q
هناك، في أعماق القارة القطبية الجنوبية القارسة، تتراكم طبقات الثلوج الزغبية، وتندمج مكوِّنةً ألواحًا من الجليد يعود عمرها إلى آلاف السنين، ولطالما توافد علماء المناخ القديم إلى تلك القارة النائية للتنقيب بعمق عدة كيلومترات، وتمكنوا من استخراج أسطوانات من ذلك الجليد -تشبه الحلقات الرأسية للأشجار- يمتد عمرها إلى مئات آلاف السنين...
بقلم: كريستيان إليوت

الباحثون في سباق عالمي للتنقيب عن أقدم طبقات جليد القطب الجنوبي بهدف التعرف على مناخ الأرض الدافئ في العصور القديمة وكشف ما ينتظرها من ارتفاع في درجات الحرارة، هناك، في أعماق القارة القطبية الجنوبية القارسة، تتراكم طبقات الثلوج الزغبية، وتندمج مكوِّنةً ألواحًا من الجليد يعود عمرها إلى آلاف السنين، ولطالما توافد علماء المناخ القديم إلى تلك القارة النائية للتنقيب بعمق عدة كيلومترات، وتمكنوا من استخراج أسطوانات من ذلك الجليد -تشبه الحلقات الرأسية للأشجار- يمتد عمرها إلى مئات آلاف السنين من تاريخ كوكب الأرض، وقد ساعدت فقاعات الهواء العتيقة الحبيسة في عينات الجليد اللُّبّية المستخرجة على كشف الدور الذي أدته مستويات ثاني أكسيد الكربون داخل الغلاف الجوي في تغيير درجات حرارة سطح الأرض خلال العصور الماضية، تُمثّل هذه الاكتشافات أقرب ما يمكن للعلماء تحقيقه من حلم السفر عبر الزمن.

وفي الوقت الراهن، تخوض فِرَق علماء المناخ القديم من كلٍّ من أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة ما يسمونه "سباقًا وديًّا" للعثور على أقدم جليد على وجه الأرض لكي يستعينوا بالهواء الحبيس داخله في قياس مستويات غازات الدفيئة خلال ملايين السنين الماضية، ويسعى الباحثون تحديدًا إلى العثور على جليد يعود إلى نحو ثلاثة ملايين سنة ماضية، حين كانت درجات الحرارة أعلى من درجات الحرارة السائدة الآن بحوالي درجتين إلى ثلاث درجات مئوية، وكان مستوى سطح البحر أعلى مما هو عليه اليوم بحوالي 20 مترًا، ومن المتوقع أن يساعد هذا الاكتشاف العلماء على التنبؤ بمقدار ارتفاع درجات الحرارة في المستقبل.

تقول سارة شاكلتون، أحد أعضاء الفريق الأمريكي، وباحثة ما بعد الدكتوراة في علم المناخ القديم بجامعة برينستون الأمريكية: "نسعى في المقام الأول لتصوّر معدلات احترار العالم في المستقبل، في ظل استمرار ضخ ثاني أكسيد الكربون داخل غلافنا الجوي"، في هذا الصدد، يستخدم المشروع الأمريكي -المسمى «مركز استكشاف أقدم طبقات الجليد» (ويُعرف اختصارًا باسم «كولدكس» COLDEX)- منهجيةً جديدةً وفريدةً للعثور على الجليد القديم، إذ يعكف أفراد الفريق حاليًّا على تطوير تقنيات جديدة تمكّنهم من وضع طبقات الجليد المتداخل التي يعثرون عليها في ترتيب زمني، على أمل التوصل في النهاية إلى خط زمني يوضح أوضاع الغلاف الجوي والمناخ بدءًا من زمن تكوّن أقدم طبقات الجليد التي يمكنهم العثور عليها ووصولًا إلى يومنا هذا.

تُعْرف معظم عينات الجليد اللُّبّية التي استُخرِجت حتى الآن بأنها عينات لُبّية متسلسلة، أي أن طبقاتها مرتّبة زمنيًّا بدقة، إلا أن أقدم عينة جليد لُبّية متسلسلة أمكن استخراجها على الإطلاق -والتي تم استخراجها في عام 2004- لا يعود عمرها سوى إلى 800,000 سنة، ورغم احتمالات وجود جليد في طبقات الأرض الأكثر عمقًا، فإن العثور عليه أمرٌ عسير، يقول إد بروك، عالِم المناخ القديم بجامعة أوريجون ستيت الأمريكية، ومدير مركز «كولدكس»: "يُدفن الجليد المترسب على سطح القارة القطبية الجنوبية في أعماق الأرض باستمرار، وينجرف تدريجيًّا نحو تخوم [القارة]، ثم يُفقد في النهاية، إذ يذوب في مياه المحيط أو ينفصل عنها في شكل جبال جليدية داخل المحيط، لذلك يندر العثور على أقدم أشكال الجليد".

