q
هذه القوى إذا تصرفت باعتدال في سياساتها الخارجية، فإنها ستستمر في تمتعها بالوصول إلى الموارد والأسواق التي تحتاج إليها من أجل تحقيق نمو اقتصادي واستقرار محلي. ويتعين على قادة الدول العظمى أن يكافحوا من أجل تأسيس علاقات تجارية تسمح للدولة بأن تنمو بالقيمة المطلقة ولكن في الوقت نفسه ضمان...
بقلم: ديل سي. كوبلاند

قبل عام من الآن، لم يخطر في بال الكثيرين أن تُجبر الولايات المتحدة على التفكير في احتمال اعتُبِر وقوعه واحداً من المستحيلات منذ الحرب الباردة، وهو مواجهة عسكرية رئيسة مع قوة عظمى أخرى. فللمرة الأولى منذ عقود، تُسمع قرقعة الصواريخ في موسكو في تحذير لواشنطن بشأن دعمها لأوكرانيا. وكذلك لم تكن الأمور أقل حدة في أعقاب الزيارة التي قامت بها نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الاميركي، إلى تايوان في أوائل أغسطس (آب) الفائت، حيث صعّدت بكين بشكل كبير تهديداتها بالقيام بعمل عسكري من أجل الجزيرة.

قد تبدو هذه التهديدات أمراً مدهشاً بحد ذاتها لكن ما قد يساويها في تلك الدهشة هو معرفة الأثر المحدود للاعتمادية الاقتصادية في بناء السلام. فكلتا الدولتين، الصين وروسيا، تعتمدان بدرجة استثنائية على التجارة من أجل تحقيق نمو اقتصادي وتأمين موقعهما على المسرح الدولي. وبالفعل تمكنت الصين من مضاعفة ناتجها المحلي الإجمالي خمس مرات على مدى العقدين الأخيرين، وتم ذلك إلى حد بعيد من خلال تصدير المنتجات المصنّعة. أما في الحالة الروسية، فما يزيد على 50 في المئة من موارد الحكومة الروسية يأتي من تصدير النفط والغاز. وبحسب إحدى الأفكار المؤثرة في نظرية العلاقات الدولية، فإن من شأن هذه الروابط الاقتصادية الحاسمة أن تجعل ثمن أي صراع عسكري باهظاً بشكل أكبر بالنسبة إلى البلدين. على الرغم من ذلك، أقله في ما هو ظاهر، لا يبدو أن الخسارة المحتملة لتجارة من هذا النوع تكبح أياً من القوتين.

غير أن الصورة ليست بهذه البساطة التي تبدو عليها. أحد أسباب ذلك هو أن العلاقات التجارية قد تكون، في ظل ظروف معينة، محفّزة للحرب بدلاً من أن تكون رادعة لها. علاوة على ذلك، فإن استعراض القوة العسكرية أو حتى التهديد بمواجهة عدائية لا يرتبط دوماً مع انهيار العلاقات الاقتصادية. وكما دلّلت الحالتان المتناقضتان للصين وروسيا على امتداد العام الماضي، غالباً ما تتطور العلاقات الاقتصادية بطرق تخالف التوقعات. ومن الأهمية بمكان بالنسبة لهؤلاء الذين يفترضون دوراً إيجابياً للتجارة في منع صراع القوى العظمى، أن يعاينوا الطرق المعقدة التي استطاعت من خلالها القوى الاقتصادية أن ترسم معالم التفكير الاستراتيجي في كل من بكين وموسكو.

تجارة عدائية

من الضروري الاستعانة برؤى النظرية الواقعية [للعلاقات الدولية] من أجل فهم كيف يمكن للتجارة أن تزيد، لا أن تقلل، من فرص نشوب صراع عسكري. بصورة عامة، تركز الواقعية على سعي القوى العظمى الهادف إلى بناء قوة عسكرية نسبية وبلوغ موقع في عالم يفتقر إلى سلطة مركزية قادر على حمايتها.

