الأشخاص السعداء يقضون فعلًا وقتًا أكثر في الحديث مع الآخرين، لكنهم لا يقضُون هذا الوقت في ثرثرة فارغة. وإنما يقضُون وقتًا أكثر في إجراء أحاديث مُثمرة وعميقة - وهي عينها نوعية التفاعلات التي نعلم أنها تساعد على بناء علاقات قوية. إنَّ اكتشاف أنَّ أشد الناس سعادة هم الأكثر اشتراكًا...

في عام ١٩٧٤، كانت لورا كارستنسن ذات الواحد والعشرين ربيعًا في طريقها إلى المنزل بعد حفل موسيقي حين انقلب السائق، الذي كان قد احتسى الخمر، بالسيارة على الرصيف. عانت لورا إصابةً بالغةً في الرأس، وعدةَ كسور في العظام، ونَزيفًا داخليًّا، وأمضت شهورًا تتعافى في المستشفى.

بينما كانت مُستلقية في ذلك الفراش وقد أدركت كم دنت من الموت، صارت لورا واعيةً بأن كل الأشياء التي كانت تظنُّ أنها مهمة لها -ما كانت ستفعله بحياتها، وما إن كانت ستصير ناجحة، وما إلى ذلك- صار بلا أهمية بشكلٍ مفاجئ. توضح ذلك بقولها: «المهم هو الأشخاص الآخرون الموجودون في حياتي.»

كان ذلك الإدراك بدايةَ ما سيُصبح عملَ حياتها. فبعد التعافي من الحادث، تلقَّت محاضرات جامعية، ثم واصلت حتى حصلت على درجة جامعية في علم النفس. وهي اليوم أستاذة علم نفس في جامعة ستانفورد. وكما ستعلم أثناء قراءتك، تُعنى أبحاث الأستاذة لورا بتقصِّي الطريقة التي تُؤثر بها أفكارنا عن الوقت المتبقي لنا على قيد الحياة على الأسلوب الذي نمضي به وقتنا.

إذن، ما الذي يُعطيه الناس الأولوية حين يعتقدون أن الوقت يداهمهم؟ العلاقات. لقد أوضحت على امتداد هذا الكتاب العوامل التي تزيد من إحساسنا بالسعادة. ورغم أن هذه العوامل - إنفاق المال على التجارب، وإعطاء الهدايا، وممارسة الرياضة، وسائر تلك الأشياء - تجعلنا بحق أشدَّ سعادة، فإن الباعث الأكبر الأوحد على الرضا عن الحياة هو طبيعة علاقاتنا. فكما يوضح دانيل جيلبرت الأستاذ بجامعة هارفارد: «نشعر بالسعادة حين يكون لدينا أسرة، نشعر بالسعادة حين يكون لدينا أصدقاء، أما سائر الأشياء التي نعتقد أنها تجعلنا سعداء فكلها تقريبًا في الواقع مجرَّد طرقٍ لتقوية علاقاتنا بأسرتنا وأصدقائنا.»

إحدى أوائل الدراسات التي دلَّلت على أهمية إقامة علاقات شخصية وثيقة تقصَّت العوامل الباعثة على رفاه الإنسان من المراهقة وحتى نهاية حياته. كانت النتائج واضحة: كان الباعث الحقيقي والمتواتِر الأوحد على السعادة هو العلاقات. وكما قال الدكتور جورج فاليانت، كبير الباحثين في هذه الدراسة، ثمَّة ركيزتان للسعادة: «إحداهما هي الحب. والأخرى هي العثور على طريقةٍ للتأقلم مع الحياة دون الإطاحة بالحب.» وما زالت الأبحاث اللاحِقة تؤكد هذا الاستنتاج مرة تلو الأخرى.

فلماذا يُعَد استثمار الوقت والطاقة في بناء علاقاتٍ وثيقة والحفاظ عليها هو السبيل الأفضل الأوحد لعيش حياة أطول وأهنأ. إن الحفاظ على علاقات طيبة في حد ذاته لا يجعلنا سعداء؛ فمن الممكن أن تكون لدينا علاقات طيبة ورغم ذلك؛ لأي سبب كان، نشعر بالتعاسة. لكن إذا كنا نفتقر إلى العلاقات الطيبة، فمهما كان ما لدينا، فلن نشعر بالسعادة.

أهمية الأحاديث الهادفة

لديَّ صديقة عزيزة لا أراها كثيرًا، لكننا نتناول الغداء معًا كل بضعة أشهر. وفي كل مرة نجتمع، تكون أحاديثنا حميمة وعميقة - عن طلاق، أو تعثُّر أحد الأبناء في دراسته، أو تشخيص بالسرطان، وما إلى ذلك. كلما اجتمعنا، ولو لساعة أو ساعتين فقط، شعرتُ بترابط ودفء وسعادة بالغة. إن علاقتنا الوثيقة بالآخرين تمنحنا فرصًا للتمتُّع بهذا النوع من الأحاديث العميقة الحقيقية عن الأشياء التي تعنينا. وهذه التفاعلات باعثٌ قوي على الإحساس بالسعادة.

تحرَّى الباحثون في إحدى الدراسات أنماط الحوار لدى ٧٩ رجلًا وامرأة في سن الجامعة على مدار أربعة أيام. ظلَّ المشاركون يَحملون جهازَ تسجيل مُتواريًا في جيوبهم أو حقائبهم، وكان الباحثون يسجِّلون ٣٠ ثانية من كل ١٢ دقيقةً ونصف الدقيقة من الصوت، فجمعوا أكثر من ٢٠ ألف مقطع سمعي من الأصوات في الحياة اليومية للمشاركين.

ثم استمع الباحثون إلى التسجيلات وصنَّفوا عدد الأحاديث التي أجراها كلٌّ من المشاركين. كذلك تحقَّقوا مما إذا كان كل حديث من الأحاديث صادقًا (على غرار: «هل كانت متيمةً بأبيك؟ هل انفصلا سريعًا بعد ذلك إذن؟») أو سطحيًّا (على غرار: «ماذا لديك؟ فشار؟»). كذلك قاسُوا المستوى العام للسَّعادة لدى كل واحد من المشاركين.

وقد كشفت هذه النتائج عن اختلافات بالغة في كلٍّ من كمية تفاعلات الناس ونوعيتها. فأولًا: الأشخاص الذين عُدوا الأكثر سعادة أمضَوا وقتًا أقل بمُفردهم بنحو ٢٥ في المائة ووقتًا أكثر في الحديث مع الآخرين بنسبة ٧٠ في المائة، مقارنةً بالأشخاص الأشد تعاسة. بالإضافة إلى ذلك، كان المشاركون الأكثر سعادة يحظون بضعف عدد الأحاديث العميقة، وثلث عدد الأحاديث السطحية تقريبًا. إذن فإن الأشخاص السعداء يقضون فعلًا وقتًا أكثر في الحديث مع الآخرين، لكنهم لا يقضُون هذا الوقت في ثرثرة فارغة. وإنما يقضُون وقتًا أكثر في إجراء أحاديث مُثمرة وعميقة - وهي عينها نوعية التفاعلات التي نعلم أنها تساعد على بناء علاقات قوية.

إنَّ اكتشاف أنَّ أشد الناس سعادة هم الأكثر اشتراكًا في أحاديث مثمرة لهو اكتشاف بالغ الأهمية في عالم اليوم، حين نضع في الاعتبار الاعتماد الشديد على التكنولوجيا كنوع من أنواع التواصل. حيث لا «يتواصل» الكثير من الناس إلا بمقتطفات موجزة عن طريق الرسائل والتغريدات. هل سبق أن أجريت يومًا حديثًا مع شخص في نفس الوقت الذي كان يرسل فيه رسالة أو يتفحَّص بريده الإلكتروني؟ هذا النوع من الأحاديث ليس صادقًا. وكما سأوضح لاحقًا، فإن مجرد وجود الهاتف المحمول يُضعف من مستوى جودة أحاديثنا.

لماذا تجعلنا الأحاديث الهادفة في حالة طيبة؟ إنها تمنحنا الدعم الاجتماعي - إذ يطيب لنا أن نشعر بأن هناك مَن يُحبنا ويحترمنا. كما أنها تُتيح لنا أن نكون على طبيعتنا، أن نكون صادقين. وكما أوضحت، صارت العديد من أحاديثنا العابرة أقل صدقًا؛ لأنَّنا غالبًا ما نُعطي صورًا مثالية عن ذواتنا، مُقتصِرين على الإفصاح عن الجوانب الإيجابية فقط من حياتنا. أما التفاعل مع الأشخاص المُقربين، الذين يستحسِنوننا ويسمحون لنا بأن نكون على طبيعتنا بحق، فله أثرٌ طيب للغاية في النفس.

مع أن الأبحاثَ تُؤكِّد بقوة قيمةَ الأحاديث العميقة، فإن حتى التفاعلات الشخصية الموجزة مع الغرباء من الممكن أن تزيد المشاعرَ الإيجابية. وبالمثل، الأشخاص الذين يُفيدون بدخولهم في تفاعُلات عابرة أكثر مع الآخرين - كأن يُحيُّوا موظَّفًا في متجر، أو يتحدَّثوا حديثًا عابرًا مع زملاء العمل أو الجيران، أو غير ذلك - في أحد الأيام يعربون عن إحساسهم بقدرٍ أكبر من الانتماء والسعادة.

في إحدى الدراسات، رشا الباحثون الناسَ في المواصلات العامة -بقسائم مشترياتٍ قيمتها خمسة دولارات لستاربكس- لبدء حديثٍ مع شخص غريب. كان راكبو الحافلات والقطارات هؤلاء مُتردِّدين في البداية إزاء الاشتراك، من ناحية لأنهم افترضوا أن الغرباء لن يكونوا مرحبين تمامًا لمبادرتهم. إلا أن أغلب الناس كانوا مسرورين بإجرائهم حديثًا عابرًا مع شخص غريب عنهم. عِلاوةً على ذلك فإن الناس التي أجْرت تلك الأحاديث أفادت فيما بعدُ بدرجات أعلى من السعادة عن أولئك الذين اكتفَوا بالجلوس وحدَهم.

يبدو جليًّا أن أيَّ نوع من الترابط الإنساني - بما في ذلك التواصل مع شخص غريب عنَّا - من الممكن أن يمنح إحساسًا بالتفاعل الشخصي الذي يزيد المشاعر الإيجابية. من ثَم فإن من الطرق البسيطة التي تعزِّز مشاعرَ السعادة - سعادتنا وسعادة الآخرين - أن نحاول إجراء تلك التفاعلات. لذلك فلتهتمَّ بالابتسام للغرباء، وإجراءِ الأحاديث القصيرة أثناء انتظارك في الطابور، وتبادل التحيات مع الجيران وزملاء العمل. فحتى هذه اللحظات القصيرة من التفاعل من الممكن أن تجعلنا - وتجعلهم - في حالٍ أفضل.

للحكي أثرٌ طيِّب في النفس

تُتيح لنا العلاقات أن نحكي عن التجارب الإيجابية في حياتنا، وهو ما يجعل هذه الأحداث الطيبة أفضلَ أثرًا في النفس. فنحن نتَّصل بالأشخاص الذين يُهمنا أمرهم - والذين يهمهم أمرنا - لنحكي لهم أخبارنا، سواء كانت عروضًا وظيفية، أو قبولًا في جامعة، أو خطوبة، أو مولودًا جديدًا. وهذا النوع من البوح يزيد السعادة التي نشعر بها.

للتحقُّق من هذه العلاقة بين الحكي والسعادة، طلب الباحثون أولًا من الناس أن تدلي بدرجةِ ميلها عامةً للحكي عن تجاربها الإيجابية للآخرين. أفاد بعضُ الأشخاص بأن لديهم ميلًا عامًّا لأن يَحكُوا عن تلك التجارب، واصفين أنفسهم بأنهم «من نوع الأشخاص الذين يُحبُّون البوحَ للآخرين حين يحدث لهم شيء طيب.» أفاد أناسٌ آخَرون بأن لديهم ميلًا أقلَّ للبوح، قائلين: «عادةً ما أحتفظ بفرحتي متكتمًا عليها ولا أبوح بها كثيرًا.»

