q

أستقيظ الاقتصاد العالمي مبكراً في 2017 وبدأ انتعاشته التي سبقها ركود وفتور على جميع المستويات، الا أنه وبعد التعافي من الأزمة الأخيرة، فؤجى بتغير كثير من المسارات التي أصبحت تشكل خارطة طريق جديدة، فعلى سبيل المثال تخلى المسؤولون الماليون بأكبر 20 اقتصادا في العالم عن التزام بتجارة عالمية حرة ومفتوحة ورضخوا للولايات المتحدة المؤيدة بقوة للسياسات الحمائية التجارية وذلك بعد اجتماع دام يومين لم يتمكنوا خلاله من التوصل إلى حل وسط، وفي تراجع عن تقليد دام عقدا بتأييد حرية التجارة اكتفى وزراء مالية ومحافظو البنوك المركزية لمجموعة العشرين بإشارة رمزية إلى التجارة في بيانهم الختامي يوم السبت في هزيمة واضحة لألمانيا البلد المضيف للقمة والتي قاومت محاولات الحكومة الأمريكية الجديدة لتخفيف تعهدات سابقة.

وفي أكبر تصادم حتى الآن بين الإدارة الأمريكية الجديدة والمجتمع الدولي تراجع المسؤولون الماليون لدول مجموعة العشرين أيضا عن تعهد بتمويل مكافحة التغير المناخي وهي نتيجة متوقعة بعد أن وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التغير المناخي بأنه "خدعة"، وفي اجتماع وصفه البعض أحيانا بأنه 19 مقابل واحد لم تقدم الولايات المتحدة أي تنازلات بشأن قضايا أساسية مما نسف بشكل أساسي اتفاقات سابقة حيث أن مجموعة العشرين تتطلب موافقة جماعية. لكن مسؤولين حضروا الاجتماع قالوا إن الحوار كان وديا ولم يكن تصادميا مما يترك المجال متاحا أمام التوصل لاتفاق في المستقبل.

وقد انسحب ترامب بالفعل من اتفاق أساسي للتجارة واقترح فرض ضرائب جديدة على الواردات معللا ذلك بضرورة إعادة صياغة علاقات تجارية محددة لتصبح أكثر عدالة بحق العمال الأمريكيين وذلك في إطار سعيه لتحقيق شعار "أمريكا أولا". وأعاد المسؤولون الماليون لمجموعة العشرين التأكيد على التزامهم بالإحجام عن تخفيض قيمة العملة التنافسي وهو اتفاق رئيسي جاء بعد شكاوى متكررة من الولايات المتحدة من أن بعض شركائها التجاريين يستخدمون عملات خفضت قيمتها بشكل مصطنع لتحقيق مكاسب تجارية.

وداعا للانكماش وأهلا بالتضخم

هدأت أشباح الانكماش وبدأ الماضي يطويها بفضل ارتفاع ضغوط الأسعار من جديد على مستوى العالم ما دفع المستثمرين لطلب الحماية متمثلة في السندات المعصومة من شرور التضخم، اذ في وقت سابق من الشهر الجاري باعت نيوزيلندا أول سندات مرتبطة بالتضخم منذ أكثر من عامين في بادرة على ظهور طلب عليها وانتهزت ايطاليا الفرصة وباعت ما قيمته ثلاثة مليارات يورو من هذه السندات عن طريق اتحاد بنوك.

وقبل عام واحد كان انكماش الأسعار، الذي يحد من إنفاق المستثمرين ومن النمو الاقتصادي، هو الذي ابتلي به المستثمرون والبنوك المركزية ما أدى إلى بقاء سياسات التيسير النقدي الشديد التي دفعت تكاليف الاقتراض الحكومي في قطاع كبير من العالم المتقدم دون الصفر.

ومازال التسعير في السوق يشير إلى تضخم محدود في الأجل الطويل لكن الدلائل على اتجاه ضغوط الأسعار للارتفاع واقترانها بما يتردد عن دفعة مالية أمريكية ضخمة معناها أن المستثمرين تراجعوا عن أشد رهاناتهم على التضخم هبوطا بعد أن قرر الناخبون في بريطانيا العام الماضي الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.

وارتفع مؤشر ‭‭‭BCGLOIL‬‬‬ الرئيسي الذي يصدره باركليز للسندات الحكومية المرتبطة بالتضخم نحو اثنين في المئة من أدنى مستوياته منذ تسعة أشهر رغم أنه مازال بعيدا عن المستويات المرتفعة التي سجلها العام الماضي، ومن ناحية أخرى ارتفع الفارق بين العائد على السند المرتبط بالتضخم والسند العادي بذات الأجل في أوروبا والولايات المتحدة، أو ما يطلق عليه سعر التعادل، على مدار الأشهر الستة الأخيرة ليعكس ارتفاع التوقعات الخاصة بالتضخم.

وأصبح الفارق في الولايات المتحدة نحو اثنين في المئة للسندات التي يبلغ أجلها عشرة أعوام بعد أن بلغت أعلى مستوياتها عام 2014.

وكان الفارق يبلغ 1.5 في المئة في يوليو تموز الماضي عندما راهن المستثمرون على أن هدف مجلس الاحتياطي الاتحادي بالوصول إلى التضخم إلى مستوى اثنين في المئة على مدار عشر سنوات لن يتحقق، أما الفارق للسندات الألمانية لأجل عشر سنوات، وهي معيار القياس في منطقة اليورو، فيبلغ 1.41 في المئة أي أقل من المستوى الذي يستهدفه البنك المركزي الأوروبي للتضخم وهو الاقتراب من مستوى اثنين في المئة دون بلوغه وذلك بالمقارنة مع أقل من واحد في المئة العام الماضي.

وإذا ارتفع التضخم في المتوسط عن الفارق فسيكون أداء السندات المرتبطة بالتضخم أفضل من نظيراتها ذات العائد الثابت، وذكر بوب ميشيل رئيس قسم الدخل الثابت في جيه.بي. مورجان اسيت مانجمنت "نحن نشتري السندات المرتبطة بالتضخم الآن. فنحن نعتقد أن التضخم مقوم بأقل من قيمته الحقيقية سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا أو اليابان ونحن نرى أن التضخم يتجه للارتفاع في كل هذه الأسواق."

وقد ارتفع المؤشر الأساسي لأسعار المستهلكين، المفضل لدى مجلس الاحتياطي الاتحادي لقياس التضخم، مسجلا أكبر زيادة شهرية في يناير كانون الثاني ليصل إلى 1.7 في المئة مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، ورفع المجلس أسعار الفائدة ربع نقطة مئوية في خطوة كانت مستبعدة قبل بضعة أسابيع.

وسجل التضخم في منطقة اليورو أعلى مستوى منذ أربع سنوات فبلغ اثنين في المئة متجاوزا هدف البنك المركزي الأوروبي في حين ارتفع التضخم في سويسرا عن الصفر للمرة الأولى منذ أكثر من عامين، وفي اليابان التي تحارب الانكماش منذ سنوات ارتفع التضخم الأساسي في أسعار المستهلكين بنسبة 0.1 في المئة عما كان عليه قبل عام وذلك للمرة الأولى منذ 2015.

ويرى محللون إن التشكك في ارتفاع مطرد للتضخم بعد سنوات من النمو الاقتصادي الضعيف يفسر سبب عودة المستثمرين على استحياء إلى السندات المرتبطة بالتضخم بدلا من الإقبال الشديد عليها، وعلى سبيل المثال يشير الفارق للسندات الثلاثينية في منطقة اليورو، البالغ 1.60 في المئة، إلى أن توقعات التضخم طويلة الأجل لا تزال محدودة لكنها أعلى من المستويات القياسية المتدنية التي سجلتها فوق واحد في المئة بالكاد في العام الماضي.

وبالنسبة لبعض المستثمرين تمثل المخاوف من مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف في انتخابات الرئاسة الفرنسية سببا لشراء السندات الفرنسية المرتبطة بالتضخم لأنه إذا وصل الأمر بفرنسا للانسحاب من الوحدة النقدية وتبني عملة وطنية فإن هذه العملة ستنخفض وسيرتفع التضخم، كذلك تشير مقاييس أخرى في السوق مثل مؤشرات التضخم الخمسية إلى ارتفاع توقعات المستثمرين للتضخم رغم أن هذه المؤشرات انخفضت في الأسابيع الأخيرة لتعكس تحركا عاما إلى الأصول المضمونة فيما يتصل بالتوترات الناجمة عن الانتخابات الفرنسية.

ترودو يدعو إلى زيادة المزايا الاجتماعية من الاقتصاد

دعا رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إلى ضرورة أن يركز صناع السياسة الاقتصادية الدوليون بشكل أكبر على تحقيق نمو اقتصادي يفيد نطاق أوسع من المجتمع العالمي، ووجه ترودو تحذيرا غير مباشر من أن السياسة الاقتصادية التي تركز على قطاعات صغيرة من المجتمع تخلق عدم مساواة تؤدي إلى الغضب الذي يشعل التطرف.

وأضاف إن تزايد عدم المساواة جعل الشعوب لا تثق في حكوماتها ولا تثق في أرباب العمل. وأضاف أن كثيرين في كل أنحاء العالم يشعرون بقلق بشأن المستقبل، وألقى ترودو هذه الكلمة في ختام جولة أوروبية تضمنت كلمة أمام البرلمان الأوروبي بعد تأييده اتفاقا للتجارة الحرة بين كندا والاتحاد الأوروبي ومحادثات مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

الصين تتفوق على أمريكا وفرنسا

أظهرت بيانات أن الصين صارت للمرة الأولى أكبر شريك تجاري لألمانيا في 2016 لتتفوق بذلك على الولايات المتحدة التي تراجعت إلى المركز الثالث بعد فرنسا، وأشارت بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي إلى أن قيمة واردات ألمانيا من الصين وصادراتها إليها زادت إلى 170 مليار يورو (180 مليار دولار) العام الماضي.

ومن المرجح أن يسعد هذا التطور الحكومة الألمانية التي تبنت هدفا يتمثل في حماية التجارة الحرة العالمية بعدما هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية على الواردات واتهم كبير مستشاريه للشؤون التجارية ألمانيا باستغلال ضعف اليورو في تعزيز الصادرات.

وأشار زيجمار جابرييل نائب المستشارة الألمانية إلى أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يعاود التركيز على سياسته الاقتصادية تجاه آسيا إذا تبنت حكومة ترامب سياسة الحماية التجارية، وظلت فرنسا ثاني أكبر شريك تجاري لألمانيا إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 167 مليار يورو. وجاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة بتجارة حجمها 165 مليار يورو.

وفي عام 2015 أضحت الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري لألمانيا متفوقة على فرنسا للمرة الأولى منذ عام 1961 بفضل انتعاش الاقتصاد الأمريكي وتراجع اليورو، وعلى صعيد الصادرات وحدها ظلت الولايات المتحدة أكبر مشتر للمنتجات الألمانية الصنع في 2016 إذ استوردت سلعا من أكبر اقتصاد أوروبي تقارب قيمتها 107 مليارات يورو.

كما أن فرنسا هي ثاني أكبر مستورد للسلع الألمانية حيث بلغت قيمة وارداتها منها 101 مليار يورو بحسب البيانات. وجاءت بريطانيا في المركز الثالث باستيرادها سلعا ألمانية قيمتها 86 مليار يورو، وحققت ألمانيا أكبر فائض في التجارة الثنائية مع بريطانيا إذ تشير البيانات إلى أن الصادرات فاقت الواردات من بريطانيا بأكثر من 50 مليار يورو.

وجاءت الولايات المتحدة في المركز الثاني بين الدول التي حققت معها ألمانيا فائضا في التجارة الثنائية حيث تجاوزت الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة الواردات منها بواقع 49 مليار يورو، ويعني ذلك أن بريطانيا والولايات المتحدة شكلتا معا نحو 40 بالمئة من الفائض التجاري القياسي الذي حققته ألمانيا في 2016 والبالغ 252.9 مليار يورو.

اتجاهات الاقتصاد العالمي في 2017

على الصعيد العالمي، يبدو من الواضح أن معدل التضخم آخذ في الارتفاع، والاتجاهات التضخمية الأساسية متينة وذك استنادا إلى أحدث البيانات الاقتصادية الخاصة بأسعار المنتجين والارتفاع الأخير في أسعار النفط والسلع الأساسية، ومن المرجح أن يساعد تأثير القاعدة المتعلق بالتضخم للسلع الأساسية على تجاوز التوقعات وتوفير مخاوف تضخمية مناسبة في النصف الأول من العام. سيشهد العالم في المدى القصير على الأقل انتعاش معدل التضخم الإجمالي، ولكن يجب علينا في الوقت نفسه عدم نسيان أن الضغوط الانكماشية البنيوية من التكنولوجيا والتركيبة السكانية لن تختفي.

وفي الوقت الذي يبدأ فيه النمو الاقتصادي العالمي بالانتعاش، فإن عصر برامج التيسير الكمّي وأسعار الفائدة المنخفضة يقترب من نهايته، وقد يؤدي ذلك إلى عودة بعض البرامج الماكرو اقتصادية مثل اتجاهات النمو النسبية والسياسات الاقتصادية المتباينة. وبينما ترخي البنوك المركزية قبضتها فإن عمليات شراء وبيع الأسهم بشكل سريع في الأسواق المالية ستتمتع بحرية أكبر كما سيكون للمستثمرين الذين يعتمدون على قوّة ارتفاع السعر أو انخفاضه أكثر سعادة. سوف تحصل كل هذه المواضيع على دعم من انتعاش البنوك على مستوى العالم وتحسّن السيولة، والمخاطر والمرحلة الانتقالية للسياسات النقدية.

كما يحتاج الاقتصاد العالمي من أجل ترسيخ حجم الانتعاش الذي يحققه قيام الصين واليابان، صاحبي ثاني وثالث أكبر اقتصاد في العالم على التوالي، إلى بذل المزيد من الجهود من أجل تسريع وتيرة النمو الاقتصادي. لاتزال اليابان غارقة في الركود رغم عقود من هذه السياسات، ما يعكس صورة واضحة عن مدى صعوبة هذا التحدي، باختصار فإن تحرّك عجلة النمو الاقتصادي العالمي وارتفاع التضخم سيصبّان في مصلحة المستثمرين وذلك على الأقل في المدى القصير. وطالما بقي ارتفاع التضخم تحت سيطرة كل من البنوك المركزية وصنّاع القرار فإن الأسواق المالية ستحقق أداء جيداً. أما إذا أدى ارتفاع التضخم إلى عمليات بيع مكثفة في أسواق السندات العالمية، فإن ذلك قد يدفع البنوك المركزية للذعر وبالتالي تشديد السياسات النقدية بشكل كبير وهو الأمر الذي قد يكون سيئاً بالنسبة للأسواق المالية العالمية.

اضف تعليق