وجدنا من خلال دراستنا ان هناك وسائل تحريك الدعاوى أمام المحكمة في المنازعات التي تقدم أمام المحكمة، الى جانب كيفية انعقاد جلسات المحكمة والتصويت على قرارات المحكمة، ووجدنا من خلال البحث الآثار القانونية لأحكام المحكمة الاتحادية العليا أمام السلطات كافة والتي تعتبر بات ولا يسنح أي سبيل من سبل الطعن فيها.
مقدمة
عندما نتحدث عن شيئين معا القانون والعراق، فإننا لا بد وان نذكر الشريعة القانونية في العراق منذ أكثر من خمسة آلاف سنة ونعني بـ (شريعة حمورابي) الملك و الفيلسوف والمشرع، فشريعة حمورابي التي درسناها في كلية القانون مع القانون الروماني كأساسين تاريخيين للقانون الذي وجد على الأرض الى جانب تشريعات أخرى وجدت في أماكن أخرى من الأرض المعمورة.
إذن فالقانون وجد في العراق من زمن سحيق وفي أعماق التأريخ الإنساني وتوارثت تلك التشريعات والتي سميت (مسلة حمورابي) وتضمنت (282) مجموعة نفيسة ما يعرف حاليا بالقواعد القانونية الموضوعة، -وليس هنا موضع التوسع في الحديث عنها -.
أما في العصر الحديث فقد عرف العراق وهو جزء من الإمبراطورية العثمانية في أواخر سنوات الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر بـ (القانون الأساسي العثماني) و صدر في 24 / 12 / 1876، وقد يضم القانون الأساسي العثماني و الذي طبق في العراق كأحد ولايات الدولة العثمانية (119) مادة دستورية موزعة على ( 12 ) فصل .1
أما الرقابة على دستورية القوانين فقد عرفتها الدساتير العراقية في وقت مبكر من سنوات العمل بالدساتير الحديثة والتي بدأت تتبناها الدول بعد توسع تأثيرات إعلان الدستور الأمريكي عام 1787 والذي يعتبر أقدم دستور وضعي مكتوب، والثورة الفرنسية وتأثيرات قيم الثورة الفرنسية عام 1789م .
نبحث في هذه الورقة البحثية بمنهجية علمية تأخذ شكلها التاريخي والتحليلي عن اشكالية محل البحث نبذة عن رقابة القضاء على السلطة التشريعية في العراق في مبحث تمهيدي والمحكمة الاتحادية العليا من حيث اختصاصاتها واطارها التشريعي وانعقادها ووسائل تحريك الدعاوى وآثار أحكامها القانونية في المباحث الثلاثة التالية:
مبحث تمهيدي: نبذة عن رقابة القضاء على السلطة التشريعية في العراق
المبحث الأول: المحكمة الاتحادية العليا في العراق
المبحث الثاني: اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا
المبحث الثالث: وسائل تحريك الدعاوى وآثارها القانونية
مبحث تمهيدي
نبذة تاريخية عن رقابة القضاء على السلطة التشريعية في العراق
شهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر حدثا مهما في حياة الإمبراطورية العثمانية، و ذلك على أثر قيام حركة إصلاحية ترمي الى وضع حد للتدهور الذي وصلت إليه الدولة العثمانية وسميت هذه الحركة بـ (المشروطية ) باعتبار ان مواد الدستور الذي كان أبرز مطالب هذه الحركة تعد بمثابة الشروط التي يتقيد بها الحاكم في حكم رعيته وهي فكرة مستوحاة من مفهوم نظرية العقد الاجتماعي .
القانون الأساسي العثماني (دستور 1876 – 1908)
وجد قادة الحركة الإصلاحية ( المشروطية ) الأولى الى ان الحد من أسلوب الحكم الاستبدادي المطلق ووقف التدهور الذي وصلت إليه الدولة العثمانية لا يمكن ان تعالج و تصلح إلا بإصدار دستور يحد من سلطة السلطان المطلقة و جعلها ( مشروطة ) بشروط و حدود يعينها و يقررها الدستور ، و قد عرف الدستور الذي وضعته الحركة الإصلاحية باسم ( القانون الأساسي العثماني ) وهو وثيقة وضعت وفق الأسس و المفاهيم الحديثة للدساتير و قبلها السلطان عبدالحميد مرغما في بداية عهده عام 1876 .
و على هذا الأساس أصدر السلطان عبدالحميد أرادة سلطانية في 7 تشرين الأول 1876 بتشكيل لجنة لوضع مشروع دستور برئاسة مدحت باشا و عضوية ثمانية و عشرين عضوا منهم ستة عشر موظفا مدنيا و عشرة من علماء الدين و قائدان عسكريان من الجيش، و من الجدير بالإشارة ان احد أعضاء هذه اللجنة كان من العراقيين و يدعى (محمد أمين أفندي الزند) الذي يعرفه في كتاب العهد الدستوري الأول في الدولة العثمانية بأنه كان عضوا في مجلس الشورى 2.
بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ومن نتائج مؤتمر سايكس بيكو ومؤتمر لوزان وتقسيم الدول العربية التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، فقد وجد العراق نفسه قد انتقل من ولاية الخلافة الإسلامية للدولة العثمانية الى احتلال وسيطرة الدولة البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك.
فأصبح العراق جزء من الإرث التي ورثتها بريطانيا عن الإمبراطورية العثمانية بعد ان تكالبت الدول على إنهاء الخلافة الإسلامية للدولة العثمانية، في عام 1918 أصبح العراق برمته تحت الانتداب البريطاني وفقا لمقررات مؤتمر التقسيم والانتداب.
وبعد ان تم استقرار حكم الاحتلال البريطاني للعراق، وتعين المندوب السامي البريطاني في العراق عمل على تنظيم الإدارة العراقية وذلك لترسيخ حكم الاحتلال والسيطرة على المدن العراقية وتسيير دفة الحكم.
وبعد ان استقر الوضع في العراق ومطالبة الجماهير التي خرجت بمظاهرات في استقدام الأمير فيصل أحد أنجال الشريف حسين بن علي ملك الحجاز ان يكون ملكا على العراق.
وكتبت المس بيل :( أنى على اقتناع تام بأن ليس هناك غير حل عملي واحد هو ترشيح أحد أنجال الشريف واختياري الأول منهم فيصل)
لاقت هذه الفكرة تأييدا من أعضاء اللجنة المشتركة في لندن ونتيجة لذلك اقر مؤتمر القاهرة 3الخاص بلجنة الشرق الأوسط تعين فيصل ملكا على عرش العراق.
و تنفيذا لتوجهات المؤتمر فأن المندوب السامي البريطاني في العراق أوعز الى رئيس الحكومة العراقية المؤقتة (عبدالرحمن النقيب) بعثهم باقتراح المطالبة بتنصيب فيصل ملكا على العراق، و لإضفاء الديمقراطية على قرار الحكومة أعلن المندوب السامي بأن تصديقه لقرار الحكومة سيتم شرط اقترانه بموافقة الشعب من خلال استفتاء شعبي.
وبالفعل تم إجراء الاستفتاء وقُبل قرار الحكومة تنصيب فيصل ملكا على العراق على موافقة 96% من الشعب، وفي 23 آب 1921 تم تتويج فيصل ملكا على العراق في احتفال رسمي ببغداد 4.
وبعد تتويج الأمير فيصل ملكا على العراق اتجهت الأنظار وطالبت الشخصيات الوطنية بضرورة وضع دستور دائم للبلاد من خلال مؤتمر تأسيسي الى جانب المطلب الثاني وهو خروج وانتهاء الاحتلال البريطاني على العراق لينال سيادته واستقلاله التام.
وبعد جهود الوطنيين ونتيجة جهود المؤتمر التأسيسي وضع النظام الأساسي للعراق (الدستور الدائم) لسنة 1925 بعد إقراره من المؤتمر الوطني العراقي.
المجلس التأسيسي
تحدد مهام المجلس التأسيسي الذي شكل استنادا الى ما جاء في الكلمة التي ألقاها الملك فيصل يوم تتويجه في 23 آب 1921 بأن أول الأعمال التي سيقوم بها هو المباشرة بأجراء الانتخابات التي سيخوض عنها قيام المجلس التأسيسي والذي بضع بمشورته دستورا للبلاد، بدأ الإعداد لمشروع دستور وقد مرَّ هذا المشروع قبل عرضه بصيغته النهائية على المجلس التأسيسي بست مراحل ابتداء من مشروع عام 1921.
