عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث حلقة نقاشية تحت عنوان "الامن الفكري والعولمة الثقافية بين الانفتاح اللامحدود والانغلاق المطلق"، إستضاف فيه الباحث الاكاديمي احمد الزيرجاوي رئيس قسم علم النفس في جامعة كربلاء وحضرها مجموعة من الباحثين والاكاديميين المهتمين بهذا الشأن.
قدم الحلقة النقاشية مدير المركز حيدر الجراح مستهلاً حديثه بمقدمة وضح فيها مصطلح "الأمن الفكري" وأبعاده في الثقافة العربية.
الأمن الفكري: (هو شعور الفرد والجماعة بحماية المنظومة الفكرية، والاطمئنان في ممارستها) ويقصد بالمنظومة الفكرية: كل خصوصيات الجماعة الدينية والثقافية والقيمية والقومية والأخلاقية، وغير ذلك مما تشعر الجماعة بأنه يخصها ويجمعها، وتحرص عليه.
من الناحية الاصطلاحية يُعرف بأنه: (النشاط والتدابير المشتركة بين الدولة والمجتمع لتجنيب الأفراد والجماعات شوائب عقدية أو فكرية أو نفسية تكون سبباً في انحراف السلوك والأفكار والأخلاق عن جادة الصواب أو سبباً للإيقاع في المهالك).
كما يُعرف على أنه حماية فكر المجتمع وعقائده من أن ينالها عدوان أو ينزل بها أذى.. لأن ذلك من شأنه إذا حدث أن يقضي على ما لدى الناس من شعور بالهدوء والطمأنينة والاستقرار ويهدد حياة المجتمع.
كما أنه يُفسر بأنه (حماية عقل الإنسان وفكره ومبتكراته ومعارفه ومنتجاته ووجهات نظره وحرية رأيه من أي مؤثر سواء من قبل الشخص نفسه أو من قبل الغير)، كما يُفسر البعض بأنه (سلامة فكر الإنسان وعقله وفهمه من الانحراف والخروج عن الوسط والاعتدال في فهمه للأمور الدينية والسياسية وتصوره للكون بما يؤول به إما إلى الغلو والتنطع أو إلى الإلحاد والعلمنة الشاملة).
للعولمة مجالات متعددة، اقتصادية وسياسية وثقافية وإعلامية وغيرها، فالاقتصادية: تظهر في عمق الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصاديات القومية وفي وحدة الأسواق المالية وفي عمق المبادلات التجارية في إطار لا حماية فيه ولا رقابة وأبرز شيء في ذلك إنشاء منظمة التجارة الدولية وهنا تثار مشكلة " أزمة الدولة القومية " ودور الدولة في العولمة الاقتصادية.
السياسية: تتجلى في سقوط الشمولية والسلطة والنزوع إلى الديمقراطية والتعددية السياسية والمشكلة حول الديمقراطية أهي نظرية غربية خالصة أم لثقافات المجتمعات العالمية تأثير عليها؟، وهل هناك إجماع على احترام مواثيق حقوق الإنسان؟.
والعولمة الثقافية تكمن في أن الثقافة العالمية قضاء على الهوية والخصوصية الثقافية.
والعولمة الإعلامية تدور حول البث التلفزيوني من خلال الأقمار الصناعية وحول شبكة الانترنت التي تربط البشر في كل أنحاء المعمورة.
عولمة الثقافة:
وقد تقدم أن مجال الثقافة أحد مظاهر العولمة وجوانبها، وهي ما أطلق عليه البعض بنظام التحكم الاجتماعي في سوق المجتمعات.
وتتفق كلمة عدد من الباحثين على أن الثقافة من اخطر الأوجه الحضارية المتأثرة بظاهرة العولمة، ويقول د.سيار الجميل " لم ينحصر الأمر في الاقتصاديات المعولمة بل طالت وبسرعة شديدة ونسبية عالية هذه العولمة ثقافات الشعوب وقيمها وعاداتها وتقاليدها"
يُستخدم مفهوم العولمة لوصف كل العمليات التي بها تكتسب العلاقات الاجتماعية نوعًا من عدم الفصل (سقوط الحدود) وتلاشي المسافة؛ حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد -قرية واحدة صغيرة- ومن ثم فالعلاقات الاجتماعية التي لا تحصى عددًا أصبحت أكثر اتصالاً وأكثر تنظيمًا على أساس تزايد سرعة ومعدل تفاعل البشر وتأثرهم ببعضهم البعض. وفي الواقع يعبر مصطلح العولمة عن تطورين هامين هما: التحديث، والاعتماد المتبادل.