غير أن الواقعيين يدركون أن القوة الاقتصادية هي بمثابة الأساس لقوة عسكرية طويلة المدى وأن التجارة الدولية ذات أهمية حيوية لبناء قاعدة قوة اقتصادية. بالنسبة إلى الواقعيين، قد يكون للتجارة نوعان رئيسيان من التأثير. أولاً، تستطيع التجارة من خلال توفير الوصول إلى كل من المواد الأولية الرخيصة والاسواق المربحة، تعزيز الأداء الاقتصادي الإجمالي والتطور التكنولوجي لبلد ما، بالتالي تقوية قدرته على دعم القوة العسكرية طويلة الأمد. وهذا هو الجانب الإيجابي لتطبيق سياسة تجارة حرة منفتحة بشكل نسبي، وهو يفسر لماذا تركت كل من اليابان، بعد إصلاحات الإمبراطور ميجي Meiji Restoration [حيث قامت اليابان خلال هذه الفترة بالتصنيع السريع وتبني الأفكار الغربية وأساليب الإنتاج لديه]، والصين، في أعقاب وفاة ما وتسي تونغ، وراءها سياسات الحكم المطلق الفاشلة في الماضي وسعت إلى الالتحاق بركب الاقتصاد العالمي.

غير أن التجارة المتنامية تُحدث تأثيراً مغايراً أيضاً. فهي تزيد من [احتمالات] تعرض القوة العظمى إلى عقوبات تجارية وحالات حظر بعدما أصبحت معتمدة على استيراد الموارد وتصدير السلع للبيع في الخارج. ويمكن أن تدفع نقاط الضعف هذه القادة إلى بناء أساطيل من أجل حماية طرق التجارة وحتى إلى الذهاب إلى الحرب من أجل ضمان الوصول إلى السلع والأسواق الحيوية.

التجارة المتنامية تجعل الدول أكثر اعتماداً على الآخرين

طالما يتوقع قادة الدولة أن تبقى علاقاتهم التجارية قوية في المستقبل، فعلى الأغلب سيسمحون للدولة أن تصبح أكثر اعتماداً على الآخرين من أجل الحصول على الموارد والأسواق التي تدفع عجلة نمو الدولة إلى الأمام. كانت هذه هي الحال بالنسبة لليابان بين عامي 1880 و1930، وللصين من عام 1980 وحتى يومنا هذا. حيث أدرك القادة في كلا البلدين أنه من دون وجود روابط تجارية كبيرة مع القوى العظمى الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، فإن أياً منهما لا يستطيع أن يصبح عضواً مهماً في نادي القوى العظمى.

ومع ذلك، إذا ساءت التوقعات بخصوص التجارة في المستقبل، وصار القادة يعتقدون أن القيود التجارية للدول الأخرى ستبدأ في الحدّ من وصولهم إلى الموارد والأسواق الرئيسة، فإنهم سيتكهنون بعد ذلك بتراجع في القوة الاقتصادية طويلة المدى وبالتالي في القوة العسكرية. وقد يتوصلون إلى اعتقاد مفاده بأن اتباع سياسات أكثر حزماً وعداونية قد بات ضرورياً من أجل حماية طرق التجارة وضمان [توافر] إمدادات المواد الخام والوصول إلى الأسواق. كانت هذه هي المعضلة التي واجهتها اليابان في ثلاثينيات القرن الماضي، حين رأت تراجع كلّ من فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى مجالات اقتصادية منغلقة وتمييزية بشكل متزايد. ونتيجة لذلك، وجد القادة اليابانيون أنفسهم مجبرين على توسيع سيطرة اليابان على العلاقات التجارية التي كانت تربطها بجيرانها. ومع ذلك، فقد توصلوا أيضاً إلى أن مثل هذه التحركات ستجعلهم يبدون أكثر عدوانية، الأمر الذي أعطى المملكة المتحدة والولايات المتحدة أسباباً جديدة من أجل التضييق على واردات اليابان من المواد الأولية، بما في ذلك النفط.