بتأريخ 21 آذار 1925 وبعد مصادقة جلالة الملك فيصل الأول ملك العراق أقر القانون الأساسي (الدستور) للعراق ويعتبر الدستور الدائم الأول للعراق بعد تأسيس الدولة العراقية في تأريخه الحديث.
و كان النظام الأساسي (الدستور) ( 121 ) مادة موزعة على ( 12 ) باب و مقدمة.
و الرقابة القضائية على دستورية القوانين ليست من أجل إضفاء حماية قضائية على قواعد غير دستورية و كذلك ليست من أجل تمكين القضاء وحده من الإمساك بحقائق القانون، وإنما هي من اجل تمكين الدولة القانونية القائمة على سيادة القانون و الحيلولة دون الأخذ بمفاهيم لم يسمح بها المشرع الدستوري و الدفاع عن إرادة الشعب الذي أصدر الدستور و بالتالي حماية الديمقراطية.
وتعتمد الرقابة القضائية على دستورية القوانين من الوظائف الفنية حيث ينهض بها قضاة متخصصون إبداعية تفوق بكثير الوظائف القضائية التقليدية التي يغلب عليها عنصر التطبيق للقوانين القائمة.
فالدستور وثيقة تمثل القواعد التي يقوم عليها والتي صنعتها الإرادة الشعبية انطلاقا الى التغيير والتطور.
وقد اتجهت غالبية الدول الى جعل الرقابة القضائية بيد جهة واحدة هي المحكمة الدستورية وهو ما يسمى " بمركزية الرقابة " وطالما ان الرقابة عهدت الى جهة قضائية واحدة فيجب ان تتصف هذه الجهة بمهنية وحرفية متخصصة لأن هذا التخصص من شأنه ان يقضي على الكثير من المشاكل الفنية التي تواجهها.
لقد جاءت الرقابة الدستورية في ظل القانون الأساسي الصادر عام 1925و لم تمارس من الواقع العملي والتطبيقي إلا مرة واحدة طيلة سريان القانون الأساسي حتى عام 1958.
و السند الدستوري للرقابة على دستورية القوانين في النظام الأساسي تكمن في المواد ( 81 – 86 ) و في باب السلطة القضائية .
نصت المادة 81 على أن (تؤلف محكمة عليا لمحاكمة الوزراء، وأعضاء مجلس الأمة، المتهمين بجرائم سياسية، أو بجرائم تتعلق بوظائفهم العامة، ولمحاكمة حكام محكمة التمييز عن الجرائم الناشئة من وظائفهم، وللبت بالأمور المتعلقة بتفسير هذا القانون، وموافقة القوانين الأخرى لأحكامه)
ومن نص المادة 81تبين:
إنشاء محكمة عليا وتبين اختصاصات تلك المحكمة على الوجه التالي:
1. محاكمة الوزراء وأعضاء مجلس الأمة وحكام محكمة التمييز، والمتهمين بجرائم سياسية أو جرائم تتعلق بوظائفهم العامة
2. البت بالأمور المتعلقة بتفسير النظام الأساسي (الدستور).
3. البت ومراقبة القوانين وتطابقها لأحكام النظام الأساسي.
أما نص المادة ( 82 ) فقد نصت على أن:
1. إذا اقتضى إجراء محاكمة أمام محكمة عليا تحال القضية إليها بناءً على قرار اتهامي صادر من مجلس النواب، بأكثرية ثلثي الآراء من الأعضاء الحاضرين في كل قضية على حدة)
2. أما الأمور الأخرى فتحال إلى المحكمة العليا بقرار من مجلس الوزراء أو بقرار من أحد مجلسي الأمة.
3. تؤلف المحكمة من ثمانية أعضاء عدا الرئيس ينتخبهم مجلس الأعيان أربعة من بين أعضائه، وأربعة من حكام محكمة التمييز أو غيرهم من كبار الحكام، وتنعقد برئاسة رئيس مجلس الأعيان، وإذا لم يتمكن الرئيس من الحضور يترأس جلسة المحكمة نائبه
فقد بين نص المادة 82
• ان يكون الاتهام بقرار اتهامي صادر من مجلس النواب بأكثرية ثلثي من الأعضاء الحاضرين في كل قضية على حدة.
• أما الأمور الأخرى فتحال الى المحكمة العليا بقرار من مجلس الوزراء أو بقرار من مجلس الأمة.
• فقد تبنت طريقة تأليف المحكمة والتي يتم كالتالي:
أ. تتألف المحكمة من ثمانية أعضاء عدا الرئيس ينتخبهم مجلس الأعيان.
ب. يتم اختيار أربعة من بين أعضاء مجلس الأعيان وأربعة من محكمة التمييز او غيرهم من كبار الحكام.
ت. ينعقد المحكمة برئاسة رئيس مجلس الأعيان، وفي حالة تعذر الرئيس يترأسها نائبه .
المادة ( 83 ) نصت على أن :
(إذا وجب البت في أمر يتعلق بتفسير أحكام هذا القانون، أو فيما إذا كان أحد القوانين المرعية يخالف أحكام هذا القانون تجتمع المحكمة العليا بإرادة ملكية تصدر بموافقة مجلس الوزراء، بعد أن تؤلف وفق الفقرة الثالثة من المادة السابقة، أما إذا لم يكن مجلس الأمة مجتمعاً يكون نصب الأعضاء المذكورين في المادة السابقة بقرار من مجلس الوزراء وإرادة ملكية)
ومن نص المادة أعلاه
يفهم ان جلسات المحكمة غير منتظمة بل إنها تعقد في حالات إذا استوجبت البحث في تفسير أحكام القانون الأساسي او إذا خالف احد القوانين المرعية أحكام النظام الأساسي، وعقد الجلسة يتم بإرادة مُلكية بموافقة مجلس الوزراء.
أما المادة ( 84 ) نصت على أن:
(إذا اقتضى تفسير القوانين، أو الأنظمة ، في غير الأحوال المبينة في المادة السابقة ، أو اقتضى البت فيما إذا كان أحد الأنظمة المرعية يخالف مستنده القانوني يؤلف بناءً على طلب الوزير المختص ، ديوان خاص برئاسة رئيس محكمة التمييز المدنية وعند تعذر حضوره فتحت رئاسة نائبه، وينتخب أعضاؤه ثلاثة من بين حكام التمييز وثلاثة من كبار الضباط إذا كان القانون يتعلق بالقوة المسلحة وثلاثة من كبار موظفي الإدارة إذا كان القانون يتعلق بالشؤون الإدارية وفقاً لقانون خاص)
و من نص المادة أعلاه:
في غير الحالات التي جاءت في المادة 83 إذا اقتضى تفسير القوانين أو الأنظمة أو مخالفته مدته القانوني و بناءا على طلب الوزير المختص يؤلف ديوان خاص برئاسة رئيس محكمة التمييز و ثلاثة من كبار الضباط إذا كان القانون يتعلق بالقوات المسلحة و ثلاثة من كبار موظفي الإدارة إذا كان القانون يتعلق بالشؤون الإدارية و فق القانون الخاص.
أما المادة ( 85 ) نصت :
" أن تحسم الدعاوى التي تنظر فيها المحكمة العليا وفقاً للقانون، ولا تقرر إدانة المتهم إلا بأكثرية ثلثي المحكمة وقراراتها قطعية، والأشخاص الذين يتهمهم مجلس النواب ينحّون عن العمل حالاً، ولا تمنع الاستقالة من التعقيبات القانونية بحقهم "
وفق النص أعلاه اقر القانون الأساسي ان قرار إدانة المتهم يتم بأكثرية ثلثي أعضاء المحكمة و قراراتها قطعية و يتم إبعاد من تسببهم مجلس النواب عن العمل حالا و لا تتمتع في حالة استقالتهم من إتباع الإجراءات القانونية بحقهم.
أما المادة ( 86 ) نصت ما يلي :
1. كل قرار يصدر من المحكمة العليا ينص على مخالفة أحد القوانين، أو نص أحكامه لأحكام هذا القانون، يجب أن يصدر بأكثرية ثلثي آراء المحكمة، وإذا صدر قرار من هذا القبيل، يكون ذلك القانون أو القسم المخالف منه ملغي من تاريخ صدور قرار المحكمة على أن تقوم الحكومة بتشريع يكفل إزالة الأضرار المتولدة من تطبيق الأحكام الملغاة.
