أثبتت الدراسات العلمية الانثروبولوجية أن الحرب شكل من أشكال التأسيس، لابد وأن تحتاجه الجماعات والأمم الساعية إلى بناء مجدها في طريق سيرورتها، وقد مورس هذا الشكل عبر التاريخ الإنساني بشكل أو بآخر. بمعنى أن الحرب واحدة من آليات التأسيس ولكنها ليست الوحيدة، وهذا بالفعل ما حدث، فعلى مر التاريخ وقعت الكثير من الحروب تحت هذا العنوان.
أما دين الإسلام فهو ليس بدعا عن الأمم، ولذا كانت الحرب واحدة من آليات التأسيس فيه، ولكنها لم تكن أهم الآليات ولا أشرفها، ولذا افتتح الله سبحانه رسالته إلى محمد(صلى الله عليه وآله) بكلمة (اقرأ) وليس بكلمة (أقتل)، وقد مارس النبي(صلى الله عليه وآله) هذه الفسحة الشرعية وهذه الإجازة الإلهية وفق تقنين علمي عقدي فرضته المرحلة، فقاد عشرات الغزوات استعراضا لا أكثر، لكي يستخدم رهبتها وهيبتها في الإقناع والتأثير النفسي على الآخر، وبواسطتها كان يعقد اتفاقات الموادعة مع القبائل والجماعات من موقع قوة وليس موقع عنف دموي.
فضلا عن وجود حقيقتين مهمتين لا يود دعاة الحرب الإسلاميين ذكرهما:
الأولى: أن الكثير من تلك الغزوات لم تقع خلالها مواجهة فعلية بين الجيشين، وبعضها كانت لتأديب وتدريب بعض الصحابة وليس للهجوم على أحد.
الثانية: أن عدد جميع من قتل من طرفي النزاع في جميع حروب وغزوات عصر البعثة التي نافت على المائة لم يتجاوز الألف شخص.
ومع أن هناك من ادعى أن العدة العسكرية التي استخدمت خلال تلك الحروب والغزوات، كانت بسيطة وبدائية وغير مؤثرة، وهي السبب في قلة عدد القتلى، فإن ما وقع بعد سنة واحدة من ذلك التاريخ، والذي استخدمت فيه العدة نفسها دون تجديد أو تطوير، تسبب في قتل مئات الآلاف، كما في حروب الردة سنة أحد عشر للهجرة، ثم حروب العراق من سنة اثني عشر فصاعدا، وبعدها فتوح فارس من سنة أربع عشرة فصاعدا، وصولا إلى حروب الجمل وصفين والنهروان؛ التي لم تتجاوز عام سبع وثلاثين للهجرة، وهذا يثبت أن اختلاف العقيدة هو الذي تسبب بزيادة عدد القتلى، لا العدة المستخدمة.
المشكلة الكبرى أن هذا التبدل الغريب والقاسي، صدم المفسرين والمؤولين الذين فرضوا أنفسهم على المسلمين أو فرضتهم السياسة العربية عليهم، وبدلا من أن يبحثوا عن أسبابه الحقيقية، ويدعون إلى علاجها وتصحيحها، والعودة بها إلى عصر البعثة، عملوا المستحيل ليسحبوا عصر البعثة إلى مستنقعها من خلال مجموعة آراء سقيمة بنيت على رؤى شخصية قاصرة لأشخاص غير مؤهلين، كان بعضهم موظفا لدى الدولة، مطلوب منه أن يستخدم كل ما هو متاح وكل ما يقدر عليه ليشرعن للسياسيين أعمالهم العبثية باسم العقيدة.
من هنا ولدت منظومة الناسخ والمنسوخ التي سعت إلى إعادة بناء المنظومة الدينية وفق الرؤى السياسية بعيدا عن أصولها وحقيقتها العقدية، حيث تم إسقاط عشرات بل مئات الأحكام الشرعية التي تدعو إلى السلام والتعايش والقبول بالآخر والاشتراك مع باقي البشر لبناء مستقبل الإنسانية، لتحل بدلا عنها أحكام إكراهية قسرية إقصائية دموية، تدعو إلى إبادة جميع البشر بحجة أنهم لا يستحقون الحياة لأنهم لا يؤمنون بعقيدة الإسلام الدموي!
