q
سيدة لا يتجاوز عمرها الاربعون عاما لفتت انتباهي حين دخلتُ الى إحدى الأسواق الشعبية الموجودة في مدينتي، تتلفت ذات اليمين وذات الشمال تخشى ان يراها أحد وهي تفرك راحتيها واحدة بالأخرى، أكملتُ المسير باتجاهها وكلما اقتربت منها أكثر تتضح لي ملامحها التي امتزجت بين الخوف والحيرة والعناء المتراكم لسنين...

سيدة لا يتجاوز عمرها الاربعون عاما لفتت انتباهي حين دخلتُ الى إحدى الأسواق الشعبية الموجودة في مدينتي، تتلفت ذات اليمين وذات الشمال تخشى ان يراها أحد وهي تفرك راحتيها واحدة بالأخرى، أكملتُ المسير باتجاهها وكلما اقتربت منها أكثر تتضح لي ملامحها التي امتزجت بين الخوف والحيرة والعناء المتراكم لسنين، وعلى ما يبدو أكثر من سنين عجاف يوسف السبع.

حييتها بتحية الإسلام وطلبت منها بأسلوب لطيف ان تخبرني بالشيء الذي جعلها تمر بهذه الحالة المقلقة، وترددت لبرهة من الوقت، نطقت دموعها الممزوجة والمغموسة بالألم والخذلان، حتى تناهى الى مسامعي ما يبكي القلب ويغير الموازين الذاتية لكل من يسمع حديث الدموع الشجي، وعرفت بعد دقائق انها ام لأربعة أطفال خطف القدر والدهم وتركهم تحت سوط الحياة.

معاناة هذه المرأة الوحيدة التي لا تجد من يسند حملها الثقيل هي شاهد فعلي وحجة دامغة على ما تعيشه اغلب الاسر التي فقدت معيلها ولا تظفر بفرصة عمل بسيطة تقيها شظف العيش، ولم يقتصر الامر على هذه الشريحة من المجتمع فهنالك الكثير ممن اكتوى بنيران غلاء الأسعار قبل شهور من الآن ولم تسعى الحكومة لإنقاذه.

ومن باب الانصاف هنالك من يشد العزم والهمة لتقديم ما يستطيع مساعدته لمثل هذه الاسر في الشهر الكريم، لكن ومهما تبلغ هذه المساعدات من كمية كبيرة تبقى عاجزة عن سد النقص الحاصل في مؤنة العوائل المتعففة التي احكمت قبضتها عليها مصائب الأيام وصارت تعيش تحت مستوى خط الفقر، والسبب يعود في هذه النتيجة الى التقصير الحكومي.

تقصير الحكومة يتمثل في تقليص اعداد الأشخاص المشمولين بمنحة الرعاية الاجتماعية، فضلا عن مبلغها البسيط الذي لا يعادل شيء وسط الغلاء الذي طال جميع السلع والخدمات في الأيام الأخيرة السالفة، وغدت الأسعار لا تطاق من قبل أصحاب الدخل المحدود الذين يعتمدون على الاعمال الحرة.

في مثل هذه الأيام السير في الأسواق العامة يحمل نكهة خاصة لا سيما وان معالم شهر رمضان تبدو واضحة للناظرين، فتجد الزينة الخاصة بالأيام الرمضانية معلقة على واجهات المحال، بالإضافة الى عرض بعض الأصناف من التمور والأغذية المعتاد تناولها خلال فترة الصيام.

مائدة شهر رمضان تتميز كثيرا عن الموائد الأخرى وعن باقي شهور السنة، فهي غنية بمختلف الاكلات الشعبية، واعتادت الناس على الاسراف والبذخ طيلة الثلاثون يوما، فالتقصير او تغيب أحد عناصر هذه المائدة يحز بالنفوس بالنسبة للأشخاص المعتادين على نوع معين من الاكلات والاصناف الدارجة، لكن وبفعل العوامل المتراكمة التي داهمت المجتمع اجبرت الاسر على التخلي عن الكثير من الأساسيات.

العقدة الرئيسية التي تسببت بكل هذا هو الإهمال المفرط الذي تتبعه الحكومة المركزية في التعامل مع التجار المستوردين، فلا توجد رقابة حقيقية على موردي السلع بمختلف صنوفها، وكثير منهم يضعون الأسعار التي يرغبون باستحصالها من جيوب الفقراء والطبقات المتوسطة، ولا يعيرون اهتماما للجوانب الإنسانية، التي من المفترض مراعاتها قبل كل شيء بغض النظر عن كمية الربح والخسارة.

هنالك حقيقة لا يمكن انكارها وهي ان الأسعار بصورة عامة تتأثر بالظروف المحيطة، ولا يمكن ان تعدي الازمة الأوكرانية الروسية دون القاء الضلال على المنتجات العامة التي تعتبر من الحاجات الضرورية لدى الافراد بمختلف مستوياتهم المعيشية، لكن تبقى الأكثر تضررا من جميع ما يحدث هي الطبقة الكادحة التي فقدت شعور الفرحة بحلول الشهر الفضيل، لما سببه من زيادة في الاعباء عليهم وأثقل كواهلهم التي هي في الأساس متعبة وتجتهد لتوفير احتياجات الحياة او قسط يسير منها.

اضف تعليق