q
جوهر تصريح ماكرون، أنه لا يجب على أوروبا أن تتبع الموقف الأميركي في ملف تايوان، استعادة الدور الفرنسي السابق إبّان حقبة الرئيس الأسبق شارل ديغول، من أجل انتهاج سياسة مستقلة عن مصالح واشنطن، ومن دون الخروج رسمياً من حلف شمال الأطلسي. ودعوة أوربا إلى تقليل اعتمادها على الدولار...
د. منذر سليمان و جعفر الجعفري

بينما كانت واشنطن لا تزال تحتفي بانضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، تلقت ما يشبه الصدمة من عضو أساسي في الحلف، إذ أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون بعد زيارته الصين تمرّد فرنسا على إنصياع الدول الأوروبية المعتاد لأوامر واشنطن.

ويبدو أن موقفه لن يكون منفرداً في ظل اجواء التململ و الحنق التي تسود المسرح الأوروبي من سطوة واشنطن ومواقفها التي تنعكس سلباً على الإقتصاد الأوروبي .

جوهر تصريح ماكرون، وخصوصاً أنه لا يجب على أوروبا أن تتبع الموقف الأميركي في ملف تايوان، هو استعادة الدور الفرنسي السابق إبّان حقبة الرئيس الأسبق شارل ديغول، من أجل انتهاج سياسة "مستقلة" عن مصالح واشنطن، ومن دون الخروج رسمياً من حلف شمال الأطلسي. وقد أتبعه لاحقاً بدعوة أوربا إلى "تقليل" اعتمادها على الدولار الأميركي.

تعتقد أوساط النخب السياسية الأميركية أنّ واشنطن كانت مستاءة من تداعيات موقف فرنسا، خصوصاً في أعقاب خسارتها صفقة غواصات نووية تعمل بالطاقة النووية أبرمت مع أستراليا لمصلحة الولايات المتحدة، ولم تشأ الدخول في مواجهة مباشرة مع الرئيس الفرنسي، وآثرت "فرض" رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسيلا فون دير لاين، المقربة من واشنطن، على جدول زيارته للصين، لعلها تكبح اندفاعته، سواء ببعدها الذاتي باسم فرنسا أو بالنيابة عن دول أوروبا الأخرى.

وتشير تلك الأوساط أيضاً إلى تصرّف الصين الفوري بشأن فون دير لاين وعدم معاملتها وفق موقعها الرسمي، بل كأي زائر عادي، وهو ما علّقت عليه يومية "بوليتيكو" بأن مراسم استقبالها "اتسمت بالبرود الشديد، فيما أستُقبل الرئيس الفرنسي بحفاوة".

في تفاصيل مراسيم الاستقبال، استقبلت وزيرة البيئة في الصين فون دير لاين، الأمر الذي لا يتناسب مع موقعها الرسمي، وذلك "نظراً إلى خطابها المعادي للصين".

يُشار إلى أنّ رئيسة المفوضية الأوروبية قالت في كلمة ألقتها في بروكسل قبيل موعد الزيارة إن "أي خطّة سلام من شأنها تثبيت عمليات الضم الروسية هي ببساطة ليست خطة قابلة للتطبيق"، وأضافت أنّ "الأسلوب الذي ستواصل الصين التعامل به مع حرب بوتين سيكون عاملاً حاسماً في مستقبل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين".

وزعمت أورسيلا فون دير لاين، في تصريحات لاحقة للصحافيين، أنها "حثت الرئيس شي على التواصل مع الرئيس (الأوكراني) زيلينسكي. وقد أعرب عن استعداده للتحدث إليه عندما تكون الظروف والأزمان مؤاتية" (شبكة "سي أن بي سي" الكندية، 6 نيسان/أيار 2023).

في المقابل، تجب الإشارة إلى توجهات الرئيس الفرنسي وتصريحاته قبل الزيارة، وترديده أن العصر الحالي يستدعي "إعادة إنتاج نظام دولي عماده السلام والاستقرار"، الأمر الذي فسّرته مراكز القوى في واشنطن بأنه يتساوق مع السياسة الصينية التي اعتبرت أن "المتغيرات الدولية الحالية لم تحدث منذ 100 عام".

