q
يجب على المؤمنين الالتفات إلى صلة أرحامهم، وتجاوز ما قد يحدث أحياناً من سوء فهم يؤدي إلى القطيعة والتدابر، فشهر رمضان المبارك فرصة رائعة لصلة الأرحام، وتقوية الأواصر العائلية، وحل الخلافات بالتواصل والتزاور والانفتاح، والمبادرات الأسرية والعائلية مطلوبة خصوصاً في شهر الله، ولو بأقل...

مدخل

يُعد شهر رمضان المبارك أفضل مناسبة للتغيير الاجتماعي كما التغيير الذاتي، ففي أجواء شهر الله الإيمانية يتغير كل شيء، وتكون النفوس قابلة للتغير والتغيير، والمجتمع قابلاً لحراك اجتماعي قوي.

وكما النفوس تُصاب بالتعب والإرهاق والملل والرتابة، كذلك المجتمعات؛ وكما أن النفوس مستعدة بطبيعتها للتأثر والتأثير، كذلك المجتمعات تمتلك مقومات التأثر والتأثير.

والمجتمع ـ أي مجتمع ـ يُصاب بأمراض ومشاكل وعقبات تحول دون تقدمه وتطوره، كما أنه بحاجة مستمرة للتغيير نحو الأفضل، فإن أجواء شهر رمضان المبارك تساعد كثيراً على تجاوز الكثير من العقبات والمشاكل، ومعالجة العديد من الأمراض الاجتماعية المزمنة وغير المزمنة.

لذلك كله، علينا أن نستثمر شهر رمضان الكريم في إحداث تغيير اجتماعي حقيقي بما يُسهم في إنماء المجتمع وتطويره، والرقي به نحو سلالم المجد والازدهار والتقدم.

ملامح التغيير الاجتماعي:

للتغيير الاجتماعي أبعاد وملامح مختلفة، وكلها بحاجة إلى تغيير إيجابي بما يعزز من تماسك المجتمع وقوته، وأهم هذه الملامح ما يلي:

أولاً: صلة الأرحام

شهر رمضان الكريم فرصة مميزة لوصل ما انقطع، وتقوية الأواصر الأسرية؛ فصلة الرحم من القيم الدينية والإنسانية التي يجب الحفاظ عليها، فقد حَثَّ الدين على ضرورة صلة الأرحام، قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}(1) ويقول تعالى: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(2)، وقد أوضح الإمام الصادق (عليه السلام) معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ }(3) من ذلك صلة الرحم وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسئ في الأجل) (5) وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (صلة الأرحام تحسن الخلق، وتسمح الكفّ، وتطيب النفس، وتزيد في الرزق، وتنسئ في الأجل) (6).

فصلة الأرحام -بالإضافة إلى استجابه- له فوائد عديدة، ومن أبرزها: التلاحم الأسري والعائلي، والشعور بالراحة النفسية، وإطالة العمر، وهو ما ينعكس إيجاباً في صناعة أجواء اجتماعية متماسكة.

ومن جهة أخرى تحذر التعاليم الدينية من قطيعة الأرحام، يقول تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}(7)، وورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، ومدمن سحر، وقاطع رحم) (8)، ويعتبر الإمام علي (عليه السلام) أن قطيعة الرحم من أقبح المعاصي، إذ يقول: (أقبح المعاصي قطيعة الرحم والعقوق) (9) والإمام الصادق (عليه السلام) يحذر من الحالقة، إذ يقول (عليه السلام): (اتقوا الحالقة، فإنها تميت الرجال. قلت: وما الحالقة؟ قال: قطيعة الرحم) (10).

لذلك يجب على المؤمنين الالتفات إلى صلة أرحامهم، وتجاوز ما قد يحدث أحياناً من سوء فهم يؤدي إلى القطيعة والتدابر، فشهر رمضان المبارك فرصة رائعة لصلة الأرحام، وتقوية الأواصر العائلية، وحل الخلافات بالتواصل والتزاور والانفتاح، والمبادرات الأسرية والعائلية مطلوبة خصوصاً في شهر الله، ولو بأقل ما يمكن، فدعوة على إفطار أو سحور ستزيل الكثير من أجواء الشحناء والبغضاء في حال وجود خلافات عائلية، وستقوي اللحمة العائلية في حال عدم وجود خلافات داخلية.

والمطلوب هو إحداث تغيير حقيقي في التواصل العائلي في هذا الشهر المبارك، بالمزيد من التواصل، والتزاور، والتحابب. ويجب أن لا تشغلنا همومنا وأعمالنا اليومية عن صلة أرحامنا، والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يرشدنا إلى أقل ما يوصل به الرحم وهو السلام، إذ ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (صلوا أرحامكم ولو بالسلام) (11) والإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (صل رحمك ولو بشربة من ماء، وأفضل ما توصل به الرحم كف الأذى عنها) (12).

فليكن شهر رمضان الكريم شهر تقوية العلاقات الداخلية بين الأسر والعوائل؛ بما يُسهم في تنمية التواصل الأسري والعائلي، وهو تغيير مطلوب في ظل الابتعاد والتقاطع الذي بات يعاني منه المجتمع.

ثانياً: التواصل الاجتماعي

أصبح الناس في هذا الزمان يشعرون بكثرة الأعمال والأشغال، وأمسى كل واحد مشغول بحاله وعائلته، ودائماً ما نسمع كلمة (أنا مشغول) للتبرير عن غيابه الاجتماعي أو قيامه بأي دور أو مسؤولية اجتماعية عامة.

لكن كثرة الأعمال، أو زحمة الأولويات يجب أن لا تحول بيننا وبين التواصل الاجتماعي مع الناس، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ولا يمكنه الاستغناء عن التواصل مع بني جنسه، وإلا أصيب الإنسان بأمراض نفسية واجتماعية نتيجة ابتعاده عن المحيط الاجتماعي.

لقد أصبح مرض القطيعة والعزلة عن الناس من الأمراض الاجتماعية الآخذة بالانتشار، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه، فهذا المرض إن استفحل سيؤدي إلى أضرار كبيرة في بنية المجتمع وقوته.

وفي تعاليم الإسلام وتوصياته التأكيد المستمر على التواصل والتزاور والتعارف بين الناس يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (13) والتعارف لا يتم إل من خلال التواصل والتداخل، لذلك قال الإمام علي (عليه السلام) وهو على فراش الموت موصياً ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام): (وعليكم بالتواصل والتباذل (14) وإياكم والتدابر والتقاطع) (15).

ومن مصاديق التواصل الاجتماعي هو التزاور بين الناس، فـ (الزيارة تنبت المودة) (16) كما ورد عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أن التزاور فيه إثراء للمعارف العقلية، يقول الإمام الهادي (عليه السلام): (ملاقاة الإخوان نشرة وتلقيح العقل، وإن كان نزراً قليلاً) (17) ويقول الإمام علي (عليه السلام): (لقاء الإخوان مغنم جسيم وإن قلوا) (18).

ومن مصاديق التواصل الاجتماعي هو المشاركة في أفراح وأتراح المؤمنين، والحضور الاجتماعي في كل المناسبات العامة.

وشهر رمضان المبارك من أفضل الأوقات لتعميق التواصل الاجتماعي، ومشاركة الناس في مناسباتهم الخاصة والعامة؛ وعلينا أن نحيي هذه القيمة الدينية بعدما تراجعت عما كانت عليه في الماضي بسبب التحولات في حياتنا المعاصرة.

ثالثاً: التكافل الاجتماعي

من سمات المجتمع القوي والمتماسك سمة التكافل الاجتماعي وهو ما يعني قيام المقتدرين مالياً بتقديم يد العون والمساعدة للضعفاء من الفقراء والأيتام والمرضى.. حيث يوجد في كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية أناس يفتقدون القدرة على تلبية حاجاتهم المادية وربما المعنوية أيضاً (19).

وفي التعاليم الإسلامية نجد الحث والتحريض على القيام بمساعدة ومعاونة ودعم الفقراء والأيتام والمحتاجين والمعوزين والمعوقين والمرضى.

فقد حَثَّ ربنا سبحانه وتعالى على مساعدة الأيتام والمساكين والمحتاجين، حيث يقول تعالى : {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ } (20) ويقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل ـ وأشار بالسبابة والوسطى ـ) (21) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : (من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار) (22).

والتكافل الاجتماعي مهم جداً لأنه يقضي على الفقر والجهل والمرض؛ فمساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين وتلبية مستلزماتهم الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح يعد من الحاجات الأساسية التي يجب أن تكون من أولويات العمل التطوعي.

ومن توفيق الله تعالى للمؤمن في هذا الشهر الفضيل أن يتوفق لتخفيف معاناة الفقراء والمحتاجين والأيتام والمساكين، فقد ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه) (23) ويحث رسولنا الكريم على التصدق على الفقراء والمساكين إذ يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم) (24) ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً:(أفضل الصدقة في رمضان) (25).

إن الاهتمام بالفقراء والمحتاجين في هذا الشهر الشريف، ومساعدتهم مادياً ومعنوياً، وتلبية بعض متطلباتهم، وتحقيق بعض حوائجهم، من أفضل الأعمال، وأنبل الصفات التي يجب القيام بها.