واليوم، يدرك القادة الصينيون أنهم يواجهون معضلة مماثلة، وهو ما فهمه قادة كل دولة صاعدة تقريباً في التاريخ الحديث. إنهم يعلمون أن سياستهم الخارجية تحتاج إلى أن تكون معتدلة بما فيه الكفاية من أجل الحفاظ على الثقة الأساسية التي تسمح للروابط التجارية بالاستمرار. غير أنهم يحتاجون أيضاً إلى إظهار قوة عسكرية كافية من أجل ردع الآخرين عن قطع تلك الروابط. إن وجهة النظر الواقعية بشأن كيفية تأثير التجارة في السياسة الخارجية تفعل الكثير لشرح سبب عداء القادة الصينيين الشديد خلال العام الماضي لتطورات معينة في شرق آسيا، ولا سيما ما يتعلق بتايوان. ويمكن أن تساعد وجهة النظر هذه أيضاً، وإن كان بطريقة أقل، على تفسير هوس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأوكرانيا.

الفرصة الأوحد

بحسب ما تفيد معظم الروايات، فإن حرب بوتين في أوكرانيا تعود إلى مخاوفه بشأن الأمن الروسي، وهو القلق من احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) في المدى القريب، وأيضاً إلى رغبته في أن يسجل له التاريخ بأنه الرجل الذي ساعد على إعادة بناء الإمبراطورية الروسية. لكن من المحتمل أن يكون قرار شن الغزو قد تعزز بطريقتين مهمتين بواسطة شيء آخر، هو صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا.

أولاً، أدرك بوتين بكل تأكيد أن أوروبا كانت معتمدة على روسيا أكثر بكثير من [اعتماد] روسيا على أوروبا. فقبل فبراير (شباط) الفائت، اعتمد الاتحاد الأوروبي على موسكو فيما يقرب من 40 في المئة من الغاز الطبيعي الذي كان يحتاجه من أجل صناعاته ولتدفئة منازله. وكان الاقتصاد الروسي بالطبع، معتمداً على بيع هذا الغاز. ولكن بالنظر إلى طبيعة السلعة، كان بوسع بوتين أن يتوقع أن أي خفض كبير في تدفق الغاز الطبيعي من شأنه أن يؤدي إلى رفع سعره، ما سيلحق الأذى بالاتحاد الأوروبي بطريقتين، من خلال خفض الإمداد وارتفاع التكاليف، في الوقت الذي سيؤثر فيه [الخفض] بشكل هامشي فقط في العائدات الإجمالية التي ستتلقاها روسيا من صادرات الغاز. وكما لفت الاقتصادي ألبرت هيرشمان عام 1945، في معرض الإشارة إلى صلة ألمانيا غير المتوازنة مع دول أوروبا الشرقية خلال ثلاثينيات القرن العشرين، فإنه في حالة الاعتماد المتبادل غير المتكافئ، من المرجح أن تشعر الدولة الأقل اعتماداً بالثقة في قدرتها على إجبار نظرائها الأكثر اعتماداً بقبول سياساتها المتصلبة لأن هؤلاء النظراء ببساطة يحتاجون إلى التجارة وهم أضعف بكثير من أن يقاوموا.

وحقيقة أن الأوروبيين قد استمروا في شراء الغاز والنفط الروسيين بمستويات عالية في أعقاب ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، قد أوحت بقوة إلى بوتين بأنهم لن يُحدثوا ضجة كبيرة إذا قام بغزو أوكرانيا في عام 2022. وهو بوضوح قد استخفّ بضراوة الاستجابة الأوروبية. بيد أن إدراك بوتين لاعتماد أوروبا اقتصادياً على روسيا، إلى جانب الاعتقاد السائد بأن روسيا ستستطيع التغلب بسهولة على أوكرانيا في غضون أسابيع قليلة، ساعد على إعطائه الثقة بأن هجومه الجريء سينجح.

ثانياً، كان لدى بوتين ما يبرر الخوف من تراجع نفوذ روسيا الاقتصادي على أوكرانيا وأوروبا في المستقبل. ففي عام 2010، تم اكتشاف رواسب ضخمة من الغاز الطبيعي في جنوب مدينة خاركيف الواقعة في شرق أوكرانيا، وتمتد [هذه الجيوب الغازية] إلى منطقتي دونيتسك ولوغانسك. ويضم الحقل ما تم تقديره بنحو 2 ترليون متر مكعب من الغاز، وهي كمية تعادل الاستهلاك الإجمالي لدول الاتحاد الأوروبي الـ 27 جميعها على مدى خمس سنوات وفق معدلاتها الحالية. وقد سارعت الحكومة الأوكرانية حينها إلى تغيير نظم الدولة من أجل تشجيع الاستثمار الأجنبي، وفي عام 2013 وقعت اتفاقية مع شركة "شل أويل" من أجل تطوير الحقل، فيما اتفقت شركتا "إكسون موبيل" و"شل" على العمل معاً لاستخراج الغاز من المياه العميقة قبالة الساحل الجنوب الشرقي.

