بحر الصين الجنوبي من البحار المهمة في حركة السفن التجارية والناقلات النفطية، إضافة إلى موارده في مجال الطاقة ومصائد الأسماك التي ستتيح لمن يتحكم فيه القدرة على أن يكون عنصراً مؤثراً في رسم المشهد المستقبلي للنظام الدولي، ستترتب على ذلك كله انعكاسات مهمة على المستوى السياسي والاقتصادي العالمي...

تمتلك البحار المنتشرة حول العالم، والمضايق والقنوات البحرية أهمية كبيرة على المستوى الدولي، لكن هناك بعض البحار تتميز بميزة خاصة وفريدة، مما يجعلها ذات أهمية قصوى لدى القوى الدولية والإقليمية، ومن أهم تلك البحار هو بحر الصين الجنوبي، الذي يمتلك أهمية كبيرة لدى الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية، مما جعل هذا البحر يحتل اهمية جوستراتيجية في مدرك صانعي السياسية الأمريكية والصينية على حدٍ سواء. لكن قبل الولوج في الأهمية الاستراتيجية لهذا البحر ينبغي فهم طبيعة التنافس بين الولايات المتحدة والصين كمدخل لفهم الأهمية الاستراتيجية لبحر الصين الجنوبي لكلا الطرفين.

طبيعة التنافس بين الولايات المتحدة والصين

منذُّ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 تربعت الولايات المتحدة الأمريكية على هرمية النظام الدولي، وأعطت الشرعية لنفسها للتحكم بمجريات الأحداث الدولية، بل زعمت أن إدارتها كقطب أوحد للعالم سيلقي بالمنفعة على الجميع؛ مستخدمة في ذلك أساليب القوة الناعمة، وفي مقدمتها حماية حقوق الانسان ونشر الحكم الديمقراطي في انحاء العالم كافة، لكن بعد احداث 11 ايلول 2001 بدأ يظهر الوجه الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية، حتى أدركت الدول كافة بأن الولايات المتحدة لا تدخر جهدا ولا وسيلة لتحقيق مصالحها فقط من دون ايلاء أي اعتبار للمبادئ الانسانية التي تروج لها.

إن السياسيات المزدوجة هذه قد حققت للولايات المتحدة الأمريكية المزيد من التوسع على حساب الدول الأخرى، حتى اصبحت مصالحها تنتشر من المشرق إلى المغرب، لذا بسطت الولايات المتحدة سطوتها على معظم دول العالم، والمتبقي من الدول كانت تقاوم تلك السطوة في اطار امكانيات كلا منها. ومع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وما شهده العقد الأول من القرن نفسه من أحداث مهمة، بدأت ملامح نظام دولي جديد يلوح في الأفق، هذا النظام بدأ يرسم ملامحه مع صعود الصين كقوى تنافس الولايات المتحدة على عرشها، فضلا عن أحلام روسيا الاتحادية بالعودة إلى امجاد الماضي (1).

عملت جمهورية الصين الشعبية على نفسها بشكل جيد مع مطلع القرن الحادي والعشرين، واتخذت من الاقتصاد منهجا للتقدم ومنافسة الدول الكبرى، وبالرغم من ذلك لم يكن النمو الاقتصادي للصين يشكل هاجسا كبيرا لصانع السياسية الخارجية الأمريكية إلا بعد عام 2013؛ إذ أطلقت الصين مشروعها الاقتصادي والتجاري العالمي المسماة (مبادرة الحزام والطريق)، والذي تهدف الصين عبره إلى تأسيس شبكة تجارية دولية بممرين اثنين: الأول-بحري، والثاني- بري، وربطهما بتجارة الصين الدولية(2).

هنا تحتم على الولايات المتحدة الامريكية أن تكشف مخاوفها من صعود الصين الاقتصادي، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية تدرك جيدا أن هذا الصعود سوف يرافقه تنازع على مناطق النفوذ البحرية والبرية على حدٍ سواء، وبالرغم من تصريح الحكومة الصينية مرارا وتكرار بأن نموها الاقتصادي ومبادرتها التجارية تهدف إلى تنمية شركاء الصين اقتصادية فقط، بعيدا عن التطور العسكري، إلا ان الولايات المتحدة وضعت الصين موضع العدو الأول والمنافسة على عرش النظام الدولي الجديد (3).