واعتبرت يومية "نيويورك تايمز"، نيابة عن النخب السياسية والإعلامية، أن زيارة ماكرون للصين "حميمة"، لكونها عُقدت في المقر الرسمي لوالد الرئيس الصيني، وأن "تفاوض الرئيسين دلّ على صداقة حميمة استثنائية" ("نيويورك تايمز"، 8 نيسان/أبريل 2023).

ووجّهت شبكة "فوكس نيوز" سهام انتقاداتها إلى " ماكرون لرفضه السير وفق الإيقاع الأميركي" بشأن تايوان، وطموحه إلى رفع مكانة بلاده على حساب أميركا عقب تصريحه لفريق من الصحافيين بأنه يتطلع إلى رؤية فرنسا "قطباً ثالثاً" على المستوى الدولي، بموازاة قطبي الولايات المتحدة والصين (شبكة "فوكس نيوز"، 10 نيسان/إبريل 2023).

أحد أبرز أبواق اليمين الأميركي المتشدد والمحافظين الجدد على السواء، إيبوك تايمز، حذرت حلفاءها الأوروبيين من الابتعاد عن السياسة الأميركية التي لن تسمح بنشوء "طريق ثالث لأوروبا"، في إشارة إلى نزعات فرنسا "المثالية" للسير بمسافة بعيدة عن الولايات المتحدة (صحيفة "ذي إيبوك تايمز"، The Epoch Times 7 نيسان/إبريل 2023).

ما يرجح فرضية إقحام واشنطن لفون دير لاين في زيارة بكين كقطب مستقل عن ماكرون هو الإشادة الأميركية بتصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية بزعم "تحذيرها بكين مباشرة من توفير الدعم لروسيا في الحرب الأوكرانية"، واستبعادها أيضاً انفصام أوروبا عن الصين تجارياً.

لعلّ كلمة السّر في تقييم النخب الأميركية، كما أوردته صحيفة "نيويورك تايمز"، لمضمون البيان المشترك لرئيسي البلدين، هي طموحهما إلى نسج "شراكة استراتيجية عالمية" وترحيبهما بـ "عالم متعدد الأقطاب"، في ظل "جمود العلاقات الأميركية الصينية".

فنلندا تتخلّى عن حيادها

لم يكن مفاجئاً إعلان فنلندا انضمامها رسمياً إلى حلف الناتو واقلاعها طوعياً عن سياسة الحياد، إضافة إلى جارتها السويد، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نتيجة ضغوط علنية ومباشرة من واشنطن في سياق استراتيجيتها الكبرى لمحاصرة روسيا.

لم تُخفِ واشنطن أهدافها الكونية، وخصوصاً في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، ولاحقاً روسيا الاتحادية، باعتمادها مبدأ ضرب الخصم في خاصرته الضعيفة، وإدامة استنزافه طمعاً في تشكيل منصة انطلاق إلى داخل أراضيه والعمل على تفتيت لحمة أواصره وقيمه.

وقامت الولايات المتحدة بدور نشط في دعم مجموعات محلية وتأييدها وتسليحها، بدءا من الشيشان في الزمن الغابر، مروراً بأوكرانيا، وليس انتهاءً بأذربيجان، بغرض تعطيل عجلة التطور المحلية والبناء الذاتي والنهوض الاقتصادي، والأهم دقّ إسفين في مدماك البنيان السياسي للدولة.

تدخّل واشنطن في الشؤون الداخلية لكافة بلدان المعمورة تجاوز التكهنات والتحليلات، وقطع الشك باليقين، نظراً إلى مكانتها العضوية في سياساتها الخارجية على مر العصور، ومنذ تشكل أركان الكيان السياسي الأميركي.

وارتأت مفاصل مراكز القوى السياسية والعسكرية والأمنية الأميركية الاعتماد شبه الكلي على حروب تشن "بالوكالة" رغبةً منها في تفادي إخفاقاتها المكلفة السابقة في فيتنام وأفغانستان والعراق، من دون التخلي عن تعديل رقعة وجودها العسكري في أي منطقة مرغوبة بـ "قوات خاصة" أو ما شابه.

