كريستين لاجارد
يشارك قادة العالم اليوم في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بينما تظل هناك مشاهد مأساوية لا تنتهي لمدن تمزقها الحروب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وسكان ينزحون منها في خروج جماعي كبير باحثين عن الملاذ وفرص الرزق.
وفي داخل المنطقة، هناك أكثر من 20 مليون نازح، إضافة إلى عشرة ملايين من اللاجئين ـــــ وهي أعداد غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولهذه الصراعات تكاليف إنسانية جسيمة يصعب الإحاطة بها. ولها عواقب اقتصادية وخيمة أيضا. فقد دمر جانب كبير من رأس المال المنتج في مناطق الصراع، وهناك خسائر فادحة في الثروة والدخل الشخصي، كما أن رأس المال البشري يتدهور مع الافتقار إلى الوظائف والتعليم.
وسيدعى الصندوق والمجتمع الدولي إلى المساعدة في إعادة بناء الاقتصاد بمجرد انتهاء الصراع. ولذلك فقد نظرنا بمزيد من العمق في التحديات التي جلبتها هذه الصراعات وفي الخيارات المتاحة لصناع السياسات من أجل إدارة التعافي بعد انتهاء الصراعات.
وأود تسليط الضوء على ثلاثة استنتاجات نشرت ضمن تقرير أعده مختصو الصندوق.
أولا، أن للصراعات تكاليف اقتصادية جسيمة: إضافة إلى الخسائر المأساوية في الأرواح والدمار المادي، أدت الحروب والصراعات الداخلية في بلدان مثل العراق وليبيا وسورية واليمن إلى تفاقم أوضاع الفقر والبطالة العصيبة بالفعل ودفعت البلدان إلى حالة من الهشاشة انمحت معها مكاسب التنمية السابقة لجيل بأكمله. فعلى سبيل المثال، بلغت معدلات التسرب من المدارس السورية 52 في المائة في عام 2013 وهبط متوسط العمر المتوقع إلى 56 عاما بعد أن كان 76 عاما قبل بداية الصراع.
كذلك أدت الصراعات إلى زيادة التضخم، وإضعاف أوضاع المالية العامة والقطاع المالي، وتسببت في حالات ركود عميق وتخريب للمؤسسات. فعلى سبيل المثال، بعد أربع سنوات من القتال الكثيف، يقدر الإنتاج الحالي في سورية بأقل من نصف مستواه في عام 2010 قبل بدء الصراع، بينما سجل التضخم ارتفاعا حادا بنسبة تقارب 300 نقطة مئوية في مايو 2015، وهو آخر شهر تتوافر عنه بيانات. وفي اليمن، خسر إجمالي الناتج المحلي ما يقدر بنحو 25 - 35 في المائة في عام 2015 وحده. وكلها أرقام مذهلة بسبب الصراعات التي تترك آثارا عميقة في الاقتصاد. وتشير تقديراتنا إلى أن الأمر سيستغرق من سورية أكثر من 20 عاما لمجرد الوصول بإجمالي الناتج المحلي إلى مستواه السابق على الصراع في عام 2010، حتى إذا حققت معدل نمو سنوي مرتفعا نسبيا قدره 4.5 في المائة.
لكن تأثير الصراعات غير محصور داخل الحدود الوطنية. فهناك تداعيات قوية تنتقل إلى البلدان المجاورة مثل الأردن ولبنان وتونس وتركيا، وأبعد منها وتتعرض هذه البلدان بدرجات متفاوتة للتحديات المصاحبة لاستضافة أعداد كبيرة من اللاجئين، وتراجع مستوى الثقة والوضع الأمني، وضعف التماسك الاجتماعي. وكل هذا يؤثر في جودة المؤسسات وقدرتها على القيام بالإصلاحات الاقتصادية التي تعتبر ضرورة ملحة. وهناك استنتاج مهم ثان خلصت إليه الدراسة، وهو أن السياسات الملائمة يمكن أن تحد من التأثير الآني للصراعات. ويعني هذا:
حماية المؤسسات الاقتصادية: فقد أوضحت التجارب أن الحفاظ على كفاءة عمل المؤسسات الحكومية الأساسية في أوقات الصراع ــ مثل الوكلاء الماليين والبنوك المركزية ــ يشكل عاملا أساسيا في الحفاظ على الخدمات الحيوية للمواطنين. فهذه المؤسسات توفر لهم الأجور والرواتب، والخدمات الصحية وغيرها من الخدمات.
تحديد أولويات الإنفاق: ترتبط الصراعات بزيادة الضغوط على المالية العامة، حيث يزداد الإنفاق على الأغراض الأمنية والعسكرية في الوقت الذي تتراجع فيه الإيرادات الحكومية. وفي مثل هذه البيئة السائدة، يصبح تحديد أولويات الإنفاق أمرا بالغ الأهمية لضمان الحفاظ على الخدمات الضرورية، مثل المأوى، لحماية الشرائح محدودة الدخل.
ضمان الاستقرار الاقتصادي الكلي: ففي فترات الصراع، تزداد الاختلالات في المالية العامة والحسابات الخارجية، وغالبا ما تضطلع البنوك المركزية بدور أكبر في تمويل الحكومات وتيسير النشاط الاقتصادي ــــ مثلما حدث في ليبيا واليمن. ونظرا لما يسببه ذلك من ارتفاع في التضخم وفقدان لاحتياطيات النقد الأجنبي، قد يتطلب الأمر استخدام أدوات غير تقليدية واتخاذ إجراءات إدارية للحفاظ على درجة من التحكم في الاقتصاد الكلي.
ثالثا، على الشركاء الخارجيين، بما فيهم الصندوق، دور يؤدونه في مساعدة هذه البلدان على مواجهة الصراع والتغلب عليه في نهاية المطاف. وتعطى الأولوية القصوى لتخفيف المعاناة الإنسانية وتلبية الاحتياجات العاجلة للمتأثرين بالصراعات.
وقد كان الصندوق شريكا مهما في هذه الجهود ــ عن طريق مراعاة المصروفات ذات الصلة باللاجئين أو الاحتياجات الأمنية في برامجنا مع العراق والأردن وتونس، وكذلك من خلال المشورة التي نقدمها بشأن السياسات وأنشطتنا في مجال بناء القدرات على مستوى المنطقة.
ونأمل أيضا أن نحفز المانحين على تقديم دعم إضافي للبلدان التي تستضيف اللاجئين. وقد تعهد المانحون في مؤتمر لندن الذي عقد في فبراير الماضي لدعم سورية وبلدان المنطقة بتقديم تمويل للأنشطة الإنسانية والإنمائية في حدود 5.9 مليار دولار أمريكي في 2016 و5.5 مليار دولار أمريكي في الفترة 2017 ــ 2020. حتى إذا تحققت هذه التعهدات، فلن تكفي للوفاء بالاحتياجات المطلوبة نظرا لضخامة الأزمة. وإضافة إلى ذلك، ينبغي أن يأتي أي تمويل في هذا السياق من خلال المنح والقروض الميسرة لتخفيف العبء المالي عن البلدان المتلقية.
وعلى المدى الأطول، تصبح الأولوية هي توفير مزيد من المساعدات الإنمائية للإسهام في إعادة بناء البنية التحتية والمؤسسات، وتعزيز الصلابة الاقتصادية والاجتماعية عبر بلدان المنطقة بشكل أعم. وهنا أيضا يقف الصندوق على استعداد للمساعدة بمجموعة أدواته الاقتصادية الكلية وخبرته المكتسبة من سنوات طويلة من العمل في مناطق ما بعد الصراعات حول العالم.
إن على المجتمع الدولي مسؤولية كبيرة في مساعدة بلدان المنطقة على تجاوز هذه الأزمة. ونحن على استعداد لتحمل نصيبنا من المسؤولية.
اضف تعليق