لا يعني ذلك بأي شكل من الاشكال ان الصين اقتصر نموها على الجانب الاقتصادي فقط، بل يدرك صانع السياسية الصيني جيدا أن الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية خاصة، سوف لن تسمح بصعود الصين كدول منافسة على النظام الدولي، لذا عملت الصين بالتزامن مع نموها الاقتصادي والتجاري على تنمية ترسانتها العسكرية، وذلك يظهر بشكل جلي عبر تخصيص نحو (10%) سنويا من ميزانيتها المالية للشؤون العسكرية فقط (4).

وبالفعل عملت الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين على كبح جماح نمو الصين، لذا بدأ التنافس يحتدم بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على المناطق الهشة من جهة، ومن جهة اخرى عمل الطرفين على تأسيس شبكة من التحالفات في مناطق النفوذ الإقليمية كنوع من توازن القوى بين الطرفين، لذا أخذ التنافس بين الولايات المتحدة والصين صيغة التنافس الجيوبولتيكي، إذ وسع الطرفين من تنافسهما على المناطق الجغرافية البرية والبحرية خلال العقد الاخير، بخلاف ذلك تمتلك الولايات المتحدة والصين علاقات تعاونية في الكثير من المجالات، أهمها المجال الاقتصادي، ومحاربة الارهاب، وتعزيز الأمن في المناطق الساخنة(5).

وتبعا لذلك يمكن القول ان طبيعة التنافس بين الولايات المتحدة والصين، ليس تنافس اقتصادي بحت أو تنافس على الموارد، بقدر ما هو تنافس على تقاسم المواقع الجوستراتيجية ومن ضمنها البحار والمضايق البحرية الدولية.

أهمية بحر الصين الجنوبي في المدرك الامريكي-الصيني

يقع بحر الصين الجنوبي غرب المحيط الهادئ، الذي يربطه بالمحيط الهندي عبر قناة (باشي) وبحر (سولو)، وهو أكبر بحر في العالم بمساحة تبلغ نحو (3.5) مليون كلم2، وقد اكتسب هذا البحر أهمية استراتيجية بعد نمو التجارة العالمية، حيث يمر عبره ثلث الشحنات البحرية العالمية، وزادت هذه الأهمية بعد اكتشاف النفط والغاز الطبيعي فيه؛ ووفقاً لتوقعات إدارة معلومات الطاقة الأميركية، فإن منطقة بحر الصين الجنوبي تحتوي على ما لا يقل عن (11) مليار برميل من النفط، و نحو (19) تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي؛ وتشير تقديرات مرتفعة أخرى إلى نحو (22) مليار برميل من النفط، ونحو (290) تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى غناه بمصائد الأسماك، وهو ما جعل الدول المطلة عليه تتنافس للاستيلاء على الجزر المتناثرة فيه، والتي تعد بالمئات، وأشهرها براسيل وسبراتلي وعدد من الصخور والكثبان الرملية والشعاب المرجانية، ومعظمها غير مأهولة بالسكان؛ ويتشكل بعضها من عدد قليل من الصخور(6).

تطل على بحر الصين الجنوبي مجموعة من الدول الشاطئية، هما: فيتنام، وتايلند، والفلبين، وماليزيا، وبروناي، وأندونيسيا، فضلا عن تايوان(7)، (ينظر خارطة 1)، إذ تتنافس هذه الدول على الجزر المتناثرة على بحر الصين الجنوبي، حيث تتنافس كل من الصين وتايوان وفيتنام على السيادة على جزر باراسيل الواقعة في القسم الشمالي من بحر الصين الجنوبي والتي تسيطر عليها الصين منذ العام 1974، بينما تطالب الصين وتايوان وفيتنام على ما يقارب (200) جزيرة في سبراتلي الواقعة في القسم الجنوبي من بحر الصين الجنوبي، كما تطالب كلا من بروني وماليزيا والفلبين ببعض من هذه الجزر، وتسيطر فيتنام على عدد كبير من الجزر في الجزء الشرقي من البحر، كما تطالب كل من الصين وتايوان والفلبين بـ سكاربورغ شول، والتي سيطرت عليها الصين منذ العام 2012، وتتداخل المناطق التي تطالب بها الصين مع المناطق الاقتصادية الخاصة التي تبلغ مساحتها (200) ميل بحري والتي تمتلكها خمس دول في جنوب شرق آسيا، هما: بروناي، وإندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وفيتنام إضافة الى تايوان، كما تعارض إندونيسيا موقف الصين وتؤكد على حقوقها البحرية القريبة من سواحلها(8). وبالرغم من اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بقانون البحار وتقسيم المناطق الاقتصادية بين الدول المتشاطئة، إلا ان حل النزاعات في منطقة بحر الصين الجنوبي تواجه صعوبات كثيرة، اهمها حق النقض الممنوح للصين والولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن الدولي(9).

