q
دراساتٌ تُشير إلى أن تقديرنا للجمال في حياتنا اليومية ربما يُحقق التأثير ذاته الذي يُحققه شعورنا بوجود هدفٍ أسمى، وعندما نجول بتفكيرنا في مفهوم الحياة التي تفيض بالمعنى، ينصرف تركيزنا في أغلب الأحيان إلى الأشخاص الذين أفادوا الإنسانية بما قدموه من إسهاماتٍ عظيمة، لكن ثمة سؤالًا يطرح نفسه: ماذا عنَّا نحن الأشخاص العاديين الذين يكدحون في حياةٍ تقليدية؟...
بقلم جوشوا هيكس، فرانك مارتيلا

عندما نجول بتفكيرنا في مفهوم الحياة التي تفيض بالمعنى، ينصرف تركيزنا في أغلب الأحيان إلى الأشخاص الذين أفادوا الإنسانية بما قدموه من إسهاماتٍ عظيمة؛ فمن المؤكد أن إبراهام لينكولن، ومارتن لوثر كينج الابن، ونلسون مانديلا عاشوا حياةً ذات هدفٍ ومعنى، لكن ثمة سؤالًا يطرح نفسه: ماذا عنَّا نحن الأشخاص العاديين الذين يكدحون في حياةٍ تقليدية؟

يتفق الكثير من الباحثين على أن هناك ثلاثة عناصر جوهرية غالبًا ما يرتكز عليها الشعور الذاتي بأن وجودنا ذو هدفٍ ومعنى، أول هذه العناصر شعورُنا بأن حياتنا متماسكةٌ و"مهمة"، وثانيها امتلاكُنا أهدافًا طويلة المدى وواضحةً ومُرضية، وثالثها إيمانُنا بأن حياتنا مهمة في ضوء المخطط الكبير للأشياء، يُطلِق علماء النفس على هذه العناصر الثلاثة التماسك، والهدف، والأهمية الوجودية.

لكننا نعتقد أن هناك عنصرًا آخر ينبغي أن يُؤخذ بعين الاعتبار، فكر في الفراشة الأولى التي لفتت انتباهك فجعلتك تتوقف لتُبدي إعجابك بها بعد انقضاء شتاءٍ طويل، أو تخيل المشهد من أعلى قمة تلٍّ عقب خروجك للتنزه من جديد في الطبيعة، في بعض الأحيان يمنحنا الوجود لحظاتٍ وجيزةً من الجمال، وعندما يُبدي الناس استعدادًا لتقدير مثل تلك التجارب، قد تعزز تلك اللحظات الطريقة التي يرون بها حياتهم، نسمي هذا العنصر التقدير المتعلق بالتجربة؛ فهذه الظاهرة تعكس شعورًا بالارتباط العميق بالأحداث وقت حدوثها والقدرة على استخلاص القيمة والمعنى من ذلك الارتباط، إنها تمثل اكتشاف الجمال الكامن في الحياة والإعجاب به.

بدأنا مؤخرًا في تعزيز فهمنا لهذا النوع من التقدير في سلسلةٍ من الدراسات نشرتها دورية «نيتشر هيومان بيهافيور» Nature Human Behaviour، وقد شارك في هذه الدراسات أكثر من 3000 شخص، كان محور اهتمامنا في كل هذه الدراسات هو معرفة ما إذا كان التقدير المتعلق بالتجربة يرتبط بإحساس الشخص بوجود هدفٍ ومعنى حتى عندما نضع في الحسبان تأثيرات العناصر الثلاثية الكلاسيكية المتمثلة في التماسك والهدف والأهمية الوجودية، إذا ثبتت صحةُ ذلك، فإن التقدير المتعلق بالخبرة يمكن أن يكون عاملًا فريدًا يُسهِم في إضفاء المعنى والقيمة على الحياة، وليس مجرد نتاج لهذه المتغيرات الأخرى.