خشيت روسيا من تراجع نفوذها الاقتصادي في المستقبل

وعلى الرغم من أن غزو بوتين لشبه جزيرة القرم ودونباس في عام 2014 كان على الأغلب مدفوعاً بمخاوف أخرى، فبالتأكيد كان من الواضح في موسكو في ذلك الوقت أنه إذا تم تطوير رواسب الغاز الطبيعي في شرق أوكرانيا من قبل شركات غربية فإن أوكرانيا لن تضع حداً لاعتمادها على الغاز الروسي فحسب بل ستبدأ أيضاً بتصدير غازها هي إلى دول الاتحاد الأوروبي، وبذلك تزيد من قوتها التفاوضية بشأن عقودها مع موسكو للسماح للغاز الروسي بالمرور عبر أوكرانيا.

من بين مجموعات الأنابيب الثلاث التي تستخدمها روسيا لنقل غازها السيبيري إلى دول الاتحاد الأوروبي، تمر إحداها من خلال بيلاروس وتمضي الأخرى عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، فيما تعبر الثالثة، وأهمها تاريخياً، الأراضي الأوكرانية، وتكمن تلك الأهمية في اعتماد الدول الحبيسة [التي لا تتمتع بمنفذ على البحر] مثل هنغاريا وسلوفاكيا، بشكل خاص على الغاز الروسي. ومن شأن أوكرانيا أن تعكس العلاقة غير المتكافئة في ميدان الطاقة بينها وبين موسكو في حال تصدير غازها هي إلى دول الاتحاد الأوروبي وتعويد نفسها على الاستغناء عن الإمدادات الروسية. وإذا طورت كييف ولو حتى علاقات غير رسمية مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، ناهيك عن الانضمام إلى إحدى هاتين المنظمتين أو إلى كليهما، فلن تصبح عندها أوكرانيا مجرد تهديد سياسي لموسكو، بل ستكون أيضاً تهديداً اقتصادياً لها وفي موقع يسمح لها بتقويض قوة روسيا الاقتصادية على المدى الطويل بشكل كبير.

باختصار، على الرغم من أن تحركات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أواخر عام 2021 الرامية إلى تعزيز روابط بلاده السياسية والاقتصادية مع الغرب قد أقلقت بوتين بالتأكيد بشأن مصير روسيا وربما رفعت من مستوى خشيته من أن تمتد الديمقراطية الليبرالية إلى روسيا، إلا أنها كانت تنذر أيضاً بخسائر كبيرة لجهة مقدرة روسيا على استعمال بطاقة الطاقة في المستقبل. وهكذا أسهمت توقعات موسكو بأن نفوذ روسيا الاقتصادي على أوكرانيا آخذ في التضاؤل، في جعل بوتين يشعر بأن "الفرصة الأوحد" قد سنحت لامتصاص الشطر الأكبر من اراضي أوكرانيا الواقعة إلى الشرق من نهر دنيبر، وهي المنطقة التي تختزن ما يزيد على 90 في المئة من احتياطيات أوكرانيا من الغاز الطبيعي.

