q

كان للأبيات والمقطوعات والقصائد الشعرية التي انطلقت من سيدات بيت النبوة أثرها العميق ودلالتها الواضحة بأن كربلاء باقية مع تعاقب الأزمان والأجيال، كما عكست تلك الأبيات الدور المهم للمرأة في نشر مبادئ الثورة الحسينية وفضح جرائم الأمويين فكانت تلك الأشعار والخطب هي وسيلة إعلام الثورة الحسينية الضخمة التي قادتها وأدارتها ومثلتها بأعظم دور السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب(ع) في نشر الهدف الرسالي المقدّس الذي سعى إلى تحقيقه الأمام الحسين(ع) في كربلاء، تقول الدكتورة بنت الشاطئ في موسوعتها الكبيرة (آل النبي في كربلاء ص765) :(كانت زينب عقيلة بني هاشم في تاريخ الإسلام وتاريخ الإنسانية بطلة، استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد، وأن تسلط معاول الهدم على دولة بني أمية، وأن تغير مجرى التاريخ).

نعم لقد استطاعت هذه السيدة العظيمة التي كانت (تفرغ عن لسان أبيها سيد البلغاء) أن تزلزل عروش الأمويين بخطبها ورثائها لسيد الشهداء(ع) وتابعتها في دورها العظيم هذا سيدات بيت النبوة، ومعدن الرسالة والفصاحة، وحرائر الوحي: أم كلثوم بنت أمير المؤمنين، وسكينة، وفاطمة بنتا الحسين، وأم لقمان وأسماء بنتا عقيل بن أبي طالب والرباب زوجة الإمام الحسين، وأم البنين أم العباس وزوجة الإمام علي(عليهم السلام)، فهؤلاء النسوة كن جزء من مأساة كربلاء وأول المفجوعات بفقد سيدهن فعبرن من خلال المقطوعات الشعرية عما ألم بهن من عميق الحزن تقول السيدة زينب(ع) وهي تصور مشهدا رهيبا من مشاهد كربلاء مشهد جواد الحسين وهو يركض نحو المخيم وملطخا بدم الحسين:

جاء الجوادُ فلا أهلاً بمقدمهِ *** إلا بوجهِ حسينٍ مدرك الثارِ

يا نفس صبراً على الدنيا ومحنتها *** هذا الحسينُ قتيلٌ بالعرا عارِ

وقالت أيضاً وهي تنظر إلى تلك الأجساد الطاهرة:

على الطفِ السلامُ وساكنيه *** وروح الله في تلك القبابِ

نفوسٌ قدّست في الأرضِ قدساً *** وقد خُلقت من النطفِ العذابِ

وقالت (ع) لما رأت رأس الحسين وهو يشرق بنور النبوة هذين البيتين الذين يعدان قمة في الرقة والحزن:

يا هلالاً لما استتمّ كمالا *** غاله خسفُه فأبدى غروبا

ما توهّمت يا شقيقَ فؤادي *** كان هذا مقدّراً مكتوبا

وقالت السيدة سكينة بنت الإمام الحسين(ع):

لا تعذليه فهمٌّ قاطعٌ طرقه *** فعينه بدموعِ ذرّفٍ غدِقه

إن الحسين غداة الطفِ يرشقه *** ريب المنونِ فما أن يخطئ الحدقه

بكفِ شرِّ عبادِ اللهِ كلهم *** نسلِ البغايا وجيشِ الورّدِ الفسقه

وقالت أم كلثوم بنت علي(ع):

مدينة جدنا لا تقبلينا *** فبالحسراتِ والأحزانِ جينا

ألا أخبر رسول الله فينا *** بأنا قد فجعنا في أخينا

وقالت أيضا:

قتلتم أخي ظلما فويل لأمكم *** ستجزون نارا حرها يتوقدُ

قتلتم أخي ثم استبحتم حريمه *** وأنهبتم الأموال والله يشهدُ

سفكتم دماء حرّم الله سفكها *** وحرمها القرآنُ ثم محمدُ

وقالت أسماء بنت عقيل بن أبي طالب:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم *** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأممِ

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي *** منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدمِ

وقالت أختها أم لقمان وهي تندب أخوتها وأبناء عمومتها الشهداء الأبطال من آل علي وعقيل:

عيني جودي بعبرة وعويلِ *** واندبي إن ندبت آل الرسولِ

ستة كلهم لصلبِ عليٍ *** قد أصيبوا وخمسة لعقيلِ

وقالت السيدة أم البنين فاطمة بنت حزام:

لا تدعوني ويكِ أم البنين *** تذكريني بليوث العرينِ

كانت بنون لي أدعى بهم *** واليوم أصبحتُ ولا من بنين

وقالت فاطمة بنت الحسين:

نعق الغراب فقلت: من *** تنعاه ويحك ياغرابْ

قال: الإمام فقلت: من؟ *** قال: الموفق للصوابْ

قلت: الحسين؟ فقال لي: *** بمقال محزونٍ أجابْ

(إن الحسين بـ (كربلا) *** بين الأسنةِ والحرابِ)

وهذه الأبيات هي رثاء البنت المفجوعة بأبيها وقد خلقت من حزنها مخاطباً لها وهو الغراب لكي تعبر عما ألم بها من ألم في حوار درامي يبرز عمق الفاجعة وقد خاطبت الغراب لأنه يدل على الشؤم والفقد، وهذا النمط في شعر الرثاء كان متداولاً في الشعر العربي كقول فاطمة بنت طريف ترثي أخاها الوليد:

أيا شجر الخابور مالك مورقاً *** كأنك لم تحزن على ابن طريفِ

وقول ابنة حجر بن عدي ترثي أباها:

ترفّع أيها القمرُ المنيرُ *** تبصّر هل ترى حجراً يسيرُ

وكان لهذه الأشعار التي انطلقت من سيدات بيت النبوة صدى كبير في النفوس فحققن أعظم دور، وجسدن أرفع مهمة في إيقاد شعلة الثورة الحسينية في النفوس والضمائر، وإبقاء كربلاء نابضة عبر الأجيال، وهذه كانت الغاية من تلك الخطب والشعر الذي صدر عنهن فشأنهن أسمى من الشعر في أغراض أخرى وأرفع من مجراه. ونود الإشارة إلى أن الشعر الذي ورد عنهن في رثاء الحسين كثير لا يسعه موضوع ولو جمع لكان ديواناً كبيراً وفي هذا الموضوع سنسلط الضوء على اسم كربلاء في أشعارهن لأن هذه الكلمة تحمل في ثناياها ذلك اليوم بكل مأساته وأهواله وعظمته خاصة أنهن شهدن يوم عاشوراء وعشنه بكل تفاصيله المؤلمة وقد وجدنا كربلاء في الأبيات التالية:

1 ــــ الرباب بنت امرئ القيس بن عدي (زوجة الإمام الحسين(ع)): توفيت (63ه/682م)

السيدة الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب، زوجة الإمام الحسين (ع) وأم ابنته سكينة وابنه عبد الله الرضيع. كان أبوها نصرانياً فأسلم في خلافة عمر الذي ولّاه على من أسلم من قضاعة، ثم خطب أمير المؤمنين (ع) ابنته الرباب لابنه الحسين فزوجه إياها. وحضرت الرباب يوم الطف وسيرت مع السبايا إلى الكوفة والشام ورجعت معهن إلى المدينة وقد خطبها الأشراف فامتنعت عن الزواج قائلة: (ماكنت لأتخذ حمواً بعد رسول الله) ولم تبق الرباب بعد مقتل الحسين سوى سنة واحدة حتى ماتت حزناً وكمداً وقيل إنها لم تستظل بسقف بعد يوم عاشوراء، قالت السيدة الرباب في رثاء زوجها العظيم:

وا حسينا فلا نسيتُ حسينا *** أقصدته أسنةُ الأعداءِ

(غادروه بـ (كربلاء) صريعاً *** لا سقى الغيثُ جانبي (كربلاء))

وقالت أيضاً

(إن الذي كان نوراً يُستضاءُ بهِ *** بـ (كربلاء) قتيلاً غير مدفونِ)

سبطُ النبي جزاكَ الله صالحةً *** عنّا وجُنبت خسرانَ الموازينِ

قد كنتَ لي جبلاً صلداً ألوذُ به *** وكنتَ تصحبُنا بالرحمِ والدينِ

من لليتامى ومن للسائلين ومن *** يغني ويأوي إليه كل مسكينِ

والله لا أبتغي صهراً بصهركمُ *** حتى أوسّد بين اللحدِ والطينِ

2 ـــــ سكينة بنت الإمام الحسين(ع): (42 ـــــ 117ه)

سيدة نساء عصرها عقلا وأدبا وعفة، أمها الرباب بنت امرئ القيس، وزوجها هو عبد الله بن الحسن(ع)، وكان لها من العمر يوم عاشوراء تسعة عشر عاما. كانت(ع) مثال التقوى والطاعة والعبادة فكأنها لا تأنس بغيرها، وكان لها منزلة عند والدها(ع) حتى وصفها بـ(خيرة النسوان) كما في الشعر الذي قاله يوم عاشوراء في توديعه إياها، ولدت (ع) وماتت في المدينة المنورة، ولسكينة الكثير من المقطوعات في رثاء أبيها الحسين منها هذه المقطوعة التي ورد فيها اسم كربلاء:

رحلنا يا أبي بالرغم منا *** ألا فانظر إلى ما حل فينا

(ألا يا (كربلا) نودعكِ جسماً *** بلا كفنٍ ولا غسلٍ دفينا)

(ألا يا (كربلا) نودعكِ نوراً *** لباري الخلق طراً أجمعينا)

(ألا يا (كربلا) نودعكِ روحاً *** لأحمد والوصي مع الأمينا)

(ألا يا (كربلا) نودعكِ كنزاً *** وذخر القاصدين الزائرينا)

3 ـــــ فاطمة بنت الإمام الحسين(ع): توفيت (117ه)

فاطمة بنت الإمام الحسين(ع)، أمها أم اسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي، تزوجها الإمام الحسين بوصية من أخيه الإمام الحسن(ع) فولدت له فاطمة، وتزوجت فاطمة من ابن عمها الحسن المثنى بن الحسن السبط(ع) وولدت له عبد الله المحض وإبراهيم الغمر والحسن المثلث.

كانت فاطمة آية في العبادة والتقوى، وأكثر النساء شبها بجدتها فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين كما وصفها أبوها(ع) لابن أخيه الحسن المثنى عندما جاء خاطبا إحدى ابنتيه فاطمة وسكينة قائلا: (اختار لك فاطمة فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله(ص)، أما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار، وأما في الجمال فتشبه الحور العين) وكانت فاطمة أكبر سنا من أختها سكينة وتوفيت في نفس السنة التي توفيت فيها سكينة ولدت فاطمة في المدينة المنورة وتوفيت في مصر وهي مدفونة في مسجد ولها مقام شاخص في زقاق يعرف بزقاق فاطمة النبوية، ولفاطمة في رثاء أبيها:

نعق الغرابُ فقلت: من *** تنعاه ويحكَ ياغرابْ؟

قال: الإمام فقلت: من؟ *** قال: الموفق للصوابْ

قلت: الحسين؟ فقال لي: *** بمقال محزون أجابْ

(إن الحسين بـ (كربلا) *** بين الأسنةِ والحرابْ)

إبكي الحسين بعبرة *** ترضي الإله مع الثوابْ

ثم استقل به الجناح *** فلم يطق رد الجوابْ

فبكيت مما حل بي *** بعد الرضي المستجابْ

وقالت أيضاً بعد خطبتها في الكوفة:

(أيقتل ظمآناً حسين بـ (كربلا) *** ومن نحره البيضُ الصقالُ لها وردُ)

وتضحي كريماتُ الحسينِ حواسراً *** يلاحظها في سيرِها الحرُ والعبدُ

فياله من رزءٍ عظيمٍ مصابه *** يشق الحشا منه ويلتدمُ الخدُ

اضف تعليق