q

صنوان متلازمان هما، العلم والكتاب، فمن دون العلم لا قيمة للكتاب، ومن دون الكتاب لضاع العلم، فالفضلُ بينهما متبادَل، أحدهما يضع نفسه وقدراته في خدمة الآخر، والنتيجة قيمة لا حدود لها للكتاب، وفائدة لا يسعنا الاستغناء عنها للعلم، عالمنا يتطور في كل لحظة، والفضل يعود للعلم ووسيلة حفظه وتوثيقه ونعني الكتاب.

بعضنا لديه من الموهبة ما لا يدركها، ولا يعرفها حق المعرفة، فيهملها، يتناساها او يغض الطرف عنها، لأنها لا يعرف قيمتها الفعلية، فالموهبة ماكنة تنتج العلم في المجال الانساني أو العلمي، والكتاب هو الذي يحافظ على العلم بعد تدوينه، إنه يشبه رحم الام، عندما يضم الجنين بيت ثناياه، يرعاه ويحافظ عليه، ثم يقدمه للإنسان كي يتحول من مفردات وأفكار الى منتَج عملي يدفع الانسانية الى أمام، نعم يصح القول أن الكتاب (رحم العلم).

فالعلم من دون حفظ قد يتعرض للموت أو الضياع، كونه لا يتم حفظه في المكان المناسب، وعندما ينبت العلم بين دفتيّ كتاب، عند ذاك يكون في أمن وأمان، ويكون في خدمة الانسان، هذه هي قيمة الكتاب التي تقارب وتماثل قيمة العلم عندما يتحول من مجرد كلمات الى افعال مجسدة تؤدي الى الانتاج الأمثل، فيصبح العلم في خدمة الانسان، وينقله من حال الى حال، لذلك لا يصح ان تترك علمك بعيدا عن التوثيق، لأنه في هذه الحالة سوف يكون عرضة للضياع والفقدان، الامر الذي يحرم الانسانية كلها منه، فالعلم بأقل درجاته مفيد (بالتراكم) للإنسان، ولعل أفضل وسيلة لحفظ العلم وتقديمه للآخرين هو الكتاب.

لذلك ورد في كتاب (تحف العقول)، قولا للرسول الكريم (ص) جاء فيه: (قيّدوا العلمَ بالكتاب). وهذا القول يأتي في مجال الحض على حفظ العلم من الضياع، وقد يقول قائل أن عصرنا الراهن فيه من وسائل الحفظ الكثيرة للعلم غير الكتاب، وهو قول صحيح، ولكن نحن نتحدث عن مسيرة طويلة للعلم، والسؤال هنا كيف تم حفظ العلم الى يومنا هذا؟، ولو العلم الذي حفظه الكتاب للإنسان، هل كان بمقدوره ان يكتشف ويصنع الوسائل الاخرى الحافظة للعلم، كالوسائل الالكترونية الحالية مثلا؟، بطبيعة الحال لا يمكن للانسان ان يتنكر للكتاب في حفظه للعلم، وليست هناك مشكلة اذا كانت هناك وسائل اخرى يتم حفظ العلم وتوثيقه بها.

فالهدف أولا وأخيرا أن نصل بالعلم الى نهاية المطاف، والى النتيجة الصحيحة التي تتمثل بتحويل العلم الى حالة من الاختراع والاكتشاف الذي يجعل من كلمات العلم وسائل عمل انتاجية ترتفع بحياة الانسان نحو الأعلى والافضل دائما.

ومع ذلك لا يمكن المجازفة بالقول ان العلم يمكنه الآن أن يستغني عن الكتاب، فلم يعد الاخير هو الرحم المناسب للعلم، لاسيما مع ظهور وسائل الكترونية بديلة للورق وللكتب عموما، لكن في الحقيقة ان قولا كهذا لا يصمد امام الواقع، فالعلم لا يمكن أن يتخلى على نحو كلّي عن الكتاب، كونه لا يزال وسيبقى الوسيلة الأكثر قبولا لدى الناس، والأكثر تعاملا في تناقل العلم من فرد الى آخر وجماعة الى اخرى وجيل الى آخر، مع وجود الوسائل الاخرى الحافظة للفكر، فهذا لا يتعارض مع قيمة الكتاب او دوره في تقديم العلم وحفظه.

وثمة أدلة كثيرة على صحة هذا الرأي منها على سبيل المثال، تأكيد العلماء والمفكرين، على اهمية الكتاب في حياة الشعوب والامم، الآن وفي المستقل، فليس صحيحا أن يضع الانسان قيمة ودور الكتاب خلف ظهره، علما أن اهل الاختصاص يضعون تداول الكتاب بيعا وشراء واستعارة، كمعيار لمعرفة درجة الوعي والثقافة والتطور الذي يتحلى به ذلك الشعب او تلك الامة عن سواها، بمعنى كلما ازداد انتاج الكتاب وتم اقتناءه وشره وتبادله، كلما كانت الثقافة والوعي لدى هؤلاء أكثر من غيرهم.

أما العلم فمن دونه ليس هناك أمل في تحقيق التقدم، وهو امر يكاد يكون بديهي، ولكن لا يصح لموهبة او مقدرة أو عالم قادر على انتاج العلم ولا يسعى لتوثيقه وحفظه في (رحم الكتاب)، لأن العلم يمكن ان يتلاشى او يتفتت او يضيع في حالة عدم الحفظ، كونه مخزون في ذاكرة بشرية معرضة للنسيان او لفقدان محتوياتها، وهذا ما يراه علماء النفس وعلماء الانسان بصورة عامة، عندما يؤكدون ان العلم اذا لم يتم حفظه سيكون عرضة للموت، مثلما هو حال الموهبة التي ستكون ايضا معرضة للموت اذا أهملت علمها، وغضَّت الطرف عن تدوينه ونقله من بيت الذاكرة الى الحافظة المناسبة له، فهناك كثير من المواهب العلمية، تتراجع وتضعف ثمة تنتهي الى الانطفاء، لأن اصحابها لم يهتموا بموهبتهم العلمية كما يجب، ولك يسعوا الى تطويرها والحفاظ عليها، ما قادها بالنتيجة الى الاضمحلال والخمول ثم الصمت.

ولو بادر اصحابها الى تفعيلها من خلال توأمة العلم بالكتاب، وطرحه على القراء وغيرهم ممن يبحث عن الافكار العلمية لتوظيفها في مجال انتاجي معين، لما بقيَتْ تلك المواهب محيَّدة، كما نلاحظ ذلك في مجتمعاتنا، إذ لا يهتم صاحب العلم بعلمه، ولا تعبأ به الدولة او المنظمات المعنية، عند ذلك تكون الخسارة واضحة، في حدوث ما يأتي، إما موت الموهبة العلمية، أو في افضل الاحول، سوف يعمد صاحبها الى الهجرة، وهذا ما نسميه بهجرة العقول والمواهب من مواطنها الطاردة لها، وفي كلا الحالتين، اذا كانت البيئة طاردة للعلم والمواهب، او اذا كان اصحابها هم السبب، فإن الخسارة ستكون كبيرة للفرد والمجتمع، من هنا تحتاج الدولة ومكوناتها كافة الى توأمة حقيقية ودائمة بين الكتاب والعلم، فهذا كفيل باستثمار الطاقات العلمية خدمة للجميع.

اضف تعليق