ولكن العلماء ابتكروا في السنوات الأخيرة طُرُقًا للوصول إلى هذا الجليد القديم، إذ استخرجوا طبقات منفردة ومتناثرة من الجليد الأقدم، كانت محصورةً داخل طبقات أحدث وأقرب إلى السطح، وذلك في بعض المناطق الواقعة بالقرب من تخوم القارة القطبية الجنوبية، حيث تدفع الحواف الصخرية الصفيحةَ الجليدية إلى أعلى باتجاه السطح في أثناء انجرافها نحو الساحل، وقد أرسل مركز «كولدكس» فريقًا بقيادة جون هيجينز -عالِم المناخ القديم بجامعة برينستون- إلى إحدى هذه المناطق التي تسمى «تلال ألان»Allan Hills الواقعة بالقرب من الساحل الشرقي للقارة القطبية الجنوبية، حيث مكث أعضاء الفريق هناك بين شهري نوفمبر ويناير الماضيين، في هذه المنطقة، تجلو الرياح المتلاحقة طبقات الجليد العلوية عند تحرُّكها إلى أعلى، ما يعني أن الطبقات الأقدم تصبح أقرب إلى السطح -أي على عمق عشرات إلى مئات الأمتار، وليس آلاف الأمتار- وبالتالي يسهل الوصول إليها، ولكن رغم أن هذه الحواف الصخرية تؤدي وظيفةً مهمةً في دفع الجليد نحو السطح، فإنها في الوقت ذاته تعمل وكأنها خلاط جيولوجي ضخم، يجرش طبقات الجليد ويحولها إلى خبيصة مفككة، يقول كريستو بايزرت، عالِم المناخ القديم بجامعة أوريجون ستيت، الذي يقود فريق تحليل الجليد في مركز «كولدكس»: "يشبه هذا الوضع علبةً مليئةً بقطع لغز مصورة؛ ففي حالة عينة الجليد اللُّبّية التقليدية [المتسلسلة]، نجد جميع قطع اللغز في مكانها الصحيح تمامًا"، مضيفًا أنه في حالة العينات اللُّبّية المستخرجة من منطقة تقع عند تخوم القارة، "يبدو الأمر وكأن أحدهم أخذ أجزاء اللغز وبدل ترتيبها جميعًا".

وحتى يتمكن الفريق من تحديد عمر الجليد في الطبقات المتداخلة ومن ثم ترتيبها، فسوف يُجري تحليلًا معمّقًا لكل طبقة من طبقات الجليد بحثًا عن أي إشارات، وذلك بالاستعانة بالتطورات الحديثة التي طرأت على أساليب البحث، مثل أسلوب التأريخ بنظائر الأرجون؛ فنظرًا إلى أن عنصر البوتاسيوم يتحلل بشكل طبيعي إلى عنصر الأرجون بمعدل ثابت مع مرور الزمن، فإن مستويات الأرجون في الجليد يمكن أن تعيننا على تأريخ عمر الجليد بدقة، إضافةً إلى ذلك، تستطيع الآلات التقاط صور لطبقات الجليد بموجات ضوئية متعددة الطول لرصد الطيات وغيرها من التقطعات الأخرى في العينات اللُّبّية، ما سوف يساعد العلماء على تحديد الصلة بين الطبقات، ومن ثم ترتيبها، يقول بايزرت: "إن التعامل مع الجليد المتداخل يمثل تحديًا جديدًا تمامًا أمامنا"، مضيفًا: "طالما حاولنا تجنُّب الجليد المتداخل قدر استطاعتنا؛ لأن التعامل معه أصعب كثيرًا، لكن ربما كانت هذه الحالة المتداخلة هي الوضع الأوحد القادر على الاحتفاظ بالجليد الأقدم، لذا لن يكون أمامنا خيارٌ آخر سوى تعلُّم فك هذه الشفرة لكي نعيد تجميع قطع اللغز في صورتها المتسلسلة".

كذلك، يعتزم علماء مركز «كولدكس» استخراج عينة لُبّية متسلسلة تقليدية عمرها 1.5 مليون سنة من مناطق القارة الداخلية الواقعة بالقرب من القطب الجنوبي، وهو العمر ذاته الذي تستهدفه جهود التنقيب الأوروبية والأسترالية، وسوف يضيف فريق «كولدكس» بعد ذلك طبقات «تلال ألان»، المخزّنة وفق التسلسل الزمني، إلى هذه العينة، واضعًا بذلك سجلًّا تاريخيًّا يمتد إلى إجمالي ثلاثة ملايين سنة مضت.

علاوة على ذلك، قد يعثر فريق مركز «كولدكس» بالقرب من قاع الصفيحة الجليدية المجاورة للقطب الجنوبي على جليد يعود إلى فترات أقدم كثيرًا، لكن من المحتمل أن يكون هذا الجليد قد انجرش وانفصل بعضه عن بعض في أثناء انجرافه فوق القشرة الصخرية الواقعة تحته، أو ذاب بفعل الحرارة المنبعثة من جوف الأرض، على غرار الجليد الموجود عند تخوم القارة، ما قد يجعله متعذرًا على التحليل مثلما هو الحال مع جليد «تلال ألان»، ولذلك، فقد شرع الفريق في مهمة مدتها خمس سنوات بحثًا عن أقدم عينة متسلسلة يمكن العثور عليها بالقرب من القطب الجنوبي، باستخدام تقنية الرادار المحمول جوًّا الذي يمكن لموجاته اختراق الجليد، ومن ثم تحديد المناطق التي تشهد معدلاتٍ مرتفعةً لتساقط الثلوج وتقع فوق جزء بارد نسبيًّا من قشرة الأرض.

وفور حصول الفريق على أي مزيج متداخل من طبقات الجليد الأقدم وتأريخها، سوف يستخدم أفراده أسلوبًا جديدًا لتطوير عملية تحليل الغازات في فقاعات الهواء الحبيسة داخل الجليد، فقد كان الباحثون في السابق يأخذون شرائح من كل بضعة أمتار من العينة اللُّبّية ويذيبونها، ثم يقيسون كمية ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى المنبعثة، ما كان يتيح لهم تقدير مستويات الغاز في الطبقات الواقعة بين هذه الشرائح، وقد كان العلماء في ذلك يقتصرون على تحليل العينات اللُّبّية المتسلسلة، التي تكون طبقاتها مرتَّبةً وفق تسلسل زمني، إلا أن هذه المنهجية لن تفلح مع العينات اللُّبّية ذات الطبقات غير المرتبة زمنيًّا؛ إذ سيكون على العلماء فحص عينات من كل طبقة من طبقات الجليد المتداخل للحصول على قياسات دقيقة للغاز في كلٍّ منها، ولكن باستخدام الطريقة الجديدة، يمكنهم إذابة شريط دقيق يغطي طول العينة اللُّبّية بالكامل ثم تحليل الغازات التي يحتوي عليها، ما سيعطيهم قياسًا دقيقًا لكل طبقة يمكنهم من خلاله تحديد عمر هذه الطبقة.

يقول بايزرت: "لقد كنّا لسنوات طويلة نحلم بهذا الإنجاز؛ لأنه كان واضحًا في أوساط الباحثين الذين يدرسون عينات الجليد اللُّبّية أن الأولوية الكبرى هي توسيع سجل العينات اللُّبّية ليمتد إلى أبعد زمن يمكننا الوصول إليه في الماضي"، أما وقد أصبح علماء مركز «كولدكس» في خضم تحقيق هذا الحلم، فإنهم يضعون نصب أعينهم "الدافع" وراء كل هذا الجهد الشاق، ألا وهو تحقيق فهم أعمق لظاهرة الارتفاع المتلاحق في درجات الحرارة التي يشهدها عالمنا، تقول شاكلتون: "أعتقد أنه سيكون عنوانًا صحفيًّا جذابًا أن نقول: ’ها نحن قد وجدنا أقدم جليد على وجه الأرض‘، لكن هناك سببًا وجيهًا يكمن خلف اهتمامنا بهذه العصور الماضية"، مضيفةً: "هذا السبب هو أن تلك العصور كانت أكثر دفئًا".

* هذه المقالة مدعومة بمنحة مقدمة من «مركز بوليتزر».

اضف تعليق