في لحظة تأمل عميقة، حين يرفع الزائر رأسه نحو المآذن الذهبية في كربلاء، يدرك أن السماء ليست مجرد امتدادٍ أزرق يعلو المكان، بل صفحة نور تتجدد فيها الحكاية كل يوم. تلك الحكاية التي كتبت بالدم والصبر والإيمان، وحملت اسم الحسين، حتى صار اسمه نافذة يشع منها ضوء لا ينطفئ، مهما حاولت العصور أن تضع حوله الظلال...

في لحظة تأمل عميقة، حين يرفع الزائر رأسه نحو المآذن الذهبية في كربلاء، يدرك أن السماء ليست مجرد امتدادٍ أزرق يعلو المكان، بل صفحة نور تتجدد فيها الحكاية كل يوم. تلك الحكاية التي كتبت بالدم والصبر والإيمان، وحملت اسم الحسين، حتى صار اسمه نافذة يشع منها ضوء لا ينطفئ، مهما حاولت العصور أن تضع حوله الظلال. ولعل ما يميز المشهد الحسيني انه لا يكتفي بأن يكون حدثا تاريخيا، بل يتحول مع الزمن إلى معنى حي ينبض ويلهم ويوقظ الضمير.

الصورة التي نراها اليوم للمئذنة وهي تعانق السماء ليست مجرد لقطة فنية، بل هي تلخيص دقيق لمعنى روحي ظل يرافق الامة منذ قرون. الذهب الذي يغلف القباب ليس فخرا عمرانيا، رغم ما فيه من جمال ورهبة، وإنما هو إشارة إلى الخلود، إلى ما يبقى ولا يذوب. وكأن المئذنة بارتفاعها تهمس للقلوب بأن الطريق إلى الله يبدأ من موقف ثابت، من كلمة حق، من رفض الظلم مهما كان الثمن. وهذه رسالة تعلمناها من الحسين، لا من على صفحات التاريخ فحسب، بل من ذلك الضوء الذي ينساب من بين زخارف المآذن، كأنه يروي حكاية الشهادة كل يوم من جديد.

الزائر حين يقترب من الحرم، يشعر بأن المكان ينزع عنه أثقاله دون أن يطلب منه شيئا. تسمعه يتمتم بكلمات الدعاء التي حفظها منذ طفولته، وكأنها تجد في هذا المكان تحديدا صداها الأعمق. فالروح في حضرة الحسين لا تتثاقل ولا تتردد، بل تميل إلى الهدوء، إلى ذلك النوع من السكينة الذي يعيد ترتيب المشاعر المبعثرة. بعضهم يقف طويلا أمام المئذنة، يتأمل كيف يشق نورها سماء كربلاء، وكيف تنساب أشعة الشمس حولها كأنها تستأذن لتضيء طريق الواصلين.

ليس غريبا أن يتحول المشهد الحسيني إلى مصدر إلهام للصحافة والكتابة والفن. فهو مكان قادر على أن يجمع بين قدسية الماضي ونبض الحاضر. من يكتب عن الحسين لا يكتب عن شخصية تاريخية، بل يكتب عن معنى يصعب اختزاله. معنى يتصل بالكرامة والحرية والعدل، ويتصل قبل ذلك كله بالإرادة الانسانية التي اختارت أن تواجه الظلم بكلمة صادقة. ولهذا فإن كل زيارة إلى كربلاء، وكل صورة لمآذنها، وكل لحظة تأمل عند ضريح الحسين، تتحول إلى مادة صحفية أو أدبية تحمل رؤيتها الخاصة.

في كثير من الأحيان يبدو المكان وكأنه يكتب عن نفسه. يكفي أن ترى الشمس وهي تنعكس على الذهب، وأن تسمع خفق أجنحة الحمام فوق الصحن، حتى تدرك أن هناك لغة ثالثة لا تشبه الكلمات ولا تعتمد على الصوت. لغة المشاعر التي يعرفها كل من مر بهذا المكان. ولعل السر في جاذبية هذا المشهد انه لا يفرض نفسه بالقوة، بل يدخل إلى القلب دون أن يطرق الباب. وكأن شيئا في الجو، في الرائحة، في الضوء، يعيد للإنسان توازنه ويذكره بما يحتاجه ليكمل طريقه.

ومع أن الحسين ارتبط بالحداد والحزن والتأمل في المصير، إلا ان حضرته تتسع للفرح أيضا. الفرح الروحي الذي يجعل الإنسان يشعر انه أقرب إلى الله، وان خطواته نحو الحرمة ليست مجرد عبادة، بل حالة انتماء للخير في أنقى صوره. وهنا يبرز المعنى الحقيقي لعبارة لوحة ربانية لونت سماؤها بنور الحسين. فاللوحة ليست سماء كربلاء وحدها، بل قلوب الزائرين وأرواح الباحثين عن المعنى. والنور ليس ضوء الشمس فقط، بل وهج القيم التي لا تخبو.

في زمن تصخب فيه الأخبار وتتشابه العناوين، تبقى الكتابة عن الحسين نافذة مختلفة. نافذة تمنح القارئ شيئا من السلام، وتمنحه ما هو أعمق من الخبر العابر. فالمشهد الحسيني ليس حدثا موسميا ولا طقسا عابرا، بل تجربة انسانية تتجدد مع كل جيل. وكلما ازدادت الضوضاء من حولنا، ازدادت الحاجة إلى هذا الضوء الهادئ الذي ينساب من بين المآذن، ليذكرنا بأن في الحياة ما يستحق التأمل وما يستحق الوقوف لأجله بثبات.

وهكذا يبقى نور الحسين ممتدا، لا تحجبه المسافات ولا تغيبه الأزمنة. ويبقى المشهد لوحة مفتوحة، ترسمها السماء كل صباح بلون جديد، ليظل الحسين اسما لا يغيب عن الوجدان، وقصة تنسجها الأرواح قبل الأقلام.

اضف تعليق