وقد أسهم هذا المنهج المنحرف في بناء قدرات الحاكميات العربية التي قادت الأمة، حيث كان المسلمون يساقون إلى الحروب تحت عناوين (الفتوح الإسلامية) و(الجهاد في سبيل الله) و(الدفاع عن العقيدة) وغيرها من المصطلحات الرنانة الجوفاء؛ وهم فرحون بأنهم أدوا حقوق الله عليهم، وانه سيثيبهم على ذلك أجرا كبيرا، دون أن يعرفوا أن الله بريء مما ارتكبوه من جرائم.
إن من غرائب وعجائب جماعات الناسخ والمنسوخ أن تجد بينهم من يدعي أن آية قتال واحدة تتألف من ثلاث كلمات، نسخت سبعين آية سلام. فالآية التي أباحث للإسلام استخدام الحرب كآلية من آليات التأسيس، وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(1) حينما دخلت عالم الناسخ والمنسوخ، حل محلها أمر الحرب والقتل لمن حارب أو لم يحارب. قال البغوي في تفسيره: "(الذين يقاتلونكم) كان في ابتداء الإسلام، أمر الله تعالى رسوله (ص) بالكف عن قتال المشركين، ثم لما هاجر إلى المدينة، أمره بقتال من قاتله منهم بهذه الآية. وقال الربيع بن أنس: هذه أول آية نزلت في القتال، ثم أمره بقتال المشركين كافة؛ قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله: (فاقتلوا المشركين) فصارت هذه الآية منسوخة بها. وقيل نسخ بقوله (فاقتلوا المشركين) قريب من سبعين آية!(2).
ثم بعد قرون قليلة، وبعد الابتعاد عن عصر البعثة، وصعوبة الوصول إلى أصول الأحكام، تحولت مثل هذه الرؤى الغريبة إلى عقيدة ذات حدين، يتعبد الناس بها، فيشنون الحروب على الشعوب، وتشن الشعوب الحروب عليهم لأنها ترى بأنهم يريدون إبادتها من الوجود!
وكنا نأمل من الباحثين المعاصرين أن يتحلوا بالشجاعة والإنصاف ليحاكموا تلك الرؤى والآراء، فيصححوا اعوجاجها، ويعيدونها إلى أصلها، ولكنهم بدل ذلك استخدموا المتاح، ووظفوا معطيات الحضارة ليستنبطوا آراءً تدعمها، وتؤسس بناء المشروعية العقدية لجرائم التنظيمات الإرهابية، ففي بحثه المعنون (إرشاد البرية إلى أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية)، قسم الباحث غنيم لواتي مراحل الحرب في الإسلام إلى أربع، هي:
الأولى: مرحلة منع الجهاد تبعا لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}(3).
الثانية: مرحلة الإذن بالقتال تبعا لقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(4).
الثالثة: الأمر بقتال من قاتلهم والكف عمن لم يقاتلهم تبعا لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(5).
الرابعة: قتال الكفار مطلقاً تبعا لقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(6) أي إذا انقضت الأشهر التي حرم الله فيها القتال، قاتلوا المشركين في كل زمان ومكان، وضيقوا عليهم، ولا تدعوهم يتوسعون في بلاد الله، إذ ليسوا أهلاً لسكناها التي جعلها الله لعبادته وحده(7).
وهذا يعني أن هناك في هذا العصر التنويري بين المسلمين من يؤمن بأن الإسلام يعيش حالة حرب فعلية ضد جميع البشر منذ عصر البعثة المشرفة إلى اليوم، وأنه لا سلام بينه وبين أي قوم آخرين أو دين آخر، فجميع البشر الآخرين من غير المسلمين برأي هؤلاء (ليسوا أهلا لسكنى الأرض)، ويجب إزاحتهم من على وجهها، لتبقى الأرض خالصة للمسلمين وحدهم، يحملون سيوفهم على عواتقهم، يبحثون عمن يقاتلونه، فإذا عجزوا عن إيجاد من ينحرونه، أداروا سيوفهم إلى نحورهم، فقتل بعضهم بعضا.
والأشد غرابة ونكاية أن يدعي مثل هؤلاء الناس هذا العمل الإجرامي البشع الذي يسمونه الجهاد في سبيل الله في الإسلام "ليس تدخلاً في شئون الغير"(8).
ولذا أرى أن القضاء على الإرهاب، ووقف جرائمه البشعة الشنعاء القذرة؛ التي ترتكب بحق الإنسانية باسم الدين، لا يتم إلا بالقضاء على مثل هذه الأفكار الخبيثة؛ التي تدعو إلى الإبادة الجماعية.
اضف تعليق