العولمة الثقافية: هي محاولة مجتمع ما تعميم نموذجه الثقافي على المجتمعات الأخرى من خلال التأثير على المفاهيم الحضارية، والقيم الثقافية، والأنماط السلوكية لأفراد هذه المجتمعات بوسائل سياسية مختلفة وتقنيات متعدّدة".
الهوية الثقافية والعولمة:
لعل أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الهوية العربية هو الخصوصية الذاتية والتفرد بصفات وخصائص معينة تعكس هذه الخصوصية وتميز هذه المجتمعات عن بعضها ففي ظل التوجه إلى العالمية نجد أن هناك توجها جديدا نحو تحديد الهوية فعند تحول الفرد إلى العالمية يحاول أن يؤكد هويته وشخصيته المميزة فالهوية تظهر في كل مكان وتؤكد على محورها في كل المجتمعات التي أصبحت مقسمة إلى مجموعات متعددة وسط كل هذا فهناك دول تختفي في الوقت الذي نجد فيه دولا تؤكد على هويتها وتزدهر على المستوى العالمي.
إن التحول الذي أصاب المجتمعات العربية هو الانتقال من الوحدة الى التعدد الذي أصبح الهدف العالمي فقد أصبح الإختلاف المعترف به الوحدة التي يعترف بها من خلال النظر إلى الاختلافات ومن خلال وضع التميزيات في الاعتبار.
إن السبب الوحيد في هذا التحول هو ما خلقته الهوية من أهمية متنامية دائما على الساحة العالمية، فكل ما يسمى الأمة فهو يمس الهوية الثقافية وتجسيدها التاريخي.
وباعتبار الهوية الثقافية القومية هي الهوية المشتركة لجميع أبناء الوطن العربي لا يعني هذا إلغاء وإقصاء الهويات الوطنية ولا يعني أيضا فرض نمط ثقافي معين من الأنماط الثقافية المتعددة الأخرى، فالوظيفة التاريخية لهذه الثقافة هي وظيفة التوحد المعنوي والروحي والعقلي والارتفاع بالوطن وإيجاد أسباب الانفتاح على الثقافة والهوية الخارجية فكل التحولات والتغيرات ترتكز في البنى الاجتماعية التي تعيش في أطر إقليمية محددة وبالتالي يكون التساؤل عن كيفية حدوث هذا التغير في الهوية والبنى الاجتماعية.
إن البلدان العربية في حاجة إلى آليات السيطرة الاجتماعية اللازمة لإدارة العلاقات الاجتماعية وإعادة إنتاجها بها وهذا يمكن أن يخرجها من مأزق اللاتاريخية التي لازمتها في هذا العصر فالقول بوجود خصوصية في هوية مجتمع ما في مسار تطور هذا المجتمع لا بد أن تنطلق من معاينة وبرهان دقيقين.
وتتميز المجتمعات العربية بخصائص الحضارية طبعت ولا زالت موجودة في ظل التأثيرات الحادثة، وهذا لا ينطبق على المجتمعات الغربية التي يتم فيها الخلط بين العمليات التاريخية الموضوعية والسياسات الثقافية التي تنتج مجالات للاختيار والمفاضلة ومن هنا يجب إدراك عدم وجود التفاوتات بين الأقاليم المختلفة داخل البلد الواحد وجعل لكل منها هوية وخصوصية محددة، لأن المنتمين إلى هويات متماثلة يمثلون إلى العريش في منطقة واحدة، فالتنوع لا يبطل الوحدة العربية.
ولهذا فإن التمسك بالهوية القومية هو وصف المخزون النفسي المتراكم من الموروث وتفاعله مع الواقع. فانتقال المجتمع من مرحلة إلى أخرى لا يعني أنه أحدث قطيعة أو انفصال عن الماضي، بل يعني استمرار الحضارة، ولكن على أساس احتياجات هذا العصر وبالتالي فإن قضية الحفاظ على الهوية قضية كفيلة بإظهار وجودنا الثقافي في المعترك الحياتي واكتشاف جذورنا والتمسك بهويتنا.