خارطة (1) الموقع الجغرافي لبحر الصين الجنوبي

 

المصدر: عبد العباس فضيخ، ونور حسين الرشيدي، بحر الصين الجنوبي في الاستراتيجية الصينية، المجلة العربية للدراسات الجغرافية، عدد (14)، سنة 2022، ص159

 

تدرك الولايات المتحدة الامريكية جيداً أهمية حركة الملاحة في بحر الصين الجنوبي ومضيق ملقا وموقعهما الاستراتيجي، لذا استغلت الخلافات القائمة بين الصين والدول المحيطة ببحر الصين الجنوبي لتضيف الشرعية الدولية لتدخلاتها في المنطقة، وايجاد لها موطئ قدم في تقسيمات بحر الصين الجنوبي(10). بالمقابل لم يكن صانع السياسية في الصين غافلا عن تحركات الولايات المتحدة واهدافها، لذا عملت الصين على إحكام قبضتها على الملاحة في بحر الصين الجنوبي، وذلك بإقامة قواعد بحرية استراتيجية في جزيرة (هاينان) متضادة للتواجد العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة والذي يحظى بموافقة دول آسيوية عدة باتت تخشى من تصاعد المد الصيني، لا سيما بعد إقدام الصين على منع إقامة أي مناورات عسكرية في بحر الصين الجنوبي والبحر الأصفر، وأجبرت الصين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية في حزيران من العام 2010، على نقل مناوراتهما المشتركة إلى بحر اليابان مصدرة تحذيراً رسمياً ضد أي أنشطة عسكرية فيها، والتي تتخطى المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها من دون أذن مسبق(11).

إن هذا التهافت للسيطرة على بحر الصين الجنوبي من قبل كل من الصين وأمريكا، التي تعتبر نفسها راعية لمصالح الدول المطلة على بحر الصين يوضح بشكل جلي أهمية هذا الموقع للولايات المتحدة الأمريكية، حيث يدرك صانع القرار الامريكي أن تحقيق أية سيطرة صينية تامة على هذا البحر سيكون سبباً في دفع الصين إلى المزيد من التطور والنفوذ عالمياً، وبذلك تكون قوة اقتصادية هامة سرعان ما ستتحول إلى قوة عسكرية، وهنا سيكمن خطرها، لذلك لن نرى في هذه الجبهة هدوءً، فالأمور ستتجه نحو التصعيد، والولايات المتحدة ستكون أمام خيارين اثنين إما أن تدافع عن حلفائها الاقليميين أو فقدان مكانتها الاقليمية، وهو أمر مستبعد اذ سيقاتل كل طرف من أجل مصالحه. وكما قال وزير الخارجية الأمريكي الاسبق (مايك بومبيو) "إن العالم لن يسمح لبكين بالتعامل مع بحر الصين الجنوبي كإمبراطوريتها البحرية". كما أن الولايات المتحدة لا تريد أن تفقد سيطرتها على البحار وذلك لتضمن حرية الحركة للبضائع الأمريكية وهذا البحر مهم جداً كموقع استراتيجي(12).

ونظراً لأهمية بحر الصين الجنوبي في التجارة العالمية والتي تدركها الصين جيدا، خاصة بعد اطلاقها مبادرة الحزام والطرق التجارية، نجد أن هناك من يرى اليوم أن هذا البحر يمثل قلب العالم ولكنه هذه المرة بمنزلة قلب العالم البحري الذي تدور حوله تفاعلات كثيرة بهدف السيطرة عليه من قبل القوى الكبرى، لذا تشير فكرة إلى: (إن من يسيطر على قلب العالم البحري(13) الصين الجنوبي، فإنه سيسيطر بالتأكيد على المحيطين الهادئ والهندي، ومن يتحكم في الأخيرة يحد من توسع القوى الأخرى في الأقاليم المناهضة، وبالتالي يسيطر على مفاتيح التجارة العالمية بأكملها، في ظل حتمية الصراع الدولي الجيو-اقتصادي)، وتأتي جدوى هذه الرؤية من خلال الحقائق الجغرافية التي تشير إلى ان أي دولة ستهيمن على بحر الصين الجنوبي ستكون قادرة على استخدام مياهه وسمائه لتعزيز قوتها البحرية والجوية في نفس الوقت، وهو ما سيمكنها بشكل كبير من زحزحة أعدائها نحو حافات المحيط الهادئ، أو تحقيق إمكانية وصول سهلة الى مصالح القوى المعادية لها.

 يضاف الى ذلك تحكم الدولة التي ستسيطر على بحر الصين الجنوبي بممرات الملاحة المهمة التي تربط بين المحيطين (الهندي والهادئ)، إذ يعد بحر الصين الجنوبي من البحار المهمة في حركة السفن التجارية والناقلات النفطية، إضافة إلى موارده في مجال الطاقة ومصائد الأسماك التي ستتيح لمن يتحكم فيه القدرة على أن يكون عنصراً مؤثراً في رسم المشهد المستقبلي للنظام الدولي، واخيرا ستترتب على ذلك كله انعكاسات مهمة على المستوى السياسي والاقتصادي العالمي، ناهيك عن الكثافة السكانية التي تمتاز بها الكتلة المطلة على هذا المسطح المائي، وهي ميزات تهيئ هذا القلب من القيام بدور محوري في النظام الدولي الجديد(14).

* باحثة سياسية جامعة النهرين/كلية العلوم السياسية

.............................................

(1) للمزيد ينظر: عبد علي كاظم المعموري، المواجهة في قلب الارض، بيروت: دار روافد، 2017.

(2) عدنان خلف حميد البدراني، تحديات مبادرة الحزام والطريق: دراسة حالة الصين والدول المشاركة، مجلة المعهد، عدد (8)، سنة 2022، ص106.

(3) حكمات العبد الرحمن، الصعود السلمي للصين، مجلة سياسات عربية، عدد (14)، سنة 2015، ص 66.

(4) المصدر نفسه، ص67.

(5) للمزيد ينظر: محمد علي عباس، التنافس الامريكي –الصيني في بحر الصين الجنوبي (دراسة في الطبيعة والابعاد والمغذيات)، مجلة الدراسات المستدامة، المجلد (5)، عدد (1)، سنة 2023.

(6) علي قاسم مقداد، تداعيات الصعود الصيني على النزاع في بحر الصين الجنوبي، مجلة المستقبل العربي، عدد (525)، سنة2022، ص12.

(7) عبد العباس فضيخ، ونور حسين الرشيدي، بحر الصين الجنوبي في الاستراتيجية الصينية، المجلة العربية للدراسات الجغرافية، عدد (14)، سنة 2022، ص157.

(8) نور حسين فيضي الرشيدي، الاستراتيجية الصينية في المحيط الهادئ، رسالة ماجستير،(غير منشورة)، جامعة كربلاء، كلية التربية للعلوم الانسانية، سنة2022، ص251.

(9) نور حسين فيضي الرشيدي، الاستراتيجية الصينية في المحيط الهادئ، رسالة ماجستير،(غير منشورة)، جامعة كربلاء، كلية التربية للعلوم الانسانية، سنة 2022، ص258.

(10) Ask Hugo, Territorial Disputes in the South China Sea, Peace Palace Library website. Look at the link: https://peacepalacelibrary.nl/research-guide/south-china-sea-territorial-disputes

(11) مها عباس بيات، التحديات الاقتصادية والسياسية في العلاقات الامريكية-الصينية للمدة (2008 - 2018)،رسالة ماجستير، (غير منشورة)، جامعة النهرين، كلية العلوم السياسية، سنة 2019، ص89.

(12) نقلا عن: شيرين فرات، امريكا والصين ملفات ساخنة وحرب باردة، سلسلة اصدارات مركز الفرات للدراسات، سنة 2020, ص6.

(13) كمال سمين ابراهيم، الاستراتيجية الصينية في بحر الصين الجنوبي، العراق: دار أيام للنشر والتوزيع، سنة 2023،ص69.

(14) المصدر نفسه، ص70.

اضف تعليق