مايكل سبنس

 

ميلانو ــ استغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تؤثر فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع على السياسة، كما حدث بشكل مفاجئ في السنوات الأخيرة. والآن بعد أن أصبحت هذه الفجوة قضية مركزية، فلابد أن تتحول الأولويات الاقتصادية الوطنية بشكل كبير لخلق اقتصادات ومجتمعات أكثر عدالة وشمولا. وإذا لم يحدث هذا فقد يتبنى الناس بدائل ضارة لحكوماتهم الحالية، مثل الحركات الشعبوية التي تجتاح الآن العديد من البلدان.

يتحدث القادة السياسيون عادة عن أنماط النمو التي توزع فوائد النمو بشكل غير عادل؛ ولكنهم لا يفعلون إلا أقل القليل لعلاجها عندما يتولون السلطة. عندما تسلك الدول مسار أنماط النمو غير الشامل، يُفضي هذا عادة إلى عدم احترام الخبرة، والإحباط وخيبة الرجاء إزاء النظام السياسي والقيم الثقافية المشتركة، بل وحتى المزيد من التفتت والاستقطاب السياسي.

الإقرار بأهمية الكيفية التي يجري بها توزيع الفوائد الاقتصادية ليس جديدا بطبيعة الحال. ففي الدول النامية، لم يُفض الإقصاء الاقتصادي والتفاوت الشديد قَط إلى أنماط عالية النمو طويلة الأمد. ففي ظل هذه الظروف تصبح السياسات الداعمة للنمو غير مستقرة سياسيا، وتتعطل في نهاية المطاف بفِعل اضطرابات سياسية أو اجتماعية أو حتى أعمال عنف.

في الولايات المتحدة، كان اتساع فجوة التفاوت حقيقة من حقائق الحياة على الأقل منذ سبعينيات القرن العشرين، عندما بدأ التوزيع العادل نسبيا للفوائد الاقتصادية من أوائل حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية يصبح منحرفا. وفي التسعينيات، عندما بدأت التكنولوجيات الرقمية تعمل على تحويل الوظائف الأكثر روتينية إلى التشغيل الآلي وإزالة الوساطة، تَسَارَع التحول نحو المزيد من التفاوت في الثروة والدخل.

ولعبت العولمة دورا في ذلك. ففي السنوات العشرين السابقة للأزمة المالية في عام 2008، انحدر تشغيل العمالة في التصنيع في الولايات المتحدة بسرعة كبيرة في كل القطاعات باستثناء المستحضرات الصيدلانية، حتى مع ارتفاع القيمة المضافة في الصناعات التحويلية. ولم يظل صافي الخسائر في الوظائف عند مستوى الصِفر تقريبا إلا بسبب زيادة تشغيل العمالة في قطاعات الخدمات.

الواقع أن قسما كبيرا من القيمة المضافة في التصنيع يأتي فعليا من خدمات مثل تصميم المنتجات، والبحث والتطوير، والتسويق. وعلى هذا، فإذا وضعنا في الحسبان هذه التركيبة لسلسلة القيمة يُصبِح انحدار التصنيع ــ إنتاج سلع مادية ملموسة ــ أكثر وضوحا.

وعقّد عَكَف أهل الاقتصاد على تتبع هذه الاتجاهات لبعض الوقت. فعمل الخبير الاقتصادي ديفيد أوتور وزملاؤه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على التوثيق الدقيق لتأثير العولمة والتكنولوجيات الموفرة للعمالة على الوظائف الروتينية الرتيبة. ومؤخرا، صَدَر كِتاب من تأليف الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي الذي حقق أفضل مبيعات على المستوى الدولي بعنوان "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، والذي ساعد بشكل كبير في توسيع فهمنا للتفاوت في الثروة، كما وَصَف القوى الكامنة المحتملة التي ربما تدفعه. وقد أثرى الاقتصاديان الشابان المتألقان، راج شيتي وإيمانويل سايز، الحائزان على جوائز، المناقشة بأبحاث جديدة. كما كتبت شخصيا عن بعض التحولات الاقتصادية البنيوية المرتبطة بهذه المشاكل.

في نهاية الطاف، تلقف الصحافيون هذه الاتجاهات أيضا، وبات من الصعب الآن أن تجد أي شخص لم يسمع بشريحة الواحد في المائة ــ أولئك الذين يحتلون أعلى مرتبة على ترتيب أصحاب الثروة والدخل على مستوى العالم. ويخشى كثيرون الآن من مجتمع متشعب منقسم: طبقة عالمية مزدهرة من النُخَب على القمة وطبقة مضغوطة ومتوترة تضم كل الآخرين. مع هذا، وبرغم هذه الاتجاهات الطويلة الأمد، ظَل الوضع الراهن على مستوى السياسة والسياسات قائما دون أي تحد حتى عام 2008.

لكي نفهم لماذا استغرقت السياسة كل هذا الوقت قبل اللحاق بالواقع الاقتصادي الجديد، ينبغي لنا أن ننظر في الحوافز والإيديولوجية. فعن الحوافز، لم يُعط الساسة سببا وجيها بالقدر الكافي لحملهم على معالجة أنماط التوزيع غير العادلة. وفي الولايات المتحدة تتسم القيود المفروضة على تمويل الحملات الانتخابية بالضعف نسبيا، وعلى هذا فقد ساهمت الشركات والأفراد الأثرياء ــ لا يعتبر المنتمون إلى أي من الفئتين في عموم الأمر إعادة توزيع الدخل من الأولويات ــ بحصة غير متناسبة في تمويل خزائن حملات الساسة الانتخابية.

ومن الناحية الإيديولوجية، يتشكك كثيرون ببساطة في الحكومة الموسعة. وهم ينظرون إلى التفاوت بين الناس باعتباره مشكلة، ويدعمون من حيث المبدأ السياسات الحكومية التي توفر تعليما وخدمات رعاية صحية عالية الجودة، ولكنهم لا يثقون في الساسة أو البيروقراطيين. فهم يرون أن الحكومات غير فعّالة وتسعى إلى تحقيق مصالح ذاتية في أفضل الأحوال، ودكتاتورية وقمعية في أسوأ الأحوال.

وقد بدأ كل هذا يتغير مع ظهور التكنولوجيات الرقمية والإنترنت، ولكن بشكل خاص مع ظهور وسائل الإعلام الاجتماعية. وكما أثبت الرئيس الأميركي باراك أوباما في الدورة الانتخابية لعام 2008، ومن بعده بيرني ساندرز ودونالد ترامب في الدورة الحالية ــ أصبح من الممكن الآن تمويل حملة انتخابية باهظة التكاليف من دون الحاجة إلى "أموال كبيرة".

ونتيجة لهذا، هناك انقطاع متزايد بين الأموال الكبيرة والحوافز السياسية؛ وفي حين لا يزال المال يشكل جزءا من العملية السياسية، فإن النفوذ ذاته لم يعد ينتمي بشكل كامل للشركات والأفراد الأثرياء. فالآن تعمل منصات الإعلام الاجتماعي على تمكين حشد مجموعات ضخمة من الناس بطرق تذكرنا بالحركات السياسية الجماهيرية في عصور سابقة. وربما نجحت مثل هذه المنصات في خفض تكاليف التنظيم السياسي، وبالتالي الحد من اعتماد المرشحين على المال في الإجمال، في حين وفرت قناة بديلة فعّالة لجمع المال.

وهذا الواقع الجديد باق، وبصرف النظر عن الفائز في الانتخابات الأميركية هذا العام، فسوف يكون لكل المتضررين بفِعل التفاوت المفرط صوت، والقدرة على تمويل هذا الصوت، وقوة التأثير على عملية صُنع السياسات. وسوف تكون هذه أيضا حال مجموعات أخرى تركز على قضايا مماثلة، مثل الاستدامة البيئية، والتي لم تكن محل تركيز رئيسي في الحملة الرئاسية الأميركية الحالية (لم تشمل المناظرات الثلاث التي دارت بين المرشحين أي مناقشة لتغير المناخ، على سبيل المثال)، ولكنها سوف تكون محل تركيز في المستقبل بكل تأكيد.

في عموم الأمر، تعمل التكنولوجيا الرقمية على خلط الهياكل الاقتصادية وإعادة توازن علاقات القوة في ديمقراطيات العالم ــ حتى في المؤسسات التي كان يُعتَقَد ذات يوم أنها خاضعة لهيمنة المال والثروة.

الواقع أن تمكين جماهير انتخابية تتمتع بنفوذ مكتسب حديثا لابد أن يكون موضع ترحيب. ولكن هذا من غير الممكن أن يعمل كبديل للقيادة الحكيمة، ووجوده لا يضمن انتهاج سياسات حصيفة. ومع استمرار عملية إعادة موازنة الأولويات السياسية، سوف نكون في احتياج إلى إيجاد حلول مبتكرة لحل أصعب المشاكل التي تواجهنا، ولمنع سوء الحكم الشعبوي. ولا يملك المرء إلا أن يأمل أن يكون هذا هو المسار الذي أصبحنا عليه الآن.

* مايكل سبنس، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ علوم الاقتصاد في كلية جامعة نيويورك شتيرن لإدارة الأعمال

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق