q

يتفق الطرفان، الحاكم والمحكوم، بأن الإبداع يشكل طريقا مفتوحا للتقدم، ومن دونه يبقى الانسان الفرد والجماعة، ساكنا في مكانه، إن لم يتراجع الى الخلف، وصنّاع الابداع، هم الأفراد الأكثر كفاءة من غيرهم، وهم الاقدر على الابتكار وطرح الحلول للمشكلات والبدائل للعقبات الشائكة، إنهم باختصار السبيل الوحيد لارتقاء الاخرين، وهم الذين يصنعون الحياة الأفضل على حساب أوقاتهم ومشاغلهم وربما صحتهم ايضا.

لذلك نلاحظ بما لا يقبل التشكيك أن البلدان التي تعي دور المثقف وقدرته على تطوير منظومة الفكر والسلوك معا، تعمل على نحو جاد من اجل توفير متطلباته كافة في الجانين المادي والفكري، وتحاول الجهات والمؤسسات المعنية صنع وتوفير الظروف اللازمة لأصحاب العقول المبتكرة، لكي تتحول مبتكراتهم الى نتائج وخطوات تطبيقية في ميادين الحياة من اجل تطوير المجتمع.

من الملاحظ ان الدول الغربية على سبيل المثال تهتم كثيرا بالحقول والعلوم الانسانية، فيما يهتم الآخرون الاقل تطورا ونحن منهم، بالعلوم اولا كالطب والهندسة وما شابه، متناسين او غافلين بأن الفكر والنشاط في الحقول الانسانية عموما له أسبقية حتمية في التطور البشري عموما، من هنا ينبغي أن تسعى الحكومة بما لا يقبل التشكيك او التباطؤ نحو خلق الفرص والظروف المنسجمة بما يساعد المبدع على مواصلة منجزاته ومبتكراته من دون عقبات او مشاكل من اي نوع كان، فالمبتكر هو والحرية لا يفترقان صنوان، كلاهما يحتاج الآخر ويؤثر فيه، بمعنى اوضح الانسان المبكر نتاج الحرية، ويصح العكس تماما، وغياب أحدهما يعني ضعفا وتراجعا وربما تدميرا للآخر، أما حضور احدهما الى جانب الآخر فيعني ازدهارا لكليهما.

هذا الكلام بديهي، لا أحد يختلف عليه، نعيده هنا من باب التذكير، لأن المبدع المبتكر هو وسيلة وغاية الحكومة والمؤسسة او المنظمة الثقافية الرسمية او هكذا ينبغي ان يكون الامر، وهنا ثمة تساؤل يقفز الى الذهن ويفرض نفسه علينا: هل استثمرت المؤسسات المعنية بدعم المبدعين الظروف المتاحة كما ينبغي، وهل فتحت آفاق الابتكار والتطوير امامهم، وهل وفرت لهم مستلزمات العمل، ودغمتهم ماديا ومعنويا بما يزيد ويضاعف من تحفيزهم على العطاء الأفضل؟ بالمقابل هل كان المبدع مؤديا الى دوره فعلا، وحريصا على دوره المطلوب، وهل أبدى سعيه واصراره على ترسيخ النهج التحرري، وهل تم استثمار المتاح من حيّز التحرر كما يجب أن يُستثمَر؟ وهل فكّر المعنيون بالابداع، أفراد أو تجمعات، بأن التراجع والنكوص والتردد في استثمار الحرية يؤدي الى نتيجة معاكسة، قد تسمح للآخرين – الحكومات- بسلبها وتدميرها وإقصائها كليّا وفرض النهج الاحادي المتطرف على الجميع؟.

إن المنطق الصحيح يقول بأنك إذا لم تستثمر المتاح لك في هذا المجال أو ذاك، فإن ذلك سيقودك الى نقيض ما تهدف إليه تماما، بمعنى أوضح إذا لم تستثمر الحرية كما يجب في دعم الابداع ورعاية المبدعين، فإنك تسمح للمستبدين بإعادتك الى مربع القمع الفكري المبتكر وسواه، ولو أننا سألنا بوضوح ومباشرة، هل كان المبدعون فاعلون ومستثمرون بصورة جيدة للحرية؟

سنقول بوضوح، كلا لم يقم المبدع الفرد ولا الجماعة ولا الجهات المعنية بالحفاظ على الواقع المتحرر ولا استثماره بطريقة جيدة، إذ هناك خمول بيّن، وكسل لا يقبل الدحض، رافق تلكؤ المبدعين، لدرجة أننا على سبيل المثال نستطيع أن نؤشر نشاطا شكليا كاذبا لمعظم مؤسسات المجتمع المدني في العراق على سبيل المثال، حيث كثر عددها وتمويلها أضعافا، فيما غاب دورها وتقاعست في استثمار الحرية وتنمية الابداع ومعاونة وتشجيع المبدعين، بعد أن فشلت في اداء الدور الرقابي على الحكومة، وجُيِّرتْ معظم فعالياتها لأغراض شكلية واضحة وفارغة من المحتوى العميق، وينطبق هذا الكلام على المنظمات المعنية بالإبداع والنخب ايضا.

بمعنى ان اعداد هذه المنظمات تضاعفت مقابل ضمور واضح لترسيخ المنهج التحرري، وربما لا نخطئ اذا قلنا أن الجهات المعنية بمعاونة المبدعين فشلت حتى الآن في الاسهام بتحقيق هذا الهدف وعجزت عن تطوير المجتمع ودفعه نحو المدنية والمعاصرة، لذلك فإن التقصير في هذا الحيّز لا يحتاج الى أدلة، أما السبب الاساس فيعود الى الخمول والكسل والتردد، وربما الخوف أيضا، إذ تؤدي كل هذه العوامل مجتمعة، الى فسح المجال للاستبداد بالظهور والتنامي، على حساب الهامش التحرري الذي لم يطوره اصحاب العقول والمواهب المتميزة، لذلك نحتاج الى المبدع الذي يتحلى بروح الاقدام أولا، وبوعيه المكتمل في ضرورة فهم طبيعة المرحلة التي نمر بها، وكل هذا وسواه، يتأتى من خلال التمسك بمنهج الحرية وترسيخه، بعيدا عن المنافع والمصالح الفردية.

من هنا يتضح أن الخلل في تحجيم الابداع والمبدعين، لا يتوقف على العجز والكسل الحكومي في رعاية هذه الشريحة المهمة من المجتمع، بل غالبا ما تكون الحكومات وخاصة المستبدة، مترددة ومراوغة في قضية رعاية الابداع والمبدعين، لأنهم يشكلون خطرا على منافعها وامتيازاتها، ولكن هناك خلل آخر يرتكبه المبدعون ايضا، من خلال تقاعسهم وصمتهم على الانتقاص من حقوقهم من دون تحريك ساكن، وهذا يشجع الحكومة على اقصاء المبدعين أكثر فأكثر.!!

اضف تعليق