كما أن القيام بدعوة الفقراء والمحتاجين إلى وجبة إفطار من الأعمال التي ندب إليها الإسلام، فعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (من فَطَّر مؤمناً في شهر رمضان كان له بذلك عتق رقبة، ومغفرة لذنوبه فيما مضى، فإن لم يقدر إلا على مذقة لبن ففطر بها صائماً أو شربة من ماء عذب وتمر لا يقدر على أكثر من ذلك أعطاه الله هذا الثواب) (26) كما أن التكفل بمؤونة شهر الصيام للفقراء، أو توفير ما يحتاجونه... كلها من الأعمال الصالحة التي ندب إليها الإسلام.

ومتى ما تحقق التكافل الاجتماعي فإن المجتمع سينعم بالاستقرار والأمن الاجتماعي، وسيشعر الجميع بالسعادة، وستقوى أعمدة البنيان الاجتماعي العام.

رابعاً: العطاء الاجتماعي

يتسابق المؤمنون المخلصون في شهر الله للعطاء والفاعلية، والقيام بأدوار اجتماعية كبيرة، وتحمل المسؤوليات الدينية والاجتماعية، ذلك لأن الأعمال في شهر رمضان مقبولة و مضاعفة، فقد ورد عن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب) وفي موضع آخر عن مضاعفة الأعمال فيه (ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره) (27).

ومجتمعنا ـ كأي مجتمع آخر ـ بحاجة مستمرة للعطاء الاجتماعي العام من كل أفراده، فكل واحد منا يستطيع أن يساهم بجزء من مسيرة التقدم والتطور الاجتماعي، والمجتمع بحاجة إلى أناس يعملون أكثر مما يتكلمون، ويبادرون أكثر مما ينتقدون، ويتسابقون في العطاء أكثر مما يتسابقون في الهروب من تحمل المسؤولية.

وشهر رمضان منعطف مهم في حياتنا الاجتماعية نحو التغيير للأفضل، وتحمل أعباء المسؤولية الاجتماعية. فالمجتمع يعاني من مشاكل وأزمات قديمة وجديدة، والمهم هو التفكير في حلها بدل التذمر السلبي الذي لا يحل أي مشكلة؛ بل يعمقها. والمطلوب هو أن نحدث تغييراً حقيقياً في مسيرتنا الاجتماعية بتقديم كل فرد من أفراد المجتمع ما يستطيع من خدمات وطاقات ومواهب لتنصهر في النهاية في بوتقة المجتمع لننير الدرب كي ينمو المجتمع نمواً حقيقياً في مختلف المجالات.

والخلاصة: لنحول شهر رمضان المبارك إلى شهر تغيير في كل شيء، في حياتنا الخاصة، وفي مسيرتنا العامة، ولنعمق قيم التواصل والتكافل والعطاء الاجتماعي في كل زاوية من زوايا مجتمعنا، وفي كل بعد من أبعاده، وبأي شكل نستطيع، وبأي وسيلة نتمكن، فالمهم هو الإنجاز الاجتماعي، وإحداث التغيير نحو الأفضل من أجل بناء مجتمع متقدم ومتحضر.

.....................................
الهوامش:
1- سورة الأنفال: الآية 75.
2 ـ سورة النساء: الآية1.
3 ـ سورة الرعد: الآية 21.
4 ـ بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 32، ص 268، رقم 14.
5 ـ الوسائل، الحر العاملي، ج 21، ص 534، رقم 3.
6 ـ الوسائل، الحر العاملي، ج 21، ص 534، رقم 4.
7 ـ سورة محمد: الآية 22.
8 ـ الخصال، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 179، رقم 243.
9 ـ ميزان الحكمة، ج 3، ص 1057، رقم 7074.
10 ـ ميزان الحكمة، ج 3، ص 1057، رقم 7073.
11 ـ الخصال، الشيخ الصدوق، ج 2، ص 613.
12 ـ أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 159، رقم 9.
13 ـ سورة الحجرات: الآية 13.
14 ـ مداولة البذل، أي العطاء.
15 ـ نهج البلاغة، ج 3، ص 598، رقم 47.
16 ـ بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج71، ص 355، رقم 36.
17 ـ بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 71، ص 353، رقم 26.
18 ـ الوسائل، الحر العاملي، ج 14، ص 586، رقم1.
19 ـ ثقافة العمل التطوعي، ص 13.
20 ـ سورة البقرة:الآية 177.
21ـ -ميزان الحكمة،ج8،ص3708،رقم 22881.
22 ـ بحار الأنوار،ج42،ص248.
23 ـ الوسائل، الحر العاملي، ج 10، ص 314.
24 ـ الوسائل، الحر العاملي، ج 10، ص 313.
25 ـ ميزان الحكمة، ج 4، ص 1599، رقم 10407.
26 ـ بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 93، ص 316، رقم 4.
27 ـ بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 93، ص 356.

اضف تعليق