ووجدت نخب واشنطن ضالّتها في ارتهان شرائح واسعة في البلدان المستهدفة لتوجهاتها في مقابل "إثراء شخصي" على حساب المصالح العامة. واعتبرت رضوخ فنلندا لسياساتها وعضويتها في حلف الناتو إضافة نوعية لمحاصرة روسيا، وامتداداً الصين، بمضاعفة مدى الحدود المشتركة، نحو 800 ميل، التي كانت يوماً مصدر استقرار، والقول إن "بحر البلطيق كان بحيرة روسية، يتحكم الناتو الآن في خاصرته الشمالية"، (يومية "فورين بوليسي"، 6 نيسان/إبريل 2023).

سياسات فنلندا الأمنية السابقة كانت موصوفة بالبراغماتية بين القطبين الدوليين، من مثل اعتمادها على نظام التجنيد الإلزامي، وقوامه نحو 22 ألفاً، وحفاظها على قوة أكبر من الاحتياط يصل تعدادها إلى 280 ألف عنصر، وتواضع انفاقها السابق على المسائل العسكرية بنسبة 1.6% من الناتج القومي إبّان الحرب الباردة، وبلوغه نحو 2% من ميزانيتها العامة، وهي النسبة التي حددتها واشنطن كحد أدنى لدول الحلف.

وعام 1992 أبرمت اتفاقية مع الولايات المتحدة لشراء "64 مقاتلة من طراز أف-18 أس" شكّلت اللبنة الأولى للانخراط العملي مع القوات الأميركية عبر تدريبات مشتركة ومناورات بحرية في مياهها، فضلاً عن تواصل شرائها معدات عسكرية أميركية صاروخية ومدرعات ومدافع ثقيلة وسفن حربية، وصولاً إلى إبرامها صفقة حديثة (2021) لشراء مقاتلات أميركية متطورة من طراز أف-35.

أمام هذا "الانتصار" الأميركي المرحلي بالوكالة، تجدر الإشارة إلى مشاركة قوات فنلندا العسكرية مباشرة في عدد من المغامرات الأميركية في العالم "منذ عقد الخمسينيات"، نذكر منها لبنان وكوسوفو والعراق ومالي والصومال وعموم الشرق الأوسط ومياه البحر المتوسط، وقريباً في أوكرانيا.

وقد استجابت لطلب واشنطن في شباط/فبراير 2022 للمشاركة في تدريبات مشتركة مع حلف الناتو، عملية "التجاوب القارص"، في النرويج، وبلغ عدد أفراد قواتها نحو 680 عنصراً، من بينهم 470 من سجلات الخدمة الإلزامية، ما أثار مجدداً الجدل الداخلي بشأن عضوية حلف الناتو.

وتشير البيانات الفنلندية الرسمية إلى تأييد الغالبية العظمى من كبار السن، 70%، الانضمام إلى حلف الناتو ي مقابل معارضة معتبرة من جيل الشباب (صحيفة "هيلسينكي تايمز"، 28 نيسان/إبريل 2022).

تمدد قوات فنلندا العسكرية وتعدّد مهامها إلى جانب القوات الأميركية وفّر لها اكتساب خبرة ميدانية متواصلة، وجاهزيتها للانتشار في مناطق يحددها حلف الناتو، بقيادة واشنطن زادت، بيد إن الرهان على ممارسة فنلندا دوراً حاسماً في استهداف خاصرة روسيا على طول الحدود المشتركة لا يندرج في حُكم المسلّم به.

وحسمت صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 8 نيسان/إبريل 2023 جدل اشتباك قوات أوروبية أخرى مع القوات الروسية بالدلالة على متانة تحالف موسكو وبكين، إذ تعتبر "الصّين أولويتها الاستراتيجية مع روسيا في عدائهما المشترك" للاستراتيجية الأميركية التي تراهن على عدم تطور نتائج زيارة الرئيس الفرنسي لبكين كنموذج لفصل ارتباط أوروبا بالولايات المتحدة.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

اضف تعليق