2. كل قرار يصدر من الديوان الخاص ينص على مخالفة أحد الأنظمة أو بعض أحكامه لمستنده القانوني يجب أن يكون بأكثرية ثلثي آراء الديوان وإذا صدر قرار من هذا القبيل يكون ذلك النظام أو القسم المخالف منه ملغي من تاريخ صدور قرار الديوان الخاص.
ومن النص أعلاه يفهم
اذا يتم إقرار مخالفة أحد القوانين أو نص أحكام النظام الأساسي بأكثرية ثلثي أعضاء المحكمة، يتم إلغاء هذا الجزء المخالف من تأريخ صدور قرار المحكمة على ان يقوم المحكمة بإصدار تشريع يكفل لإزالة الأضرار الناجمة من تطبيق الأحكام الملغاة.
هذه الأحكام وصور انعقاد المحكمة العليا للبت في اختصاصاتها المبينة في النظام الأساسي التي تكفل الرقابة القضائية على دستورية القوانين وتأمين عدم مخالفة أي نص او قانون لأحكام النظام الأساسي.
و كما لا حظنا من نص المادة ( 30 ) ليس هناك من بين شروط العضوية في مجلس الأمة و الأعيان شرط التحصيل الدراسي أو حتى شرط معرفة القراءة والكتابة و هذا يعني بالتالي ووفقا للمادة ( 82 ) الفقرة الثالثة ان يتم اختيار لعضوية المحكمة العليا من بين أعضاء في مجلس الأعيان .
والخلاصة:
ان المحكمة العليا في ظل القانون الأساسي ليست دائميه ولا تمارس أعمالها بصورة مستمرة ومنظمة وإنما هي هيئة مؤقتة تجتمع بإرادة ملكية تصدر بموافقة مجلس الوزراء عندما ترى الحكومة بعرض قضايا معينة و ينتهي مهمتها بانتهاء النظر في تلك القضايا.
وهي لا تستطيع ممارسة الرقابة على أي قانون ما لم يحال إليها ذلك القانون بقرار من مجلس الوزراء أو بقرار من مجلس الأمة.
والجدير بالذكر ان هذه المحكمة لم تمارس اختصاصاتها في الرقابة على دستورية القوانين إلا مرة واحدة فقط طيلة نفاذ النظام الأساسي حيث أحيل إليها قانون بمذكرة من مجلس الوزراء للبت في دستورية قانون منع الدعايات المضرة رقم 20 لسنة 1938، حيث قررت إلغاء المادتين الرابعة و الخامسة منه لمخالفتهما للقانون الأساسي 5 ومن جهة أخرى فليس للأفراد مراجعة المحكمة و الطعن بدستورية قانون ما أمامها.
بعد سقوط النظام الملكي عام 1958 وقيام الجمهورية العراقية توالت الحكومات المتعاقبة في حكم العراق ومع مجيء كل حكومة كان يصدر دستوراً مؤقتاً للعراق.
من خلال قراءة مواد الدستور المؤقت للعراق لعام 1958 و الذي صدر بعد قيام الجمهورية الأولى في العراق، ان النظام الأساسي لعام 1925 قد أسقط مع النظام الملكي منذ يوم 14 تموز 1958 و بعد اقل من أسبوعين تم اصدار الدستور المؤقت للعراق لعام 1958 و الذي يعتبر أقصر دستور و البالغة عدد موادها ( 30 ) مادة فقط و على أربعة أبواب و أقل من الدستور الأمريكي، ولم يتضمن مواد الدستور المؤقت أية إشارة بتشكيل محكمة عليا تتولى الرقابة على دستورية القوانين بأي شكل من أشكال.
إلا ان الدستور نص و في المادة ( 23 ) منه على ما يلي :
(القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة أو فرد التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة وينظم القانون الجهاز القضائي )6.
و ان سكوت الدستور عن معالجة تنظيم الرقابة على دستورية القوانين لا يعني نفيها بل يعني إنها تخضع للقواعد العامة في الموضوع، و القواعد العامة تجيز الرقابة على دستورية القوانين عن طريق الدفع بعدم دستوريته في حال سكوت الدساتير عنها.
فصراحة المادة ( 23 ) أكدت على استقلال القضاء و إناطة تفسير القوانين و تطبيقها في آن واحد .
وضح حق تفسير و تطبيق القانون للقضاء، و الذي يقع على عاتقه تحديد النص الواجب التطبيق، تقضي في حال حصول تعارض بين قانون عادي ودستور نافذ يلزم القاضي تطبيقا لمبدأ سيادة القانون و قاعدة تدرج القواعد القانونية، يتم تنحية القانون العادي و الامتناع عن تطبيقه و تغليب النص الدستوري و هذا من صلب واجب القضاء و هو فحوى الرقابة على دستورية القوانين بطريقة الدفع بعدم دستوريته.
والفقه يتجه على ان الرقابة على دستورية القوانين بطريقة الدفع بعدم الدستورية هي من صميم واجبات القضاء مما لا تحتاج الى نص خاص عليها.
هذا ما ذهب إليه أستاذنا الكبير المرحوم الدكتور عبدالرزاق السنهوري في مقال له في مجلة مجلس الدولة لسنة 1950 فقد قال:
(على القضاء ممارسة هذه الرقابة لأنه يتعين عليه ان يمتنع عن تطبيق تشريع يكون في تقديره باطلاً لمخالفته الدستور )7.
الى جانب هذا ان كبار الفقهاء الفرنسيين أمثال ديكي و فالين dike & Valin و غيرهم قد ذهبوا الى إقرار حق القضاء في الرقابة على دستورية القوانين في فرنسا بالرغم من وجود نصوص صريحة تمنعها .
والقضاء العراقي لم يكن بعيدا عن ممارسة الرقابة على دستورية القوانين بطريقة الدفع بعدم الدستورية، والامتناع عن تطبيق النص المخالف للدستور.
فقد مورست هذه الرقابة في ظل الدستور المؤقت للجمهورية الأولى لعام 1958 ولمرة واحدة عندما امتنعت إحدى المحاكم عن تطبيق نص أحد قوانين الإصلاح الزراعي لمخالفته للدستور8.
وبعد انقلاب 1963 صدر الدستور العراقي المؤقت في نيسان 1964 ومن خلال مواد الدستور البالغة 106 مادة دستورية لم تتضمن أية إشارة الى الرقابة على دستورية القوانين.
ولكن المادة ( 93 ) التي نصت على
(يشكل مجلس الدولة بقانون ويختص بالقضاء الإداري وصياغة القوانين والأنظمة وتدقيقها وتفسيرها)
و قد ذهبت المادة ( 98 ) الى ما تسمى بنظرية الضرورة حيث نصت المادة على ان.
(يكون للقرارات والبيانات والأوامر والمراسيم الصادرة من رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس الوطني لقيادة الثورة أو القائد العام للقوات المسلحة في الفترة من 18 تشرين الثاني لسنة 1963 شمسية قوة القانون من تاريخ صدورها، ويلغى كل ما يتعارض مع أحكامها من نصوص القوانين النافذة قبل صدورها ولا يجوز إلغاؤها أو تعديلها إلا بالطريقة المبينة في هذا الدستور المؤقت.)
وبعد انقلاب ( 17 تموز 1968م ) صدر الدستور المؤقت بتأريخ 21 أيلول 1968 و قد تضمن هذا الدستور مادة صريحة و هي المادة ( 87 ) منه على تشكيل محكمة دستورية ، فقد نصت على ما يلي :
(تشكل بقانون محكمة دستورية عليا تقوم بتفسير أحكام الدستور المؤقت والبت في دستورية القوانين وتفسير القوانين الإدارية والمالية والبت بمخالفة الأنظمة الصادرة بمقتضاها ويكون قرارها ملزما)
و بعد مرور شهرين و بالتحديد في 14 تشرين الثاني 1968 صدر قانون المحكمة الدستورية المرقم 159 لسنة 1968 حيث نص في مادته ( 1 )
(تشكل محكمة دستورية عليا برئاسة رئيس محكمة تمييز العراق أو من ناب منابه عند غيابه و عضوية رئيس مجلس الرقابة المالية و رئيس ديوان التدوين القانوني و ثلاثة من حكام محكمة التمييز الدائمين و ثلاثة أعضاء من كبار موظفي الدولة ممن لا تقل درجتهم عن مدير عام و أربعة أعضاء احتياط اثنان منهم من حكام محكمة تمييز العراق و اثنان من كبار موظفي الدولة ممن لا تقل درجتهم عن مدير عام يعينهم مجلس الوزراء باقتراح من وزير العدل و يصدر بتعينهم مرسوم جمهوري.
وفي حالة تعلق الموضوع بتفسير نص قانوني يعين عضوا إضافيا مؤقتا يمثل الجهة التي تتقدم بالاستيضاح).
كما ان المادة ( 4) من القانون نصت على اختصاصات المحكمة حيث جاء فيها :
(تختص المحكمة الدستورية العليا بالأمور التالية التي تعرض عليها وفق المادة الخامسة من هذا القانون).
1. تفسير أحكام الدستور المؤقت.
2. البت في دستورية القوانين.
3. تفسير القوانين الإدارية والمالية.
4. البت بمخالفة الأنظمة للقوانين الصادرة بمقتضاها.
5. البت بمخالفة المراسيم لسندها القانوني .9
ولكن هذه المحكمة لم ترى النور فلم تشكل لتمارس اختصاصاتها رغم وجود سندها القانوني.
لم يتضمن الدستور المؤقت لعام 1970 نصا مماثلا لما ورد في المادة ( 87 ) من دستور عام 1968 بتشكيل المحكمة الدستورية و بذلك فقد سقط السند الدستوري لقانون المحكمة الدستورية المرقم 179 لسنة 1968 .
و في ظل الدستور المؤقت لعام 1970 و رغم عدم وجود محكمة دستورية تمارس الرقابة على دستورية القوانين في تلك المرحلة إلا ان القضاء العراقي مارس تلك الرقابة للمرة الثانية وبطريق الدفع بعدم الدستورية و الامتناع عن تطبيق النص المخالف للدستور عندما امتنعت إحدى المحاكم في بغداد عن تطبيق احد قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل لمخالفته الدستور10.
الخلاصة: ان الرقابة على دستورية القوانين لم يتضمنها الدساتير المؤقتة بعد تغيير النظام الملكي الى الجمهوري ومن الدستور المؤقت للجمهورية الأولى لعام 1958 و 1964 و 1968 و 1970 باستثناء القانون رقم 159 لسنة 1968 و الذي أشار إليه دستور 1968 و لكن و رغم اصدار قانون المحكمة الدستورية إلا أنها أجهضت بدستور المؤقت لسنة 1970 و الذي استمر نفاده حتى سقوط النظام السياسي في العراق باحتلاله في 9 نيسان 2003.
المبحث الأول
المحكمة الاتحادية العليا في العراق
بعد التغيير الذي حصل على النظام السياسي في العراق منذ 2003 وتبني العراق فلسفة جديدة في نظام الحكم و التوجه الديمقراطي مع التطورات التي طرأت على مجمل الأوضاع في العراق، فكانت الحاجة ضرورة ملحة على تبني نظام حكم تجمع عليه توجهات و اتجاهات كل مكونات الشعب العراقي بما كانت تشعر من (المظلومية) في حكم العراق المتعاقب خلال العقود المنصرمة.
و قد حاول واضعو الدستور العراقي لعام 2005 بجمع الوحدة الوطنية على أرضية مشتركة والوحدة الوطنية ( National Unity ) و هي مجموع القيم التي تعبر عن ولاء الانسان الى رابطة المواطنة بانتمائه الى وطنه و ما يترتب على ذلك من حقوق و التزامات دون أي تمييز، بصورة يسمو هذا على الانتماء الاثني أو الديني أو الطائفي و تتسم الوحدة الوطنية بأهمية خاصة سواء لدى الشعوب المستعمرة أو المتمتعة بالاستقلال حيث يشكل الوحدة الوطنية مركز استقطاب لنضال الشعوب المستعمرة ، كما تعتبر صمام الأمان للدفاع عن الوطن ووحدة أراضيه و سلامته الإقليمية بالنسبة لشعوب الدول المستقلة 11.
ومع انتشار الديمقراطية في المجتمعات الداخلية منذ نهاية القرن التاسع عشر نجد بتصاعد سلطات البرلمانات (مجالس التمثيل الوطني)، فبالإضافة الى مهمة صياغة قواعد القانون التي تسود العلاقات في المجتمع الداخلي، فأن البرلمانات اكتسبت على مراحل سلطات رقابة أكثر أهمية على نشاطات السلطة التنفيذية.
بالنسبة للسلطة التشريعية فأن الرهان على التدويل والديمقراطية يمثل المبادئ الدستورية والديمقراطية لصيغة القانون والرقابة على السلطة التنفيذية من قبل السلطة التشريعية تجاه تطور القانون الدولي وتنامي تشكيلات المجتمع الدولي 12.
ان وظيفة رقابة نشاطات السلطة التنفيذية من قبل السلطة التشريعية هي سمة جوهرية للأنظمة الديمقراطية، و ان وظيفة الرقابة تتركز في التحقق من قبل ممثلي الشعب بأن السياسة المتبعة من السلطة التنفيذية تتفق مع الإرادة العامة، لقد وضعت مختلف الدساتير الوطنية باب خاصة للسماح للسلطة التشريعية ممارسة هذه الرقابة على سياسة الداخلية المنفذة من الحكومة.
و قد أوجد دستور العراق الدائم لعام 2005 الى جانب رقابة السلطة التشريعية على أعمال السلطة التنفيذية (الحكومة) و الى مبادئ الفصل بين السلطات و استقلالية السلطة القضائية الى جانب كل تلك الحلقات أوجد المحكمة الاتحادية العليا المختصة باختصاصات واسعة على مستوى الرقابة الدستورية على القوانين.
وتعد المحكمة الاتحادية العليا حالة مميزة في النظام القانوني في العراق و مرحلة متقدمة لما كانت عليه في العقود المنصرمة و في هذا المبحث نبحث بالتفصيل عن المحكمة الاتحادية العليا في العراق، وعلى الوجه التالي:
المطلب الأول: الإطار التشريعي لنشأة المحكمة الاتحادية العليا
المطلب الثاني: استقلالية المحكمة الاتحادية العليا.
المطلب الأول
الإطار التشريعي لنشأة المحكمة الاتحادية العليا في العراق
نصت المادة ( 44 ) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ما يلي :
(يجري تشكيل محكمة في العراق بقانون وتسمى المحكمة الاتحادية العليا)
استنادا الى أحكام المادة ( 44 ) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية و القسم الثاني من ملحقه ، و بناءا على موافقة مجلس الرئاسة ، قرر مجلس الوزراء اصدار الأمر الآتي :
المادة ( 1 ) تنشأ محكمة تسمى المحكمة الاتحادية العليا و يكون مقرها في بغداد و تمارس مهامها بشكل مستقل لا سلطان عليها لغير القانون .
المادة ( 2 ) المحكمة الاتحادية العليا مستقلة ماديا و إداريا 13.
وفي العودة الى نص الدستور الدائم لعام 2005 قد عدَّ في المادة ( 89 ) المحكمة الاتحادية العليا ضمن السلطة القضائية الاتحادية وجاء في نص المادة ( 89 )
(تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة التمييز الاتحادية، وجهاز الادعاء العام، و هيئة الأشراف القضائي، والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقا للقانون)
تكوين المحكمة
في نشأة و تكوين المحكمة الاتحادية العليا في العراق نصت المادة ( 44 ) الفقرة هـ ما يلي :
(تتكون المحكمة الاتحادية. من تسعة أعضاء، ويقوم مجلس القضاء الأعلى أولياً وبالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم بترشيح ما لا يقلّ عن ثمانية عشر إلى سبعة وعشرين فرداً لغرض ملء الشواغر في المحكمة المذكورة، ويقوم بالطريقة نفسها فيما بعد بترشيح ثلاثة أعضاء لكلّ شاغر لاحق يحصل بسبب الوفاة أو الاستقالة أو العزل، ويقوم مجلس الرئاسة بتعيين أعضاء هذه المحكمة وتسمية أحدهم رئيساً لها. وفي حالة رفض أيّ تعيين يرشح مجلس القضاء الأعلى مجموعةً جديدةً من ثلاثة مرشّحين.)
و قد أشارت المادة ( 45 ) من قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية الى تأسيس مجلس أعلى للقضاء و يكون رئيس المحكمة الاتحادية العليا عضوا في هذا المجلس .