إذن فتبني العولمة يؤدي إلى تحطيم القيم والهويات التقليدية للثقافات الوطنية والترويج للقيم الاستهلاكية ويمكن تلخيص ما سبق من آثار الثقافة المعولمة على هويتنا الثقافية العربية فيما يلي:
1- التبادل اللامتكافئ بين العناصر الثقافية إذ يكون التبادل أحادي الاتجاه مما يخلق مشكل الخصوصية في ظل شمولية الاتصال.
2- الغزو الثقافي والذي يظهر استمرار آليات التي تحقق السيطرة وامتداد فعاليتها في شكل قوة تغلغل في مجتمعاتنا التي تقف موقف الجمود أمام التغيرات التي تحدث داخلها، الأمر الذي ينمي الإحساس بالتهميش والاستلاب من الثقافة الأصلية وتنامي الإحساس بفقدان هويتنا الوطنية القومية.
3- التبعية الثقافية من خلال اعتماد ثقافاتنا على ثقافات الأخرى في إنتاج وتطوير ثقافاتها وتتمثل هذه التبعية في عدة مظاهر منها إحلال قيم وعادات وأنماط سلوكية محل القيم السائدة في هذه المجتمعات حيث تظهر التبعية في المجتمع التابع كمجتمع مهشم ومتناقض يسوده التفكك وعدم الأصالة.
4- الإمبريالية الثقافية والتي تشير إلى الثقافة المسيطرة من خلال ما تمارسه الثقافة المتقدمة من هيمن على الثقافات المتخلفة والتابعة فتحتل هذه الهيمنة كانت إعلامية أم تكنولوجية مواقع أساسية في ثقافتنا من خلال فرض قيمها وأنماطها السلوكية.
5- التسمم الثقافي ويتم من خلال نفي الدور العربي ومحو الشخصية الثقافية للأمة العربية عن طريق التشكيك بقيمة الثقافة العربية وإبراز وجهها السلبي وإحياء الثقافات الغربية لكسر وجودنا الثقافي وإبراز أزمة الهوية الثقافية [نظام محمود بركات.
– من خلال لكل هذه الآثار التي تفرزها العولمة الثقافية على ثقافتنا وخصوصيتنا يتنامى الإحساس يوما بعد يوم بفقدان الهوية في مجتمعاتنا فالفرد المعاصر أصبح يخسر قنوات الاتصال بجذوره وعاداته وهويته في عالم أصبحت وسائل الإعلام إن لم نقل الهيمنة الإعلامية تنقل إلينا يوميا عادات دخيلة على مجتمعاتنا تهدد بتهميش ثقافاتنا المحلية ومحو وجودنا الثقافي في المعترك الحياتي.
الامن الفكري والخروج الى الوسطية
من جانبه قدم الدكتور أحمد الزيرجاوي ورقة بحثية تحت عنوان "الامن الفكري والعولمة الثقافية بين الانفتاح اللامحدود والانغلاق المطلق" بيّن فيها معنى مصطلح الامن الفكري حيث انه سلامة فكر الفرد من الانحراف والخروج الى الوسطية، الوسطية التي أكد عليها القرآن الكريم ورسولنا الكريم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.
أو هناك تعريف آخر للأمن الفكري على أنه "حالة الاطمئنان على اصول وثوابت الفرد من قيّم ومباديء.
مظاهر العولمة التي دخلت الى مجتمعنا من وسائل تواصل حديثة وانترنت وفضائيات بصورة مفاجئة بعد عزلة طويلة من حكم الاستبداد الفكري أثرت بشكل سلبي على سلوكيات الافراد وهددت جانب الامن الفكري بصورة مباشرة بسبب الانفتاح اللامحدود.
نتحدث هنا فقط عن "العولمة الثقافية" أي البشرية ضمن قرية واحدة أو مجتمع كوني لا يفصله حدود فكرية وثقافية فوسائل الاتصال الحديثة عبرت الحدود الجغرافية بين الدول لتخترق البيوت من خلال اجهزة صغيرة، فمن الطبيعي أن يتأثر الامن الفكري لكل انسان بفضل هذا الانفتاح اللامحدود إذا لم يكن محصناً بشكل قوي بأفكار وثقافة مجتمعه ودينه، والانغلاق المطلق كذلك يسبب مشكلة في فهم الآخر والتعامل معه وفق عالم اليوم لذلك دائماً ما ركز الاسلام المحمدي على مبدأ الوسطية والاعتدال.
الأفكار الشاذة التي تدخل الى مجتمعاتنا عن طريق التلفزيون والانترنت ونسمع بين الفينة والأخرى عن تطبيق لهذه الافكار الهدامة وهذا الشيء يعود الى ضعف الامن الفكري للفرد الذي لا بد أن يكون قوياً و محصناً، من يمتلك أمنا فكريا عاليا سيكون مستعدا لمواجهة التحديات الثقافية دون أن يغير معتقداته وسلوكياته والعكس صحيح، فالإنسان دوماً مخيّر في اختيار طريقه وتحديد سلوكياته.
كذلك هناك بعض الاعراف التي هي سائدة في مجتمعاتنا ليس بالضرورة تكون صحيحة أو ايجابية والانفتاح على العولمة الثقافية في هذا الباب سيكون ايجابيا لذلك الانغلاق المطلق هو ظاهرة سلبية بامتياز ونعود ونكرر على مبدأ الوسطية والاعتدال.
لذلك من أهم ما نوصي فيه في هذا الموضوع "يحتاج رب الأسرة الى الجلوس مع ابناءه والحديث معهم وزرع العادات والتقاليد الحميدة في مجتمعنا في نفوسهم، وعدم تركهم فريسة للأفكار الشاذة التي تنتقل عبر الفضاء الواسع دون حصانة فكرية".
المداخلات:
بعد ذلك فتح باب النقاش أمام المشاركين بالحلقة النقاشية حيث ابتدأ الحديث أحمد وحيد – ناشط وحقوقي، يجب اعطاء المجال للشباب بطرح الافكار بحرية ودون قيود ابتداءاً من البيت والمدرسة والجامعة حتى لا يكونوا في انغلاق فكري تام يجعلهم يعيشون خارج عالم اليوم.
كذلك نرى أن بعض الجماعات المنتمية للاسلام والتي تدعو الى مقاطعة الغرب بشكل تام والتقاطع معه بل تتقاطع مع المسلمين انفسهم وتكفرهم يستفيدون بنفس الوقت من التقنيات الحديثة لتشويه الاسلام والمسلمين عن طريق العمليات الارهابية والافلام الدعائية وتدخل ضمن الاستخدام السيء للعولمة الثقافية.
فيما اضاف حامد عبد الحسين – باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية، هل نستطيع تحقيق الامن الفكري من خلال قوانين تفرضها الدولة على وسائل التواصل مثلا؟
بعض الأسر في مجتمعاتنا تعاني التفكك أو سوء الادارة من قبل الابوين ففي هذه الحالة كيف نوجه رب الأسرة والذي بالنتيجة سينقل السلوكيات السيئة الى ابناءه؟
حسام السريح – مصور تلفزيوني تحدث عن اضافة مناهج دراسية تحث على الاخلاق وتنمية روح التعاون والمحبة بين الناس منذ الصغر وزرعها في نفوس الاطفال حتى نحصل على مجتمع محصن فكرياً وثقافيا.
أجاب الدكتور الزيرجاوي على تساؤلات الحضور مضيفاً اننا اليوم لا نحتاج الى كتب ومناهج دراسية تحث على الاخلاق بشكل نظري فقط لن تؤدي الى نتائج مثمرة، حيث يفضل اليوم استخدام تجارب عملية وحقيقية عن التعامل بين الطلبة فيما بينهم وفتح حلقات النقاش بحرية بينهم كما يكون الاستاذ فقط مديرا لهذه الجلسات، هذه الجلسات الفكرية النقاشية تنمي عقل الطلبة وكذلك تجسد لديهم ابداء الرأي وتقبل الآراء المضادة وهكذا سيكون لدينا جيل محصن فيما لو أضاف لنفسه مخزونا فكريا وثقافيا من تراثنا الاخلاقي والعلمي الكبير.
نعول كثيراً على الشباب في الانفتاح على الآخرين ومحاولة فهم الآخر عن طريق الاستثمار الامثل للعولمة الثقافية، وتنمية الامن الفكري وقيم المواطنة وعلاقتها بالتماسك الاجتماعي.
اضف تعليق