لا يَتوحَّدُ شعبٌ أو يَنقسِمُ من دون أسبابٍ وجوديّةٍ وجيهة. فلا الوِحدةُ تَدومُ ولا التقسيمُ إذا كانت الأسبابُ واهيّةً وظرفيّةً. والخِيارُ الوِحدويُّ من دونِ أُسُسٍ متينةٍ ليس فضيلة، والخِيارُ التقسيميُّ لأسبابٍ موجِبَةٍ صلبةٍ ليس رذيلة. شعوبٌ كثيرةٌ فَضَّلت الافتراقَ بحُجّةِ استحالةِ الشَراكة، وشعوبٌ أُخرى اصْطَفَت الوِحدةَ تثبيتًا...

هناك شعوبٌ مهما حاولَ أعداؤُها تقسيمَها، تعودُ وتتوحّدُ لأنَّ شعورَها القوميَّ الواحِدَ أقوى من التقسيمِ. وهناك شعوبٌ مهما حاول حلفاؤُها توحيدَها، تعود وتَنقسِمُ لأنَّ مشاعرَ مكوّناتِها القوميّةَ مبعثرةٌ وولاءاتِها ضالةٌ تَجوبُ في أوطانٍ أخرى. محاولاتُ التمرّدِ على هذه الحتميّةِ التاريخيّةِ أدّت إلى مآسٍ. المئةُ سنةٍ المنصرمةُ شَهِدَت تغييرَ حدودِ ثمانينَ دولةً في أنحاءِ العالم انفصالًا أو تقسيمًا أو توحيدًا. من التغييراتِ ما حَصَل سلميًّا، منها ما جرى عسكريًّا، والباقي حَصلَ بفعلِ مخطَّطٍ خارجيّ. قد تكون تجاربُ ألمانيا والاتّحادِ السوفياتيِّ والعالمِ العربيّ أكثرَ تعبيرًا عن دورِ الحرّيةِ والقوميّةِ والدينِ والاستعمارِ في تغييرِ الدولِ والأوطان.

في مثلِ هذا اليوم 07 تشرين الأوّل 1949، أعْلنَت الدولُ المنتصرِةُ في الحربِ العالميّةِ الثانية (أميركا، فرنسا، بريطانيا والاتحاد السوفياتي) تقسيمَ ألمانيا رسميًّا دولتين بعد اقتسامِها سنةَ 1945. لكنَّ الشعبَ الألمانيَّ سارعَ واستعادَ وِحدتَه الفدراليّةَ لحظةَ بَدءِ سقوطِ الاتّحادِ السوفياتي سنةَ 1989. ولاحقًا أصبحَت أنجيلا ميركل، ابنةُ ألمانيا الشيوعيّة، مستشارةَ ألمانيا الموحَّدةِ الليبراليّة. المشاعرُ القوميّةُ حيّةٌ.

وفي مثلِ هذه الفترة أيضًا ـــ تشرين الأوّل سنة 1989 ـــ انتفَض الشعبُ الروسيُّ على الاتّحادِ السوفياتيّ، فإذا 15 دولةً، كان النظامُ الشيوعيُّ جَمعَها قَسْرًا طَوالَ أكثرَ من سبعينَ سنةً، بادَرت إلى الانفصالِ والرجوعِ إلى كياناتٍ قوميّةٍ سابقة. وبعضُ هذه الشعوب عاد وانقَسَم إتنيًّا ودينيًّا داخلَ كياناتِه الجديدةِ مثلَ دولِ بلادِ البلقان (تشيكوسلوفاكيا، يوغسلافيا ومقدونيا). لا تَحرّرَ من دونِ استقلالٍ.

وقبلَ عشرِ سنواتٍ انتفَضَت شعوبٌ عربيّةٌ ضِدَّ أنظمتِها في ما سُمِّيَ آنذاك بـــ"الربيعِ العربيّ". بَقيَت الأنظمةُ ـــ وإن تَغيّر رجالُها ـــ وتَكشَّفت أهدافٌ تتخطّى تغييرَ النظامِ إلى تغييرِ الكيانِ، فطالبَت أقليّاتٌ مسْلِمةٌ بالتقسيمِ وبالحكمِ الذاتيِّ وبتقريرِ المصيرِ وبالحكمِ الفِدراليِّ في العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان. وامْتنعَت الأقليّاتُ المسيحيّةُ في العراق وسوريا والأقباطُ في مصر عن ذلك. مفهومُ الدولةِ انتَصرَ عند المسيحيّين.

تُظهِرُ هذه الأمثلةُ أنَّ:

1) الشعوبَ لا تَتوحَّدُ أو تَنقسِمُ بالصُدفةِ أو بالتسويةِ أو بالقَهر.

2) لا علاقةَ لعددِ السكّانِ ومساحةِ الأرض بتقريرِ المصيرِ المستقِل.

3) أسبابَ الاتّحادِ والانفصالِ مختلِفةٌ بين الشعوب.

عمومًا، لا يَتوحَّدُ شعبٌ أو يَنقسِمُ من دون أسبابٍ وجوديّةٍ وجيهة. فلا الوِحدةُ تَدومُ ولا التقسيمُ إذا كانت الأسبابُ واهيّةً وظرفيّةً. والخِيارُ الوِحدويُّ من دونِ أُسُسٍ متينةٍ ليس فضيلة، والخِيارُ التقسيميُّ لأسبابٍ موجِبَةٍ صلبةٍ ليس رذيلة. شعوبٌ كثيرةٌ فَضَّلت الافتراقَ بحُجّةِ استحالةِ الشَراكة، وشعوبٌ أُخرى اصْطَفَت الوِحدةَ تثبيتًا لإرادةِ الحياةِ المشتركَةِ في ظِلِّ دولةٍ واحدةٍ وشرعيّةٍ واحِدة. الوِحدةُ هي القُدرةُ على الحياةِ مع الآخَر المختلِف، والتقسيمُ هو الاكتفاءُ بالحياةِ مع الآخَر الشبيه. وإذا كان للوحدةِ ألفُ شكلٍ دستوريٍّ، فليس للتقسيمِ سوى شكلٍ واحِد.

إنَّ تقريرَ المصير، مهما كان نوعُه، لا يُشكِّلُ تُهمةً ولا يُوصَفُ بالخيانة. الخيانةُ هي دفعُ شعبٍ فخورٍ بوِحدَتِه إلى التفكيرِ ببدائلَ عن الشراكةِ الوطنية. يؤلمني، أنا ابنُ جبلِ لبنان، أن أتخلّى عن كامِلِ أرضِ وطني لأنَّ فريقًا قَرّرَ بناءَ مستعمَرةٍ لدولةٍ أجنبيّةٍ خِلافًا لإرادةِ سائرِ اللبنانيّين. وِحدةُ الوطنِ ليست فقط بانتماءِ الشعبِ إلى دولتِه، بل بانتمائِه إلى تاريخِه. هذا هو مفهومُ الدولةِ ــــ الوطن. ماذا يبقى منّي بدونِ فينيقيا وصيدا وصور، وبدونِ تلك المدائنِ والممالِكِ والأساطير؟ تاريخُ السياسةِ اللبنانيّةِ بدأ في جبلِ لبنان، لكنَّ تاريخَ الحضارةِ اللبنانيّةِ بدأ في المدائن الفينيقيّةِ الساحليّة.

لا إكراهَ في الخِياراتِ المصيريّة. الشعوبُ تُكوِّنُ نفسَها تِلقائيًّا وَفْقَ انسجامِ مُكوّناتِها، وتَستقِلُّ بمقْتَضى خصوصيّاتـِها. وحين تَتوحّدُ الشعوبُ التعدّديّةُ تَنتقي شكلَ نظامِها من بينِ مجموعةِ أشكالٍ دُستوريّةٍ وِحدويّةٍ تبدأُ بالوِحدةِ الحصريّةِ وصولًا إلى الفدراليّة. ليست الوِحدةُ قالِبًا جامدًا إلا في عقولِ البعض، ولا توجدُ تراتبيّةٌ قِيَميّةٌ بين هذه الأشكال، فكلُّها تتساوى دستوريًّا. وقيمةُ كلِّ شكلٍ دُستوريٍّ هي بمدى محافظتِه على الوِحدةِ الكيانيّةِ وملاءمَتِه واقعَ التعدّديّةِ، بحيث لا تَنفجرُ مع الوقتِ أمام تَحديّاتِ الزمن.