فقد نصت المادة ( 45 ) بما يلي :
(يتمّ إنشاء مجلس أعلى للقضاء ويتولى دور مجلس القضاة، يشرف المجلس الأعلى للقضاء على القضاء الاتحادي، ويدير ميزانية المجلس. يتشكّل هذا المجلس من رئيس المحكمة الاتحادية العليا، ورئيس ونواب محكمة التمييز الاتحادية، ورؤساء محاكم الاستئناف الاتحادية، ورئيس كل محكمة إقليمية للتمييز ونائبيه. يترأس رئيس المحكمة الاتحادية العليا المجلس الأعلى للقضاء، وفي حال غيابه يترأس المجلس رئيس محكمة التمييز الاتحادية).
و استنادا الى المادة ( 44 ) الفقرة هـ
(تتكون المحكمة الاتحادية العليا من رئيس و ثمانية أعضاء يجري تعينهم من مجلس الرئاسة بناء على ترشيح من مجلس القضاء الأعلى بالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم و فق ما هو منصوص عليه في الفقرة هـ من المادة ( 44 ) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية 14.
في ضوء النص المقدم رشح مجلس القضاء الأعلى ( 27 ) مرشحا لرئاسة و عضوية المحكمة.
و مجلس القضاء الأعلى يتكون من رئيس و نواب رئيس محكمة التمييز الاتحادية و لرئيس و نائبي رئيس محكمة التمييز في إقليم كردستان ومن خلال عملية اقتراع سري و حر خضعت أسماء المرشحين للتمحيص من قبل مجلس الرئاسة استمر سبعة أشهر اختير بعدها رئيس و أعضاء المحكمة الاتحادية حيث صدر المرسوم الجمهوري المرقم ( 398 ) و المؤرخ في 30 / 3 / 2005 بالتعيين .
وبعد إجراء الانتخابات للجمعية الوطنية وتشكيل الحكومة أعيد تعيين رئيس و أعضاء المحكمة الاتحادية العليا بمرسوم جمهوري المرقم ( 2 ) الصادر من هيئة الرئاسة في 1 / 6 / 2005 .
المطلب الثاني
استقلال المحكمة و خدمة القضاة
أشارت المادة ( 7 ) من قانون المحكمة الاتحادية العليا بشأن مباشرة أعضاء المحكمة مهامهم بعد التعيين ما يلي :
(يؤدي رئيس المحكمة الاتحادية العليا وأعضاءها أمام مجلس الرئاسة اليمين الآتي نصها قبل مباشرة مهامهم:
( أقسم بالله العظيم ان أؤدي وظيفتي بصدق و أمانة و أقضي بين الخصوم بالحق و العدل و أطبق القوانين بأمانة و نزاهة و حيادية ، وأحافظ على استقلال القضاء و كرامته و نزاهته و الله على ما أقوله شهيد )
وتعزيزا لاستقلالية القضاء و إدارة شؤونها في العراق ومن ضمنها المحكمة الاتحادية العليا التي تعد جزءا من القضاء العراقي.
فقد جاءت المادة ( 43) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية تعزيزا لذلك :
(القضاء مستقل، ولا يدار بأي شكل من الأشكال من السلطة التنفيذية وبضمنها وزارة العدل، ويتمتع القضاء بالصلاحية التامة حصرا لتقرير براءة المتهم أو إدانته وفقا للقانون من دون تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية)
وتنفيذا لأحكام قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية فقد عزز قانون المحكمة الاتحادية العليا في العراق رقم 30 لسنة 2005 هذا التوجه.
حيث نصت المادة (2 ) منه :
(المحكمة الاتحادية العليا مستقلة ماليا وإداريا)
فقد أولى قانون المحكمة الاتحادية لرئيسه و أعضاءه حصانة إضافية لتأكيد استقلاليتهم فقد أرست المادة ( 6 )
أولا: يتقاضى رئيس المحكمة الاتحادية وأعضاءها راتب ومخصصات وزير
فيما ذهبت الفقرة ثالثا في إحاطة رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا بحصانة: فقد نصت
ثانيا: يستمر رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا بالخدمة دون تحديد حد اعلى بالعمر إلا إذا رغب بترك الخدمة.
حيث درجت المحاكم الاتحادية في أغلب الأنظمة على استمرار القضاة دون تحديد حد أعلى للعمر لأن اختيار القضاة يتم وفق ضوابط تعتمد الكفاءة والخبرة المهنيتين مما يستدعي عدم تحديد حد أعلى للعمر تأمينا للاستقرار ولإكساب المحكمة قوة اتخاذ القرار، وهذا المنهج تبعه قانون المحكمة الاتحادية العليا في العراق كما مرَّ بنا. إلا ان خدمة القاضي تنتهي إذا رغب بترك الخدمة وبموافقة هيئة الرئاسة، أو يتم عزله بسبب الإدانة عن جريمة مخلفة بالشرف أو الفساد أو قدمّ استقالته ولم تقبل من قبل مجلس الرئاسة.
المبحث الثاني
اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا
أسند قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية للمحكمة الاتحادية العليا الاختصاصات التي وردت في نص المادة ( 44 ) .
فيما أضاف الدستور الدائم لسنة 2005 اختصاصات إضافية الى اختصاصات المحكمة الاتحادية في المادة (93 ).
وسنبحث فيما يلي اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا وانعقادها في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا
المطلب الثاني: انعقاد المحكمة
المطلب الأول
اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا
1. الاختصاص ألحصري والأصيل في الدعاوى بين الحكومة العراقية الانتقالية وحكومات الأقاليم وإدارات المحافظات والبلديات والإدارات المحلية.
2. الاختصاص ألحصري والأصيل، و بناء على دعوى من مدعي، أو بناء على إحالة من محكمة أخرى، من دعاوى بأن قانونا أو نظاما أو تعليمات صادرة عن الحكومة الاتحادية أو الحكومات الإقليمية أو إدارات المحافظات و البلديات و الإدارات المحلية لا تتفق مع هذا القانون.
3. تحدد الصلاحية الاستثنائية التقديرية للمحكمة العليا الاتحادية بقانون اتحادي.
واسند الدستور الدائم للعراق لعام 2005 الاختصاصات التالية للمحكمة الاتحادية العليا فقد جاءت في نص المادة ( 93 ) :
تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يلي:
1. الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة.
2. تفسير نصوص الدستور.
3. الفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء وذوي الشأن من الافراد وغيرهم حق الطعن المباشر لدى المحكمة.
4. الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم
والمحافظات والبلديات والادارات المحلية.
5. الفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين حكومات الأقاليم أو المحافظة.
6الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، والوزراء وينظم ذلك بقانون.
7 المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب.
8.
أ. الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم.
ب. الفصل في تنازع الاختصاص فيما بين الهيئات القضائية للأقاليم أو المحافظات غير المنتظمة في اقليم.
و من الملاحظ لفقرات المادة ( 93 ) أعلاه أن الدستور الدائم 2005 قد منح للمحكمة الاتحادية العليا اختصاصات واسعة و في مقدمتها هي الرقابة على دستورية القوانين و الأنظمة النافذة ، هو اختصاص الأصيل للمحكمة الاتحادية الى جانب تفسير نصوص الدستور الدائم للعراق ، و كذلك الفصل في المنازعات التي تثور في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية و القرارات و التعليمات الصادرة عن السلطة الاتحادية .
والاختصاص الأخر هو الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات.
ومن الاختصاصات المهمة التي منحها الدستور للمحكمة الاتحادية هو الفصل في الاتهامات الموجهة الى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء.
وكذلك المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب حيث كان هذا الاختصاص مناط لأعضاء مجلس المفوضين للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق في المرحلة الانتقالية وفقا لأمر سلطة الائتلاف 92 لسنة 2004 وقد أنيط الى المحكمة الاتحادية العليا على وفق دستور 2005.
كذلك اختصاص الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم الى جانب الفصل في تنازع الاختصاص فيما بين الهيئات القضائية للأقاليم أو المحافظات غير المنتظمة بإقليم.
ومن قراءة مواد قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005.
حيث نصت المادة ( 4 ) من القانون أعلاه
تتولى المحكمة الاتحادية العليا المهام التالية:
1. الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية و حكومات الأقاليم و المحافظات و البلديات و الإدارات المحلية.
2. الفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين و الأنظمة و التعليمات و الأوامر الصادرة من أي جهة تملك حق إصدارها و إلغاء التي تتعارض منها مع أحكام قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، و يكون ذلك بناء على طلب من محكمة أو جهة رسمية أو مدعٍ بمصلحة.
3. النظر في الطعون المقدمة على الأحكام والقرارات الصادرة من محكمة القضاء الإداري.
4. النظر في دعاوى المقامة أمامها بصفة استثنائية وينظم اختصاصها بقانون اتحادي.
وفيما يخص في الفقرتين الأولى والثانية أعلاه واللتان تخصان موضوع دراستنا هذه يمكن القول بإيجاز:
أولا : النظام الاتحادي في نظم الحكم يتميز بمبدأ تقاسم الصلاحيات و السلطة و نتيجة لذلك يتم قيام سلطتان ( السلطة الاتحادية و تمتلك الاختصاصات التشريعية و التنفيذية و القضائية ) و سلطات الإقليم تمتلك نفس الاختصاصات في الإقليم إلا ما استثنى بنص خاص وسنكون بذلك أمام سلطتين سلطة اتحادية و سلطة إقليمية و أمام نوعين من القانون ( اتحادي ، إقليمي ) و من واقع الحال ينشأ عند التطبيق منازعات و التي تنتهي بالأساس بقرار من المحكمة الاتحادية العليا للقانون الواجب التطبيق أو الجهة المختصة بنظر النزاع، سلطة الإقليم القضائية أو السلطة القضائية الاتحادية .
ثانيا: تناولت الفقرة ثانيا النظر بشرعية التشريعات أي الرقابة على دستورية القوانين فقد تثور تساؤلات عن نوعية الرقابة التي تمارسها المحكمة و هل تمارسها من تلقاء نفسها أو تكون بناء على طلب أو دعوى.
فقد أجاب النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم ( 1 ) لسنة 2005 على تلك التساؤلات و الذي صدر استنادا الى نص المادة ( 9 ) من قانون المحكمة الاتحادية العليا التي نصت:
(تصدر المحكمة الاتحادية العليا نظاما داخليا تحدد فيه الإجراءات التي تنظم فيه سير العمل في المحكمة وكيفية قبول الطلبات وإجراءات التدافع ...)
فقد بين النظام الداخلي نوع الرقابة التي تمارسها المحكمة و من له حق تقديم الطلب أو الدعوى في المواد (3، 4، 5، 6) منه.
هناك اختصاصات وردت في النصوص الدستورية و القوانين التي شرعت استنادا لنصوص الدستور أضيفت لاختصاصاتها ومن تلك الاختصاصات ما نصت عليه المادة ( 52 ) أولا / ثانيا من الدستور و التي نصت:
أولا: (يبت مجلس النواب في صحة عضوية أعضاءه خلال ثلاثين يوما من تأريخ تسجيل الاعتراض بأغلبية ثلثي أعضاءه).
ثانيا: (يجوز الطعن في قرار المجلس أمام المحكمة الاتحادية العليا خلال ثلاثين يوما من تأريخ صدوره )
ولذا فأن اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا في ظل الدستور الدائم كانت أوسع مما تضمنته اختصاصات المحكمة وفق قانونها النافذ إذ أضيفت الى اختصاصاتها وفق الدستور الدائم الاختصاصات التالية:
1. تفسير النصوص الدستورية.
2. الفصل في الاتهامات الموجه الى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء.
3. المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب.
4. الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم.
5. الفصل في تنازع الاختصاص فيما بين الهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم.
6. الفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الصادرة من السلطة الاتحادية.
7. الطعن أمام المحكمة في قرار مجلس النواب بشأن صحة عضوية أعضاءه.
8. ما تنص عليه القوانين من اختصاص المحكمة (مثال ما نصت عليه المادة 20 من قانون الجنسية العراقية رقم 26 لسنة 2006) .
اختصاص المحكمة الاتحادية العليا بتفسير نصوص الدستور
لم يكن من بين اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا بموجب قانونها رقم 30 لسنة 2005 تفسير النصوص الدستورية، إلا ان الدستور الدائم و في المادة 93 ثانيا منه قد أضافت هذا الاختصاص الى اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا.
لقد تركت بعض المبادئ الدستورية جدلا وثارت تساؤلات بين الساحتين القانونية والكتل السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمتخصصين و من هذا الجدل يتعلق بتفسير بعض النصوص الدستورية المتعلقة بالديمقراطية و ثوابت أحكام الإسلام و ما إذا كان ذلك يشكل تناقضا كما ثار الجدل حول الحقوق الأساسية للحريات و الافراد و توزيع إيرادات مصادر الطاقة و إدارتها بين الحكومة الاتحادية و حكومات الأقاليم و المحافظات.
وجعل الدستور هذا الاختصاص من مهام المحكمة الاتحادية العليا وهي مهمة جسيمة لأنها ستكون المرجع لأي خلاف يثور حول تفسير أي نص دستوري.
من له حق طلب التفسير
لم يتضمن قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 بيان من له حق طلب التفسير لأن الاختصاص بتفسير الدستور لم يكن من اختصاصات المحكمة بموجب قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية و قانون المحكمة الاتحادية العليا، فقد أضيف الاختصاص بموجب دستور العراق الدائم و في الفقرة ثانيا من المادة ( 93 ) منه .
وعلى ضوء إضافة اختصاص المحكمة الاتحادية العليا بتفسير النصوص الدستورية كان لا بد من تعديل لقانون المحكمة الاتحادية و النظام الداخلي الصادر بموجبه مما ينسجم و هذا الاختصاص، و لكن من المنطق التساؤل من له حق طلب التفسير.
اختلفت قوانين المحاكم الدستورية في هذا الأمر بسبب اختلاف أنظمتها السياسية فالبعض حصر في طلب التفسير في وزير العدل بناء على طلب مجلس الوزراء أو رئيس المجلس التشريعي أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية، إلا ان هذا الاتجاه يتقاطع مع مبدأ فصل السلطات في ظل الأنظمة التي تأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية وخاصة في العراق و بتالي يصح ان يقدم طلب التفسير مباشرة من أي من يمثل السلطتين التشريعية والتنفيذية.
و مجلس النواب كونه يمثل السلطة التشريعية فأن الطلب يقدم من رئيس مجلس النواب كما يقدم الطلب من قبل رئيس مجلس القضاء الأعلى باعتباره ممثلا للسلطة القضائية و كما يقدم الطلب من رئيس الوزراء باعتباره يمثل السلطة التنفيذية، و بالتالي ينحصر طلب التفسير في سلطات الدولة دون إعطاء هذا الحق لغيرها وهذا ما سارت عليه قوانين أغلب المحاكم الدستورية.
أثر التفسير الصادر من المحكمة الاتحادية العليا
نصت المادة ( 94 ) من الدستور الدائم لعام 2005 على ما يلي :
( قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة و ملزمة للسلطات كافة ) واضح من النص المتقدم ان قرار التفسير تصدرها المحكمة الاتحادية العليا بات و ملزم للسلطات كافة و تذهب اغلب المحاكم الدستورية الى وجوب نشر مثل تلك القرارات في الجريدة الرسمية ويثور تساءل حول هل ان صفة الإلزام في قرار التفسير لا تتحقق إلا بالنشر في الجريدة الرسمية و الاعتقاد جازم ان قرار المحكمة الاتحادية بالتفسير ملزم من تأريخ صدوره و ان النشر في الجريدة الرسمية هو الإعلان للجمهور هو الاطلاع و يؤثر على صفة الإلزام ، هذا بخلاف الحال ان كان الحكم أو القرار الذي تصدره المحكمة الاتحادية العليا متضمنا عدم دستورية نص قانون أو قرار أو نظام تشريعي فأن نشره واجب و يكون نفاذه بعد نشره في الجريدة الرسمية للحيلولة دون تطبيقه باعتباره نصا غير دستوري .
المطلب الثاني
انعقاد المحكمة الاتحادية العليا
أوضحت المادة( 5 ) أولا: من قانون المحكمة الاتحادية كيفية انعقاد المحكمة والتصويت:
" لا تنعقد المحكمة إلا بدعوة من رئيس المحكمة لأعضائها وقبل الموعد المحدد لوقت كاف، والوقت الكاف يقدره رئيس المحكمة و يرفق مع كتاب الدعوة جدول الأعمال و ما يتعلق به من وثائق يطلع الأعضاء على جدول الأعمال و الوثائق المرفقة به ليكونوا الرأي عند حضورهم الجلسة المقرر انعقادها لمناقشة القضايا المعروضة ".
" انعقاد المحكمة لا يكون صحيحا إلا بحضور جميع الأعضاء، أي ان نصاب الانعقاد يتم بحضور جميع الأعضاء فإذا تخلف أحد الأعضاء عن الحضور فلا يكون النصاب مكتملا وبالتالي لا تنعقد المحكمة و إذا انعقدت بخلاف ذلك فإن انعقادها يكون غير صحيح ".
" وتصدر الأحكام والقرارات بالأغلبية البسيطة عدا الأحكام و القرارات الخاصة بالفصل في المنازعات الحاصلة بين الحكومة الاتحادية فيلزم ان تصدر بأغلبية الثلثين ".
وقد حصرت المادة ( 8 ) ، أولا من قانون المحكمة الاتحادية العليا :
" مسؤولية إدارة المحكمة الى رئيس المحكمة وهو الذي يتولى جميع شؤونها و تعين موظفيها و النظر في شؤونهم ، كما أعطت المادة ذاتها الحق لرئيس المحكمة تخويل بعض من صلاحياته الى احد أعضاء المحكمة ، ومن الشيء الملاحظ ان ما اتبعه بعض المحاكم الاتحادية العليا في العالم بمنح الإدارة فيها الى ( مدير أداري ) يتولى كل ما يتعلق بإدارة المحكمة ماليا وإداريا ليتفرغ رئيس المحكمة و أعضائها الى الجانب القضائي لأن الإدارة تأخذ الكثير من وقت القاضي الذي يمارسه في أداء المهام الإدارية و مما يؤثر في ممارسته لواجباته القضائية بشكل كامل" .
وهذه التجربة تبنتها المحكمة الاتحادية العليا في العراق حيث انيطت إدارة المحكمة لمدير عام يتولى إدارتها من الناحيتين المالية و الإدارية إضافة الى اختصاصاته القانونية حول اتخاذ بعض القرارات الإعدادية المتعلقة بقبول الدعوى و تسجيلها و استيفاء الرسوم عنها و تعين موعد المرافعة و قبول لوائح الخصوم و تبليغ الخصوم و ذوي العلاقة و تهيئة الدعاوى لأعضاء المحكمة بواسطة الموظفين القانونين المساعدين 15.
المبحث الثالث
وسائل تحريك الدعاوى وآثارها القانونية
بعدما أوضحنا سالفا اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا ، والتي جاءت مستندة الى أحكام قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية و الدستور الدائم للعراق 2005 .
لا بد لنا ان نستعرض وسائل تحريك الدعاوى أمام المحكمة الاتحادية العليا وأنواع الدعاوى وآثارها القانونية لقرارات المحكمة الاتحادية العليا وفقا لاختصاصاتها التشريعية ومما سبق سنبحث تلك الوسائل وآثاره القانونية في المطلبين التالية:
المطلب الأول: وسائل تحريك الدعاوى أمام المحكمة
المطلب الثاني: آثار قرارات المحكمة الاتحادية العليا
المطلب الأول
وسائل تحريك الدعاوى أمام المحكمة
قبل الشروع في استعراض نوع الرقابة ( وسائل تحريك الدعاوى ) أمام المحكمة الاتحادية العليا و نوع الرقابة التي تمارسها المحكمة الاتحادية لا بد من بيان بعض نقاط الخلاف بين الدفع بعدم دستوريته ( الامتناع ) والدعوى المباشرة أو ما تسمى بدعوى الإلغاء للتمييز بينهما و نوردها في الفقرات التالية :
1. الدفع بعدم الدستورية ( الامتناع ) يثار أمام محكمة الموضوع بينما دعوى الإلغاء ( وبدعوى المباشرة) تقدم أمام المحكمة الدستورية .
2. حكم المحكمة في الدفع بعدم الدستورية (الامتناع ) يقضى بإهمال القاضي الحكم القانون غير الدستوري الامتناع عن تطبيقه على القضية المعروضة عليه بينما حكم المحكمة في الدعوى المباشرة يقضي بإلغاء التشريع المخالف للدستور.
3. حكم المحكمة بالدفع بعدم دستورية (الامتناع ) ذو حجية نسبية مقصورة على أطراف النزاع القائم و لا يعتد المحاكم الأخرى بتطبيق التشريع ذاته أو حتى المحكمة ذاتها في دعوى أخرى .
4. حكم المحكمة بالدفع بعدم الدستورية ( الامتناع ) لا يحول دون استمرار القانون المطعون بدستوريته في حين ان حكم المحكمة في دعوى الإلغاء يحول دون استمرار القانون لفقدان أثر القانوني بالإلغاء. سنبحث تلك الوسائل من خلال الفروع التالية:
الفرع الأول: بطريق الدفع بعدم الدستورية (الامتناع).
الفرع الثاني: بطريق الدعوى المباشرة ( دعوى الإلغاء ) .
الفرع الثالث: النظر في الطعون المقدمة على الأحكام والقرارات الصادرة من القضاء الإداري
الفرع الأول
الرقابة بطريق الدفع بعدم الدستورية ( الامتناع )
الحالة الأولى:
نصت المادة ( 3 ) من النظام الداخلي رقم 1 لسنة 2005 ما يلي :
" إذا طلبت إحدى المحاكم من تلقاء نفسها أثناء نظرها دعوى البت في شرعية نص في القانون أو قرار تشريعي أو نظام او تعليمات تتعلق بتلك الدعوى ترسل الطلب معللا الى المحكمة الاتحادية العليا للبت فيه و لا يخضع هذا الطلب الى الرسم فالمادة المذكورة أعلاه منحت الحق للمحاكم على اختلاف درجاتها أثناء نظرها دعوى مدنية أو جزائية و ارتأت ان النص القانوني أو القرار التشريعي أو النظام أو التعليمات الواجب التطبيق على وقائع الدعوى مخالف للنصوص الدستورية ، فلها ان تطلب من تلقاء نفسها البت في شرعية النص و ترسل طلبا معللا الى المحكمة الاتحادية العليا ".
و هذا الطلب غير خاضع للرسم ، فإذا أرسل الطلب من محكمة الموضوع الى المحكمة الاتحادية العليا للبت في شرعية النص ما هو مسار الدعوى الأصلية ؟
هل تتوقف المحكمة بنظرها أم تستمر ؟
المادة ( 3 ) من النظام الداخلي لم تعالج هذا الأمر بوضوح كما نصت عليه المادة ( 4) اللاحقة لها و التي نصت على الاستئخار للحالة التي تعالجها .
ولكن نص المادة ( 19 ) من النظام الداخلي و التي جاء فيها :
" تطبق أحكام قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 و قانون الإثبات رقم ( 107 ) لسنة 1969 حين لم يرد به نص خاص في قانون المحكمة الاتحادية العليا و في هذا النظام ".
و بعودتنا الى القواعد العامة في قانون المرافعات المدنية التي تعالج الأحوال الطارئة على الدعوى ( الباب السابع – الفصل الأول – المادة 83 / 1) والتي نصت :
" إذا رأت المحكمة ان الحكم يتوقف على الفصل في موضوع أخر قررت إيقاف المرافعة و اعتبار الدعوى مستأخرة حتى يتم الفصل في ذلك الموضوع "
نرى ان البت في شرعية النص في القانون أو القرار التشريعي أو النظام أو التعليمات يؤثر في الحكم الذي ستصدره المحكمة يوجب على المحكمة اتخاذ قرارا ، باستئخار الدعوى حتى تبت المحكمة الاتحادية العليا في الطلب تطبيقا للقواعد العامة 16
الحالة الثانية
نصت المادة ( 4 ) من النظام الداخلي ما يلي :
( إذا طلبت إحدى المحاكم الفصل في شرعية نص في قانون أو قرار تشريعي أو نظام أو تعليمات أو أمر بناء على دفع أحد الخصوم بعدم الشرعية فيكلف الخصم بتقييم هذا الدفع بدعوى و بعد استيفاء الرسم عنها تبت في قبول الدعوى و إذا قبلتها ترسلها مع المستندات الى المحكمة الاتحادية العليا للبت في الدفع بعدم الشرعية و تتخذ قرارا باستئخار الدعوى الأصلية للنتيجة أما إذا رفضت الدفع فيكون قرارها بالرفض قابلا للطعن أمام المحكمة الاتحادية العليا )
منحت المادة ( 4 ) أعلاه الحق لأحد الخصوم في دعوى معروضة على أحدى المحاكم مدنية أو جزائية ان يدفع بعدم شرعية نص في قانون أو قرار تشريعي أو نظام أو تعليمات أثناء نظر الدعوى فتكلف المحكمة التي تنظر الدعوى الخصم الذي تقدم بالدفع بعدم دستورية النص ان يقوم دفعه هذا بدعوى و لكن النص سكت عن المدة التي يجب على الخصم ان يدفع الدعوى خلالها ، لأن تحديد المدة يعطي رؤية المحكمة للتحقق من أن رغبة الطاعن أمامها جدية ، و ليس مجرد اكتساب الوقت ،.
