q

لم يبقَ على الموعد المحدَّد دستوريا لإجراء الانتخابات سوى شهور قليلة لا تتجاوز أصابع اليد، ففي أيار القادم سوف تتم عملية الاقتراع في حالة الوصول إلى توافق في هذا الشأن، ولكن كما تشير التجاذبات بين الكتل الكبير، فإن المد والجزر لا يزال قائما، وأن هناك من يرفض تأجيل الانتخابات، في المقابل هناك كتل كبيرة أيضا تصر على تأجيلها، والمشكلة أن كلا الجانبين يتحجج بالدستور وبنوده وفقراته ويعلن أن ينطلق في موقفه من الدستور.

فمن يرفض التأجيل، يؤكد أنه متشبث بموقفه لأن الدستور لا يسمح بالتأجيل، وليس هنالك فقرة تنص على ذلك، في حين يقول دعاة التأجيل أن الدستور يدعو إلى توفير الظروف الآمنة لتحقيق انتخابات نزيهة، فكيف يتم ذلك في ظل المدن المخربة ومئات الآلاف من النازحين؟، المراقبون أعلنوا أن كلا الطرفين يتشبث بالدستور شكليا لا أكثر، لأن هناك الكثير مما يرفضه الدستور علنا لكن لا أحد من العاملين بالسياسة يعبأ بذلك.

وإذا عرفنا أن الكتل السياسية والأحزاب تتمسك بالدستور بحسب مصالحها، فإننا ينبغي أن نفهم بأن الدستور هو وثيقة موضوعة، تنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، على أن تستمد شرعيتها من الشعب، لكي يتجسد مبدأ حكم الشعب لنفسه فعليا، إذ يستدعي هذا المبدأ التزاما كليا وحرفيا بمضامين الدستور، من القادة السياسيين بمختلف مناصبهم ومسؤولياتهم، ولا يصح التلاعب بهذه الوثيقة بما يحقق لكل كتلة أو حزب أهدافه ومصالحه.

وفي عودة إلى الأنظمة الحكومية السابقة، فإن الدستور في السابق لم يكن له أي دور في نظيم العمل السياسي، وذلك لأن الحاكم الفردي يوكل كتابة الدستور إلى مقرّبين منه يكتبونه بما يراعي مصلحة النظام وليس الشعب، فالمشكلة المعروفة التي كان يعاني منها العراق عبر الحكومات التي تعاقبت على حكمه، تتمثل بغياب الدستور الأصيل وحلول الدستور البديل أو (المؤقت)، ليفصل بين الحاكم والمحكوم وينظم العلاقة بينهما، أما اليوم فقد أصبح العراق كما يؤكد العاملون في السياسة دولة دستورية تحكمها المؤسسات، فما مدى صحة ذلك.

الدستور يُعلى ولا يعلو عليه

في الحقيقة وكما هو حاصل فعليا، فإن الساسة غالبا حتى في وقتنا هذا يحتكمون الى الدستور الذي يضعونه بأنفسهم، أعني يكتبه تابعون للسلطة أو الحكومة، وفقا لتصورات القادة ومصالحهم التي تصب في حماية عرش السلطة أولا وأخيرا، وتحمي امتيازات الأحزاب، لهذا كان الشعب العراقي معرضا لحالات انتهاك الحقوق والحريات، من دون أن يجد مجيرا أو شفيعا له في الدستور أو في غيره، إذ كانت أمزجة الحكومات ورؤسائها تتحكم ببنود الدستور، فتحذف منه وتضيف له ما ترغب وما يصب في صالحها، يحدث هذا في الوقت الراهن أيضا، كما كان يحدث سابقا، لذلك من غير الصحيح أن تتحجج الكتل والأحزاب بقدسية الدستور.

وحين أزيح النظام السابق في نيسان 2003 توقع الكثير من العراقيين، بأن الأمور سوف تتغير كثيرا لصالح الشعب، وتم كتابة الدستور الدائم، والتصويت عليه، وتوقع العراقيون بأنهم تخلصوا من الدستور الدائم إلى الأبد، وظهرت علامات تشير الى القضاء على مشكلة الدستور المؤقت، وصار الجميع يأملون ببداية عهد دستوري جديد، يستند الى وثيقة دستورية شاملة ودائمة، تنظم شؤون السياسة والحياة عموما بين الشعب العراقي وحكومته، ولكن في واقع الأمر لم يلتزم الساسة بالدستور كما يجب، واذا التزم بعضهم به، فإن السبب هو المصلحة لا أكثر.