رقائق أصغر، رهانات أكبر

على النقيض من ذلك، فإن الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الصين وبقية دول العالم متكافئ بشكل أكبر بكثير منه في حالة روسيا. فالاقتصاد الصيني يحفزه تصدير السلع المصنّعة، وهو، كما كان اقتصاد اليابان خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، يعتمد حالياً بشكل كبير للغاية على استيراد المواد الأولية من أجل استمراره، بما في ذلك النفط والغاز من الشرق الأوسط وروسيا. إن مكانة الصين كورشة عمل للعالم، بتوفيرها لنسبة كبيرة من أجهزة الكمبيوتر المحمولة، والهواتف الذكية، وأنظمة اتصالات الجيل الخامس (5G)، تعطي البلاد قدراً من النفوذ مع الشركاء التجاريين. فهي تستطيع أن تهدّد هؤلاء الشركاء بقيود انتقائية على الصادرات والواردات حين لا تعجبها سياساتهم الخارجية. ولكن، مثلما كان اعتماد اليابان على الصادرات في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، ففي حالة الصين، فإن هذا يسبّب لها على المدى القصير نقاط ضعف غير موجودة لدى روسيا. فموسكو قد تتضرر بالتأكيد بفعل العقوبات الاقتصادية، إلا أن قدرتها على بيع النفط والغاز -بأسعار مرتفعة سببتها أفعالها في أوكرانيا- يمكن أن تخفف الصدمة إلى حد بعيد.

فإذا ما واجهت الصين أي شيء مشابه لتلك العقوبات الشاملة المفروضة على روسيا حالياً، فإن اقتصادها سيتعرض للتدمير الكامل. في الواقع، إدراك بكين المسبق لهذا الضعف يلعب دوراً مؤثراً في ردعها عن رغباتها التوسعية، بما في ذلك خططها للقيام بغزو تايوان.

فلنتأمل مثلاً التفاصيل الفعلية لرد فعل الصين على زيارة بيلوسي إلى تايوان، على الرغم من التهديدات التي كانت قد لوحت بها في وقت سابق على الزيارة. فمع أن بكين دللّت على غضبها من خلال تدريبات عسكرية عنيفة وإطلاق صواريخ مرت عبر المجال الجوي لتايوان، فإنها حصرت رد فعلها الاقتصادي إلى حد بعيد بفرض عقوبات على صادرات تايوان الزراعية. واللافت هو أن المسؤولين الصينيين كانوا قد تجنبوا بعناية فرض أي قيود على صادرات تايون من أشباه الموصلات [رقائق تستخدم على نطاق واسع في مجال صناعة الأجهزة الإلكترونية]، على اعتبار أن الصين تعتمد على تايوان من أجل الحصول على ما يزيد على 90 في المئة من رقائقها عالية التقنية وجزءاً كبيراً من رقائقها ذات المستوى المنخفض. كما كانت الصين، بطبيعة الحال، حريصة على عدم فرض عقوبات على الولايات المتحدة بشكل مباشر خوفاً من التسبب في نشوب حرب تجارية جديدة من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم وضع الاقتصاد الصيني الآخذ سلفاً في التباطؤ.

إلا أن تبعية الصين الاقتصادية [اعتمادها على شركاء آخرين] يمكن أن يقودها إلى اتخاذ إجراءات صارمة فيما لو تراجعت توقعاتها بخصوص التجارة في المستقبل. ولنأخذ مثالاً حالة أشباه الموصلات التايوانية ذات التقنية العالية. تتمتع الصين حالياً ببعض القدرة على انتاج رقائق لها ترانزيستورات يقل حجمها عن 15 أو حتى عن 10 نانومتر. لكنها تحتاج من أجل البقاء في صدارة التطورات التكنولوجية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، والآليات ذاتية القيادة، وإنتاج الهواتف الذكية، إلى رقائق من قياس أقل من 7 أو من 5 نانومتر، وهي ما تستطيع تايوان إنتاجه بكميات كبيرة وبمستوى عال من الجودة. وعلى سبيل المثال، مع أن أحدث هواتف شركة "أبل" من نوع "آي فون" قد تم تجميعه في الصين، فهو يستعمل رقاقة من تصميم "أبل" بقياس 5 نانومتر يجري صنعها من قبل شركة TSMC في شينشو، تايوان.