و بعد تقديم الدعوى واستيفاء الرسم القانوني عنها وفق قانون الرسوم العدلية تبت محكمة الموضوع في قبول الدعوى أو رفضها .
فإذا قبلت المحكمة الدعوى ترسلها الى المحكمة الاتحادية العليا مع المستندات للبت في الدفع بعدم الشرعية وتتخذ قرارا باستئخار الدعوى الأصلية المنظورة من قبلها .
الفرع الثاني
الدفع بطريقة الدعوى المباشرة ( دعوى الإلغاء )
نصت المادتين ( 5 ، 6 ) من النظام الداخلي الرقابة على عدم دستورية القوانين بطريقة الدعوى المباشرة أو ما تسمى بدعوى الإلغاء .
الحالة الأولى
المادة ( 5 ) من النظام الداخلي نصت :
" إذا طلبت إحدى الجهات الرسمية بمناسبة منازعة قائمة بينها و بين جهة أخرى الفصل في شرعية نص في قانون أو قرار تشريعي أو نظام أو تعليمات أو أمر فترسل الطلب بدعوى الى المحكمة الاتحادية العليا معللا مع أسانيده و ذلك بكتاب موقع من الوزير إذا كانت الجهة الرسمية وزارة أو رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة إذا لم تكن من الوزارات ، وهذه الدعوى تسمى الدعوى الإلغاء أو الدعوى المباشرة ".
الحالة الثانية
منحت المادة ( 6 ) من النظام الداخلي رقم 1 لسنة 2005
" الحق للأشخاص الطبيعيين و المعنويين طلب الفصل في شرعية نص في القانون أو قرار تشريعي في نظام أو تعليمات أو أمر فيقدم وفق شروط حددها النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا ".
الفرع الثالث
النظر في الطعون المقدمة على
الأحكام و القرارات الصادرة من القضاء الإداري
الى جانب اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا المتعلقة بالرقابة على دستورية القوانين و الفصل بين النزاعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية و حكومات الأقاليم و المحافظات و الإدارات المحلية فأن لها اختصاص أخر يتعلق بالرقابة على القضاء الإداري ، و بهذا فأن اختصاصها الرقابي مزدوجا بين الرقابة على دستورية القوانين و مجالها القانون الدستوري.
والرقابة على قرارات القضاء الإداري و مجالها القانون الإداري
لأن القرارات التي تصدرها الإدارة هي قرارات تتعلق بالسلطة التنفيذية و تمس الوظيفة الإدارية و على أي حال فالقرارات الإدارية التي يتظلم منها و تقام الدعاوى يصددها أمام محكمة القضاء الإداري فأن القرارات التي تصدرها محكمة القضاء الإداري تخضع لرقابة المحكمة الاتحادية العليا عن طريق الطعن أمامها تمييزا.
و الجدير بالذكر ان قبل صدور قانون المحكمة الاتحادية رقم 30 لسنة 2005
كان الطعن في قرارات محكمة القضاء الإداري ينظر من قبل هيئة تمييزية في مجلس شورى الدولة .
المطلب الثاني
آثار قرارات و أحكام المحكمة الاتحادية العليا
أشارت المادة ( 43- أ ) من قانون ادارة الدولة العراقية لسنة 2004
( القضاء مستقلٌّ، ولا يدار بأيّ شكلٍ من الأشكال من السلطة التنفيذية و بضمنها وزارة العدل، ويتمتّع القضاء بالصلاحية التامّة حصراً لتقرير براءة المتهم أو إدانته وفقاً للقانون من دون تدخّل السلطتين التشريعية أو التنفيذية )
في حين أكدت المادة ( 94 ) من الدستور الدائم 2005 بنصها ما يلي :
( قرارات المحكمة الاتحادية العليا بات و ملزمة للسلطات كافة )
فيما أقرت المادة ( 1 ) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 ما يلي
( تنشأ محكمة تسمى المحكمة الاتحادية العليا ويكون مقرها بغداد تمارس مهامها بشكل مستقل لا سلطان عليها لغير القانون )
فيما أكدت المادة ( 17 ) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم 1 لسنة 2005 ما يلي :
( الأحكام و القرارات التي تصدرها المحكمة باتة لا تقبل أي طريق من طرق الطعن ) .
من هذه المواد القانونية أعلاه تتأكد لدينا ان الأحكام والقرارات التي تصدرها المحكمة الاتحادية العليا تحوز بالحجية المطلقة أمام السلطات كافة وليس هناك أي سبيل من سبل الطعن في أحكامها وقراراتها.
فالأحكام و القرارات التي تصدرها المحكمة الاتحادية العليا بصفة أصلية سواء للبت في الطلبات أو الدعاوى فأنها بات لا تقبل أي طريق من طرق الطعن وهي ملزمة للسلطات كافة.
النتائج
1. استنتجنا من خلال هذه الورقة البحثية ان رقابة القضاء على السلطة التشريعية في دساتير العراق قد بدأت من الوضع الدستوري في الدولة العثمانية الذي كان العراق جزءاً وولاية تابعة لتلك الدولة المترامية الأطراف، من خلال الحركة المشروطية عام 1876م.
2. ووجدنا بعد إنشاء الدولة العراقية الملكية عام 1921م، قد تم تبني النظام الأساسي العراقي عام 1925 كأول دستور مكتوب ودائم للعراق والذي تبنى بوضوح مبدأ الرقابة على دستورية القوانين من خلال المواد ( 81 – 86 ) منه وكذلك الدساتير العراقية المؤقتة في عهد الجمهورية الأولى عام 1958 وحتى سقوط النظام السياسي عام 2003 .
3. ومن خلال بحثنا بشيء من التفصيل عن رقابة القضاء على السلطة التشريعية من خلال قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لعام 2004 والدستور الدائم للعراق لعام 2005 واللذان قد أشارا بوضوح تبني مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين، من خلال إنشاء محكمة خاصة بذلك باسم ( المحكمة الاتحادية العليا ) في العراق حيث تبنى العراق نظاماً سياسياً اتحاديا برلمانياً لنظام الحكم في العراق بعد سقوط النظام السياسي السابق في العراق .
4. وجدنا ان نشأة المحكمة الاتحادية العليا ( المتخصصة بالرقابة على دستورية القوانين في العراق ) في ظل قانون ادارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية والإطار التشريعي للمحكمة حقد جاءت من خلال تشريع قانون رقم ( 30 لسنة 2005 ) بإنشاء المحكمة الاتحادية العليا .
5. بحثنا أهم اختصاصات المحكمة حيث أشار اليها القانون، وقد اضاف الدستور الدائم لسنة 2005 اختصاصات واسعة الى المحكمة الاتحادية العليا في العراق .
6. وجدنا كذلك الاطار التشريعي للمحكمة وفقا لقانون المحكمة والنظام الداخلي الذي يشير الى كيفية تكوين المحكمة وانتخاب أعضاءها وحصانتهم واستقلالية المحكمة.
7. وجدنا من خلال دراستنا ان هناك وسائل تحريك الدعاوى أمام المحكمة في المنازعات التي تقدم أمام المحكمة، الى جانب كيفية انعقاد جلسات المحكمة والتصويت على قرارات المحكمة .
8. ووجدنا من خلال البحث الآثار القانونية لأحكام المحكمة الاتحادية العليا أمام السلطات كافة والتي تعتبر بات ولا يسنح أي سبيل من سبل الطعن فيها .
اضف تعليق