاقاليم وتعتبره تقسيما للبلاد.

المشكلة الابرز التي تواجه الاقليم الشيعي هنا هي تنافس الفصائل الشيعية وتحديداً تلك التي اشتركت في محاربة داعش على زعامة البيت الشيعي، فوجود داعش حالياً يكاد يكون هو الجامع الوحيد بين تلك الجهات لتجاوز خلافاتها، ونهاية داعش يعني فتح باب الاقتتال (الشيعي-الشيعي) من منطلق ان كل فصيل كان له الفضل في الخلاص من شر التنظيم الارهابي. وما الهجمات المتبادلة على مقرات الاحزاب الشيعية وحرق بعضها في المحافظات الوسطى والجنوبية الا دليل على بداية لهذا الاقتتال.

السيناريو الثاني: نظام الحكم اللامركزي

حيث يقوم هذا السيناريو على اعتماد صيغة اللامركزية في الحكم ومنح الادارات المحلية شيئا من الاستقلالية في ادارة شؤونها في الحكم دون اللجوء الى اقاليم، على اعتبار ان السياسة المركزية المتبعة لاسيما في ظل الحكومة السابقة هي من قادت البلد الى الحال الذي هو عليه الان. وهذا الوضع حتما لا يرضي الكرد ولا يلبي طموحاتهم الانفصالية التي تعد فكرة الاقليم فيها نقطة الشروع الاولى.

السيناريو الثالث: نظام الحكم المركزي

حيث سيكون للمنتصر الكلمة الفصل، ويكون ذلك مرتبط في الغالب بتغيير شكل النظام السياسي من نظام توافقي الى نظام (الاغلبية السياسية)، او حتى ربما من نظام (برلماني) الى (نظام رئاسي).

المؤكد في هذا الخيار هو انه سيصب حتما في صالح الجهات الشيعية، لكن ايا منها؟. سيكون الجواب حتما بحسب طبيعة التحالفات السياسية التي ستتشكل حينذاك.

لكن المؤكد ايضاً في هذا الخيار هو معارضة الفصائل الاخرى المشتركة في العملية السياسية، والجانب السني على وجه التحديد.

السيناريو الرابع: سيناريو التقسيم والحرب الاهلية

حيث تضرب الفوضى اطنابها، ويغيب أي ناظم للعملية السياسية وستفتقد الحكومة لأي حجة عن الاهمال والتقصير بعد انتهاء وجود التنظيم الارهابي، وقد يرافق ذلك ثورة جماهيرية عارمة احتجاجاً على سوء الاداء الحكومي لتصبح نهاية داعش بداية حرب اهلية مستعر اوارها يشترك فيها الكل ضد الكل، بعد ان يصبح البلد منقسماً على نفسه.

على اننا نرجح للسيناريو الاول كونه الاقرب للواقعية، وكونه ينسجم مع معطيات الوضع المحلي والاقليمي والدولي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001-Ⓒ2017
http://mcsr.net

اضف تعليق