اختبرنا فكرتنا اختبارًا مبدئيًّا خلال المراحل الأولى من جائحة كورونا، إذ طلبنا من المشاركين أن يُقيِّموا مدى تأييدهم لإستراتيجيات التكيُّف المختلفة للتخفيف من ضغوطهم النفسية، ووجدنا أن الأشخاص الذين يتحكمون في الضغط النفسي عن طريق التركيز على تقدير جمال الحياة أفادوا أيضًا بأنهم يشعرون شعورًا قويًّا بأن حياتهم ذات هدف ومعنى، وفي الدراسة التالية، طلبنا من المشاركين تقييم مدى اتفاقهم مع بنودٍ متنوعة، مثل: "لديَّ تقديرٌ للجمال الكامن في الحياة"، و"أُثمِّن التنوُّع الكبير في تجارب الحياة"، بالإضافة إلى بنودٍ أخرى تتعلق بالتماسك، والإيمان بوجود هدفٍ في الحياة، والأهمية الوجودية، والشعور العام بوجود هدفٍ ومعنى للحياة، أظهرت نتائجنا أنه كلما أعرب المشاركون أكثر عن "تقديرهم للحياة" وتجاربها العديدة، ازداد شعورهم بأهمية وجودهم، في الواقع، ارتبط كلٌّ من هذين العنصرين ارتباطًا وثيقًا بالآخر حتى عند تثبيت الجوانب الأخرى من الحياة الهادفة، وفي دراساتٍ لاحقة، توغَّلنا في استكشاف الصلة بين هذه المفاهيم، فعلى سبيل المثال، وجدنا أن المشاركين الذين طُلب منهم تذكُّر أكثر الأحداث التي مرت بهم الأسبوع الماضي أهميةً، أفادوا بشكلٍ عام بتقديرٍ كبير للتجربة التي مروا بها في تلك اللحظات.

وفي النهاية، أجرينا مجموعةً من الاختبارات التي كلفنا فيها المشاركين بمهماتٍ محددة، وطلبنا منهم مجددًا الإفادة بمدى شعورهم بانطباق بنودٍ بعينها عليهم، وهي بنودٌ تتعلق بالهدف والأهمية الوجودية، وما إلى ذلك، وفي إحدى الحالات، لاحظنا أن المشاركين الذين شاهدوا مقطعًا مذهلًا من مقاطع الفيديو مثل مقدمة الفيلم الوثائقي «كوكب الأرض»Planet Earth الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، أفادوا بأن لديهم شعورًا أقوى بأهمية التجربة وبوجود هدفٍ ومعنى للحياة، مقارنةً بالمشاركين الذين شاهدوا مقاطع فيديو أكثر حيادية، مثل فيديو تثقيفي عن المشغولات الخشبية، وعلى نحوٍ مماثل، أفاد المشاركون الذين كتبوا عن تجربةٍ حديثة شعروا بالامتنان تجاهها، بأن لديهم شعورًا أقوى بوجود هدفٍ ومعنى للحياة، وبأهمية التجربة بعد ذلك عند مقارنتهم بالمشاركين الذين كتبوا ببساطة عن زيارتهم لمكانٍ عادي الأسبوع الماضي.

أكدت النتائجُ نظريتنا الأصلية التي تُفيد بأن تقدير الأشياء الصغيرة يمكن أن يُضفي على الحياة مزيدًا من المعنى والقيمة، لكن محاولة الاستفادة من هذه الرؤية قد تكون صعبة؛ فالإيقاعُ السريع للحياة الحديثة التي تدور في فلك إنجاز المشروعات تملأ يومنا بالأهداف والغايات، إذ نحن في حالة نشاط دائم، كما نحاول تحقيق أقصى إنجازٍ ممكن في العمل أو حتى في وقت الفراغ، هذا التركيز على النتائج المستقبلية يُضيِّع علينا فرصة التنبُّه إلى ما يحدث في اللحظة الراهنة، وهي عينُها اللحظة التي نحياها، فعلينا إذًا أن نتمهل، وأن ندع الحياة تُدهشنا، وأن نستوعب ما تنطوي عليه من معنىً وغاية في كل يومٍ؛ فكما كتب جواهر لال نهرو، رئيس الوزراء الهندي السابق في عام 1950: "نحن نعيش في عالمٍ رائع ... فلا نهاية للمغامرات التي يمكن أن نخوضها، وهذا مرهونٌ بسعينا وراءها بأعينٍ مفتوحة".

اضف تعليق