،، تستطيع واشنطن أن تقلّل من احتمالات الحرب من خلال طمأنة بكين بشأن قضية أشباه الموصلات ،،

وليس من قبيل المبالغة القول إن قدرة الصين في المستقبل على اللحاق بالولايات المتحدة تعتمد برمتها على استمرار الوصول إلى الرقائق التايوانية، تماماً كما كان وضع اليابان في ثلاثينيات القرن الماضي معتمداً على وصول اليابان إلى النفط الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وتماماً كما كانت الحال في عام 1941 مع الحظر النفطي الأميركي، إذا ارتاب المسؤولون الصينيون بأن الولايات المتحدة قد تتخذ خطوات من أجل قطع طريق وصول الصينيين إلى الرقائق التايوانية، فقد يقررون أنه من الضروري الاستيلاء على الجزيرة الآن لتجنب تدهور اقتصادي طويل المدى. وهذا ليس سيناريو بعيد الاحتمال. فقد أعلن اقتصادي صيني بارز في يونيو (حزيران) الفائت أنه إذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الصين شبيهة بتلك المطبقة هذا العام على روسيا، فإنه يتوجب على الصين أن تغزو تايوان من أجل ضمان استحواذها على منشآت تايوان الخاصة بإنتاج الرقائق.

لكن إليكم بعض الأنباء الحسنة. إن التوقعات الصينية بشأن التجارة المستقبلية، كما كانت التوقعات اليابانية في عام 1941، تتوقف على قرارات السياسة الأميركية. فإذا أدرك المسؤولون الأميركيون أن سياساتهم تحدد بشكل مباشر الطريقة التي ترى بها بكين البيئة التجارية المستقبلية، ليس فقط في مجال التجارة الأشمل بل أيضاً في تجارة التكنولوجيا الفائقة باعتبارها تتصل بتايوان، فإن بإمكانهم أن يتجنبوا جعل قادة الحزب الشيوعي الصيني يشعرون بأن اقتصادهم سينهار ما لم يتصرفوا بشكل حازم. إن دوامات العداء التي يمكن أن تقود إلى حرب تنبع من الخيارات وليس من الحقائق المحددة. ومن خلال طمأنة بكين بأن الصين ستستمر في تلقي أشباه الموصلات من تايوان، حتى وإن لم يكن هناك حاجة إلى الآلات المتطورة من هولندا لتصنيعها، يمكن لإدارة بايدن أن تخفّف من مخاوف بكين بشأن التجارة المستقبلية وتقلّل احتمالات اندلاع أزمة ونشوب حرب.

وسوف يعترض الرئيس الصيني شي جين بينغ وأتباعه بطبيعة الحال حتى على هذا الموقف الأميركي، باعتباره يبقي الصين معتمدة على الآخرين من أجل الحصول على الرقائق التي تشكل أساس كل من الاقتصاد الجديد عالي الدقة وكذلك القوة العسكرية. ومع ذلك، فإن هجوماً على تايوان لن يؤدي فقط إلى فرض عقوبات اقتصادية من شأنها أن تعرّض العلاقات التجارية الصينية مع العالم الغربي إلى الخطر، بل قد يقود أيضاً إلى التدمير غير المقصود لمصانع الرقائق نفسها. ولهذا فإن لدى الصين كل الأسباب التي تدعوها إلى جعل سلوكها معتدلاً، هذا إن لم يحملها ذلك على تلطيف خطابها، حين يتعلق الأمر بوضع الجزيرة.

جعل الاعتماد أقل خطورة

ربما ظنّ بوتين أن الغرب سيذعن بشأن أوكرانيا نظراً إلى اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسيين. إلا أن القادة الصينيين يعرفون حالياً أن لدى الاميركيين، والأوربيين، وشركائهم العالميين التصميم الكافي لمعاقبة الغزاة وأنهم قد يدمرون كل شيء أنجزه الحزب الشيوعي الصيني على امتداد العقود الأربعة الماضية إذا ما قام بمهاجمة تايوان. يُظهر التاريخ أن القوى العظمى المعتمدة على غيرها تتوخى الحذر في سياساتها الخارجية حين يكون لدى قادتها توقعات ايجابية بشأن التجارة المستقبلية، لأنهم يعرفون أن التجارة سوف تساعد على بناء قاعدة سلطة طويلة الأمد وعلى زيادة ثروة المواطن العادي. ويحتاج شي جين بينغ إلى حصول كل من هذين الأمرين إذا أراد المحافظة على شرعية حكم الحزب الواحد في الصين واستقرار الدولة ذاتها.

حين تسعى القوى العظمى إلى استعمال اعتمادها الاقتصادي المتبادل للمساعدة في الحفاظ على السلام، فإنهم يواجهون مهمة القيام بموازنة صعبة. فببساطة لا يكفي وجود تجارة ذات مستويات عالية، حيث أنه من الممكن دفع الدول التي تعتمد على غيرها، مثل اليابان في ثلاثينيات القرن الماضي والصين في يومنا هذا، إلى تبني سياسات أكثر عدوانية إذا وجدت أنها لا تتمتع بإمكانية كافية للوصول إلى المواد الأولية والأسواق التي تحتاجها للاحتفاظ بموقعها كقوة عظمى. في الوقت ذاته، ينبغي على قادة الدول الأقل اعتماداً، مثل الولايات المتحدة، الحرص بعدم الإشارة إلى سعيهم لإبقاء الدولة التابعة في مستوى متدنٍ، أو إلى ما هو أسوأ من ذلك أو أنهم سيدفعون بها إلى الانهيار المطلق أو النسبي، كما فعل حظر النفط الذي فرضه الرئيس فرانكلين روزفلت على اليابان في عام 1941. لكن يمكن لسياسة التجارة المفتوحة أيضاً أن تمثل مشكلة، نظراً إلى أنها قد تساعد الدولة التابعة على اللحاق بالآخرين من حيث القوة النسبية وتصبح تهديداً طويل المدى، وهو ما أدركته الإدارات الأميركية من إدارة باراك أوباما إلى إدارة جو بايدن، في ما يخص الصين.

وقد يكون هناك نهج أفضل يتمثل في دفع القوى الصاعدة، مثل الصين، لجعل الأمور عادلة بالنسبة للجميع من خلال إنهاء بعض ممارساتها كالتلاعب بالعملة، والإعانات الحكومية للشركات الخاصة، والاستيلاء غير القانوني على التكنولوجيا الأجنبية، مع التأكيد لهذه القوى بأنها إذا تصرفت باعتدال في سياساتها الخارجية، فإنها ستستمر في تمتعها بالوصول إلى الموارد والأسواق التي تحتاج إليها من أجل تحقيق نمو اقتصادي واستقرار محلي. ويتعين على قادة الدول العظمى أن يكافحوا من أجل تأسيس علاقات تجارية تسمح للدولة بأن تنمو بالقيمة المطلقة ولكن في الوقت نفسه ضمان أن أياً من الطرفين لن يخشى حصول تراجع كبير في المستقبل في القوة الاقتصادية النسبية والتي قد تجعلها عرضة للتهديدات الخارجية أو الاضطرابات الداخلية.

قد يكون هذا صعباً مع التوترات الحالية بشأن تايوان، والتي تفاقمت بعد اصطفاف شي جين بينغ المستمر مع بوتين. لكن ومع عودة دبلوماسية القوة العظمى إلى مستوى أكثر توازناً، يمكن لواشنطن أن تعمل على تذكير بكين بحاجتها للولايات المتحدة والشركاء الغربيين من أجل تحقيق أهدافها الاقتصادية، وأن واشنطن لن تستغل تبعية الصين لتقويض تلك الأهداف. يمكن لبايدن أن يؤكد لشي جين بينغ بأن الجانب الأميركي قد تعلم دروس عام 1941، وهو أن تدمير توقعات التجارة المستقبلية لدى دولة ما قد يؤدي إلى الحرب. بيد أن بوسع بايدن أيضاً أن يقترح أن تتعلم الصين من أخطاء اليابان في ثلاثينيات القرن العشرين من أجل تجنب كل أنواع السياسات العدوانية التي قضت على الثقة الدولية اللازمة لإقامة علاقات تجارية صحية. وإذا تمكن القادة في واشنطن وبكين من تحسين توقعات بعضهم بعضاً بشأن التجارة والسلوك المستقبلي، فلا بد من أن يكون السلام قابلاً للاستمرار لعقود كثيرة مقبلة في شرق آسيا.

* ديل سي. كوبلاند، بروفيسور في العلاقات الدولية في قسم السياسة في جامعة فيرجينيا. وهو مؤلف كتاب "الاعتماد الاقتصادي المتبادل والحرب".
والمقال مترجم عن نشرية فورين أفيرز يوليو (تموز)/ أغسطس (آب) 2022
https://www.independentarabia.com

اضف تعليق