على العكس مما كان يتوقعه العراقيون، من أن الدستور الدائم سوف يكون علاجا لمشاكلهم خصوصا تنظيم العلاقات السياسية بين الكتل والأحزاب، وكان الأمل يحدو الجميع بجعل الدستور العراقي الدائم، صاحب الكلمة الفصل في معالجة وتنظيم شؤون العراقيين، والنظر إليه كمعيار دقيق، لحل جميع المشكلات والاختلافات التي قد تحدث بين هذه الأطراف أو تلك، لكن ما يحدث الآن من صراع حول الانتخابات بالنسبة للإجراء والتأجيل، يعيد لنا المشكلة الأزلية لهذه الوثيقة القانونية التي ينبغي أن تكون صارمة يلتزم بها الجميع.

القادة السياسيين واحترام الدستور

فهل هناك احترام حقا للدستور من الكتل والأحزاب المشاركة في الانتخابات القادمة؟، من المفترض أن تكون قضية احترام الدستور محسومة، خصوصا بعد موافقة الشعب عليه وإعطائه وصف الدستور الدائم، حيث أصبح ذا شرعية لا يجوز المساس بها، وعلى جميع مكونات الشعب العراقي وقادته السياسيين احترام هذه الشرعية، والاحتكام الى هذا المعيار الدقيق، ولكن لو أننا سألنا المعنيين، بل حتى بسطاء الناس من الشعب، هل التزم السياسيون وقادة العراق بمختلف مكوناته ببنود الدستور العراقي الدائم، لحل الخلافات القائمة والعالقة بينهم؟ وهل أزيحت العقبة العصيبة بالفعل، والمتمثلة باحترام الدستور بالفعل وليس بالتصريحات فقط.

لذلك نجد أن تحجج الطرفين، المطالب بالتأجيل، والرافض قطعيا لتأجيلها، هو من قبيل ذر الرماد بالعيون، فالالتزام بالدستور ينبغي أن يكون منهجا ثباتا على الدوام، وليس موسميا يظهر أبان الاقتراع على مقاعد مجلس النواب فقط، لذا حين يتكلم الجميع عن ضرورة الاحتكام الى مضامين الدستور العراقي الدائم، وحل جميع المشكلات استنادا إليه، لاسيما دعوات السياسيون، فرقاء أو أصدقاء، فإن هذه الدعوات يجب أن تنطلق من التمسك بجوهر الدستور على نحو مستدام.

لكن ثمة عوائق ظاهرة في هذا الصدد، منها تلك الدعوات للالتزام بالدستور عندما يتوافق ذلك مع مصالح الطرف المتصارع من أجل مصالحه مع الآخرين، وليس من اجل مصالح الشعب، في المقابل الطرف الآخر أيضا يتحين الفرص في الفوز بمصالحه بحجة المسك بالدستور وتهيئة أرضية الانتخاب المناسبة، ولكن حقيقة الأمور تقول عكس ذلك تماما.

لذلك فقد بات أمرا واضحا للمراقبين ولعموم المواطنين بأن المشكلة تكمن في أن معظم قادة العراق، ونعني بهم قادة الكتل السياسية والأحزاب، صاروا يحملون الدستور كسلاح يوجهونه بعضهم ضد البعض الآخر، فالكل يُظهر نفسه على أنه متمسك بالدستور، وملتزم به، ولا يمكن أن يتجاوزه، لدرجة عالية من الضبابية، تختلط فيها الأوراق، وتضيع معها الحدود، وتتداخل فيها الأمور مع بعضها، وهكذا يبقى العراقيون في حيرة من أمرهم، وهم يتابعون الإشكالات العالقة والمستجدة بين السياسيين الذين يعلنون تمسكهم بالدستور، من دون العمل بهذا القول بصدق وإخلاص، فالهدف من هذه التصريحات، والمعرقلات لإجراء الانتخابات، أو الداعية لإجرائها، هو تحقيق مكاسب ذاتية (حزبية سياسية)، وليس الهدف مصلحة العراقيين كما هو مطلوب من أي نشاط سياسي يجري بين الكيانات والأحزاب والكتل السياسية.

وخلاصة القول، لا يصح للأحزاب وجميع العاملين في الميدان السياسي أن يجعلوا من الدستور عكازا يتعكزون عليه، من أجل الوصول إلى مآربهم، فالدستور ينبغي أن يبقى الوثيقة التي لا يتجاوزها أحد، ولا يجعل منها أداته الوحيدة لتحقيق مصالحه الحزبية الضيقة، وإنما يجب أن تبقى هذه الوثيقة مصانة ومحمية ومصانة من الجميع، حتى تكون هناك هيبة كبيرة للدستور، من خلال الاحترام الذي يظهره الجميع لهذه الوثيقة التي كلما تم احترامها، كان ذلك من شأنه حماية الحقوق وصيانة شخصية الدولة وضمان التنظيم الأفضل للانتخابات، ولكل الأمور التي تصب في صالح الدولة والمجتمع، خصوصا ونحن نمر بهذه المرحلة الحاسمة من عمر العملية السياسية في العراق.

اضف تعليق