بعد ذلك، ظلَّ جميع المشاركين في هذه الدراسة يدوِّنون يومياتهم طَوال أربعة أسابيع. شملت هذه اليوميات تقييمًا للحالة المزاجية وكذلك الرضا عن الحياة على مدار الوقت، بحيث يستطيع الباحثون أن يروا كيف تغيَّرت هذه المعايير مع الوقت. وكما تبيَّن، فإن الأشخاص الذين أفادوا بميلٍ أكثر لأن يحكوا الأخبار الطيبة للآخرين أبدَوا كذلك ارتفاعًا في الحالة المزاجية الإيجابية والرضا عن الحياة بوجهٍ عام على مدار الوقت.

العلاقات أيضًا تمنحنا فرصًا لأن نتقاسم التجارب - وفعلُ شيء مع شخصٍ يهمنا أمرُه يجعلنا أكثر سعادة عما إذا انفردنا بالتجربة. من ثَم فإنك قد تستمتع بمشاهدة فيلم رائع وأنت جالس بمفردك في السينما أو حجرة الجلوس في بيتك. لكن مشاهدة الفيلم نفسِه مع صديقٍ ربما يعزِّز استمتاعك بالتجربة. وكما قالت الكاتبة شارلوت برونتي: «السعادة التي لا نتقاسمها على الاطلاق قلما يمكن أن نسميها سعادة؛ فليس لها مذاق.»

في تجربةٍ بسيطة للدلالة على أثرِ تقاسُم التجارب، طلب الباحثون من المشاركين الاشتراك في نشاطٍ ممتعٍ جدًّا: تذوُّق شوكولاتة وتقدير جودتها. أتم نصف الناس الذين في هذه الدراسة النشاط بمفردهم. كذلك تذوَّق النصف الآخر الشوكولاتة وقدَّر جودتها، لكنهم فعلوا ذلك في نفس الوقت مع شخصٍ آخر (غريب عنهم). لم يكن على أيٍّ من هؤلاء الناسِ الاتفاقُ في تقديراتهم مع الشخص الآخر، لكن كلاهما تذوَّق أنواع الشوكولاتة المختلفة في الوقت ذاته، ثم باشر كلٌّ منهما تقييمه على حدةٍ لهذا النوع من الشوكولاتة (من حيث مدى حدَّتها، ولذَّتها، وكم أحبَّها). وحتى في هذا التصميم الشديد البساطة، الأشخاصُ الذين تسنَّت لهم فرصةُ تقاسُم تجربة تقييم الشوكولاتة مع شريكٍ أبدَوا قدرًا أكبر من حبهم للشوكولاتة عن أولئك الذين قيَّموها وحدَهم.

لكن من المشكلات التي تشوب الدراسات التي شرحناها حتى الآن أنها لا تتحقَّق مما إن كانت المشارَكة تحديدًا هي ما تساعد على تحسين الحالة المزاجية، أم إنَّ مجرَّد التفكير في الأشياء الإيجابية -حتى إن لم نشارك تلك الأشياء- يحسِّن الحالة المزاجية. من ثَم فإنه للتحقُّق من هذه المسألة الهامة، طلب باحثون في دراسة أخرى من المشاركين أن يدوِّنوا يومياتهم على مدارِ بضعة أسابيع حيث يتأمَّلون «الأشياء التي يشعرون بالامتنان لها» ويدوِّنونها في نهاية كل مساء. نصف هؤلاء الأشخاص كانوا يدوِّنون هذه اليوميات فحسب؛ أما الآخرون فطُلب منهم أن يدوِّنوا اليوميات ويحكوا التجارب لصديقٍ مرتين أسبوعيًّا على الأقل.

وقد أعطت النتائجُ التي توصَّلوا إليها دليلًا قويًّا على أن المشاركة تجعلنا في حالٍ أفضل؛ فالناس التي باحت بالأشياء التي يشعرون بالامتنان عليها مع صديقٍ كانوا أكثرَ سعادة ورضًا عن الحياة مقارنةً بأولئك الذين كانوا يدوِّنون هذه الأشياء فقط دون أن يبوحوا بها.

* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية

اضف تعليق