إنَّ شعبًا مختلِفًا على الأساسيّات، لا يستطيعُ بعضُ مكوِّناتِه الإصرارَ على وِحدةٍ مركزيّةٍ بغيةَ الهيمنةِ على المكوِّناتِ الأُخرى. هذا العِنادُ السيِّئُ النيّةِ يُفجِّرُ النظامَ والشراكةَ والكيان. لكنَّ شرودَ فئةٍ ليس كافيًا لتقسيمِ الوطن، بل هو دافعٌ لإعادتِها إليه إذا أَمكَن.

قبل أن يتّفِقَ شعبٌ على وِحدةِ بلادِه أو تقسيمِها، حريٌّ به أن يؤمنَ ببلادِه. يَصعُبُ توحيدُ لبنان إذا كان إيمانُنا به ناقصًا ومُشرِكًا، ويَستحيلُ تقسيمُه إذا كان إيمانُنا به ثابتًا ونظرتُنا إليه واحدة. خِيارُ الوطن يَسبُقُ خِيارَ النظام، وخِيارُ الحياةِ يَسبُق الاثنين. إنَّ الفلسفةَ الدُستوريّةَ في عمقِها هي فلسفةٌ سياسيّةٌ، والفلسفةَ السياسيّةَ في جوهرِها هي فلسفةٌ تاريخيّة، بحيثُ يَتعذّرُ أن يَبنيَ شعبٌ مستقبلًا أصيلًا بمنأى عن مسارِه التاريخيّ. مسارُ تاريخِ لبنان هو مسارُ الحرّيةِ لا مسارُ الوِحدةِ والتقسيم، وحالاتُ الوِحدةِ ليست هي الراجحة.

التقَت الحرّيةُ والوِحدةُ في إمارةِ جبلِ لبنان بين المسيحيّين والدروز، واندَمج بهما الشيعةُ في المتصرفيّة، وانضوى إليهم السُنّةُ في لبنانَ الكبير. التقى الجميعُ في الأرضِ والسلطةِ أكثرَ مـمّا التقوا في الوطنِ والدولة، فثَقُلَ الحِمْلُ على الصيغةِ بأوزانِها المتنازعِةِ وتَبعثرَت في فوضى الخِيارات لأنّ مفهومَي الحريّةِ والوِحدةِ تعرَّضا للاعتداء.

نحنُ المؤمنين بلبنان مدعوّون إلى مواجهةِ الإشكالاتِ الناشئةِ بموازاةِ الشرعيّةِ وخارجَ الدولةِ لئلا يتزايدَ الشكُّ في متانةِ وِحدةِ وطنِنا ويَنفرِطَ العِقْد. منذُ سنواتٍ بَرزَت حالاتٌ انفصاليّةٌ ألحَقَت أضرارًا جسيمةً في بُنيانِ دولةِ لبنان. والخطيرُ أن اللبنانيّين كانوا يؤمنون سابقًا بوجودِ حلولٍ لصراعاتِهم في إطارِ ِوحدةِ لبنان لأنَّ الخصمَ كان أجنبيًّا. أما اليوم، فصارت مساحةُ الحلولِ تتعدى الوِحدةَ لأنَّ الخصمَ لبنانيٌّ.

هناك قِوى تَتكبُّر على التاريخ، وتُحاولُ تغييرَ مجرى مستقبلِ لبنان بالقوّةِ وتحويلَ حُبِّنا نُفورًا وشرِكتِنا شرَكًا. لم تَتعلَّم النشيدَ الوطنيَّ ولم تَستمِع إليه يُردِّد: "إِسمُـهُ عِـزُّهُ منذُ كانَ الجُدود". دورُنا أن نُقنعَ، أو نَمنعَ، إذا استحالَ الإقناعُ، هذه الفئاتِ أن تَفرِضَ مشيئتَها الانفصاليّةَ والمتمرِّدةَ مهما كانت قوتُّها الظرفيّة. لا يُستَحسنُ ردٌّ طائفيٌّ على أيِّ طائفةٍ أخرى، بل ردٌّ وطنيّ. الردُّ الوطنيُّ يُبرزُ وطنيّةَ الصراع ويَضمَنُ اتّحادَ اللبنانيّين. جميعُ الردودِ الطائفيّةِ بُليَتْ بالهزائمِ ولم تَستطِع تغييرَ الواقع. وحدَها المواقفُ الوطنيّةُ نَقلَت لبنانَ إلى الأفضل.

* نشر في جريدةِ النهار-لبنان

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق