q
استقر رأي العلماء حتى وقت قريب على أن فكرة تمتع البعض بقدرة استثنائية على تحليل شخصيات الآخرين هي محض خرافة. إذ أشارت أدلة إلى أن معظم الناس يتمتعون بشيء من الفراسة، وأن هذه المهارة تختلف بالكاد من شخص لآخر. غير أن دراسة جديدة أجبرت الباحثين...
كريستيان جاريت-صحفي علمي

 

خلص بحث حديث إلى أن بعض الناس أقدر من غيرهم على فهم شخصيات الآخرين وتحليلها بدقة، لكن في حالات معينة.

تزخر القصص الخيالية بالأشرار والأبطال ذوي القدرات الخارقة الذين يستطيعون الكشف عن خبايا نفوس الآخرين، مثل شخصية هانيبال ليكتر، وشرلوك هولمز.

على أرض الواقع، يظن الكثير من الناس، ومنهم بعض الزعماء، أنهم يمتلكون هذه المهارة. وطرح كثيرون أسئلة على بعض مواقع الأسئلة والإجابات على الإنترنت من قبيل: "أشعر أنني أستطيع قراءة أفكار الآخرين ومشاعرهم، وكأنهم كتاب مفتوح، فهل هذا طبيعي؟".

لكن هل يمتلك أي منا حقا قدرات استثنائية في ما يتعلق بالحكم على الآخرين من أول مرة؟

يطلق علماء النفس على الأشخاص الذين يجيدون الحكم على الآخرين بمجرد النظر إليهم لقب "حكام مهرة"، ويبحثون منذ ما يربو على قرن من الزمن عن أدلة تثبت أو تنفي وجود هؤلاء الأشخاص.

واستقر رأي العلماء حتى وقت قريب على أن فكرة تمتع البعض بقدرة استثنائية على تحليل شخصيات الآخرين هي محض خرافة. إذ أشارت أدلة إلى أن معظم الناس يتمتعون بشيء من الفراسة، وأن هذه المهارة تختلف بالكاد من شخص لآخر.

غير أن دراسة جديدة أجبرت الباحثين على إعادة النظر في هذا الرأي، إذ أثبتت بالأدلة أن بعض الأشخاص أقدر من غيرهم على فهم شخصيات الآخرين وتحليلها بدقة، لكن مهاراتهم لا تتجلى بوضوح إلا إذا كان الشخص المستهدف يعبر بصدق عن مشاعره وأفكاره، ويظهر أدلة وعلامات قوية يستدلوا بها على شخصيته.

وكتبت كاثرين روجرز، من جامعة تينيسي بمدينة شاتانوغا، وجيريمي بيسانز من جامعة بريتيش كولومبيا: "خلاصة القول إن التقارير التي أنكرت وجود أشخاص يتمتعون بقدرات فائقة على تحليل شخصيات الآخرين من الوهلة الأولى، أو دحضت الأدلة التي تؤكد وجودهم، كانت مليئة بالمبالغات".

ونشر عالم النفس الأمريكي هنري إف آدامز أولى الدراسات لإثبات وجود أشخاص يجيدون الحكم على الآخرين في عام 1927. وشارك في الدراسة ثمانية فرق، يضم كل فريق عشر شابات يعرفن بعضهن معرفة وثيقة، وطلب من كل شابة أن تقيّم شخصية الأخرى، ثم تقيّم بعد ذلك شخصيتها.

وجمع آدامز متوسط الدرجات التي حصلت عليها كل متطوعة في مقياس الشخصية وفقا لتقييم المشاركات الأخريات لشخصيتها، ثم أجرى مجموعة حسابات للبحث عن المشاركات اللائي يتمتعن بقدرات استثنائية على فهم وتحليل الآخرين أو شخصياتهن بدقة.

واكتشف آدامز أن الأشخاص الذين يجيدون الحكم على الآخرين قد لا يستمتعون بالضرورة بصحبتهم. ويقول آدامز إن هؤلاء الأشخاص بالرغم من سرعة بديهتهم وذهنهم المتقد، فإنهم في الغالب "سريعو الغضب والانفعال، ومتجهمون ومتقلبو المزاج، ولا يتحلون بالشجاعة الكافية".

ويرى آدامز أن الأشخاص الذين يجيدون الحكم على الآخرين أنانيون، ويتخذون من الآخرين وسيلة لتحقيق أهدافهم الخاصة. وعلى العكس، يرى آدامز أن النساء اللائي يجدن الحكم على أنفسهن "كن ودودات، وتمتعن بالكياسة ودماثة الخلق"، وأبدين اهتماما بالآخرين أكثر من اهتمامهن بأنفسهن.

لكن بحلول الخمسينيات من القرن المنصرم، ظهرت دراسات جديدة وضعت فكرة وجود أشخاص يحسنون تحليل شخصيات الآخرين على المحك، إذ فندت إحدى الدراسات الطرق التي استعان بها آدامز وغيره لتمييز الأشخاص الذين يجيدون تحليل شخصيات الآخرين من غيرهم.

وبعدها نشرت بيانات تدل على أن هذه القدرات الفائقة المزعومة على تحليل شخصيات الآخرين بدقة خذلت أصحابها في الكثير من المواقف. وتوالت الدراسات في العقود اللاحقة لإثبات وجود أشخاص يجيدون فهم وتحليل شخصيات الآخرين بدقة، ولكن نتائجها كانت متضاربة.

وأرجع روجرز وبيسانز هذا التباين الحاد في الأدلة إلى سببين؛ السبب الأول هو اختلاف المعيار الذي بنى عليه الباحثون استنتاجاتهم عن الأشخاص الذين يجيدون الحكم على الآخرين. إذ كان المعيار في بعض الدراسات هو القدرة على الكشف عن الشخصية، بينما كان في البعض الآخر يتمثل في القدرة على قراءة المشاعر أو كشف الأكاذيب، وكل هذه المهارات في الحقيقة تعد مهارات مستقلة.

والسبب الثاني هو أن الباحثين لم يأخذوا في الاعتبار الدور الذي يلعبه الشخص الذي يحللون شخصيته.

وخلصت الدراسة التي أجراها الباحثان إلى أنه لا يوجد أشخاص يجيدون الحكم على الآخرين فحسب، إنما يوجد أيضا أشخاص يظهرون أدلة وعلامات قوية يستدل بها الآخرون على طباعهم، كما أن دقة فهم الشخصية ترتبط بقوة بدقة التعبير عن الأفكار والمشاعر.

وكتب الباحثان: "إذا عرض موقع أمازون كتاب تفاضل وتكامل جديدا ولم يتح عينة منه، فلن يستطيع أحد أن يفهمه أو يقيّمه حتى لو كان معلما متخصصا في مادة التفاضل والتكامل، إذ سيتساوى في فهمه المعلم والطالب الضعيف في مادة الحساب. أما إذا أتيحت فصول منه على الإنترنت، سيتقن معلم التفاضل والتكامل فهمه ويمتاز عن الطالب الضعيف".

ولتأكيد هذه النتائج، أجرى روجرز وبيسانز تجربة شارك فيها آلاف من طلاب الجامعات، طُلب من بعضهم التحدث إلى أشخاص غرباء لمدة ثلاث دقائق، بينما طُلب من آخرين مشاهدة مقطع فيديو لشخص لا يعرفونه لمدة ثلاث دقائق، ثم تقييم شخصيته.

وقارن الباحثان نتائج تحليل الطلاب للشخصيات مع طبائع الشخص وصفاته الحقيقية بناء على وصفه لنفسه أو تقييم أصدقائه أو ذويه الذين يعرفونه معرفة وثيقة.

وحلل الباحثان البيانات للبحث عن المشاركين الذين استطاعوا أن يفهموا شخصيات الآخرين ويحللونها بدقة متناهية، وصنفا أيضا الأشخاص الذين راقب المشاركون تصرفاتهم للاستدلال على طباعهم، بناء على مدى دقة نتائج تحليل الشخصية.

واكتشف الباحثان أن عددا قليلا من المشاركين كانوا أقدر من غيرهم على تحليل شخصيات الآخرين بدقة، ولكنهم اكتشفا أيضا أن الدقة في تحليل الشخصية تتوقف على وجود الهدف الجيد أو الشخص الذي يظهر أدلة وعلامات قوية يستدل بها الآخرون على طباعه.

وكتب روجرز وبيسانز في نهاية البحث: "عثرنا على أدلة قوية وواضحة وثابتة تؤكد وجود أشخاص يحسنون فهم وتحليل شخصيات الآخرين بدقة". لكنهم ذكروا أيضا أنه "لا يوجد من الأدلة ما يؤيد وجود أشخاص يتمتعون بقدرات فائقة على الكشف عن خبايا نفوس الآخرين بدقة متناهية من أول وهلة، مثل شرلوك هولمز، أو باتريك جين في مسلسل 'ذات منتاليست'".

ومن خلال مقارنة أداء الأشخاص الذين أحسنوا فهم شخصيات الآخرين وتحليلها؛ سواء بالتفاعل المباشر أو من خلال مشاهدة مقاطع الفيديو، استطاع الباحثان أيضا معرفة ما إن كانت مهارة تحليل شخصيات الآخرين بدقة تعتمد على ملاحظة الأدلة والعلامات التي يظهرها الشخص أم على القدرة على التأثير على الشخص لجمع أكبر قدر من الأدلة والعلامات للاستدلال بها على شخصيته.

وتوصل الباحثان إلى أن معظم الأشخاص الذين يجيدون فهم شخصيات الآخرين وتحليلها بدقة كانوا ماهرين في رصد الأدلة والعلامات التي يظهرها الشخص المستهدف، غير أن أداءهم كان أفضل نوعا ما عند التفاعل المباشر مع الأشخاص الذين يحللون شخصياتهم، وهذا يدل على أنهم اعتمدوا أيضا على قدرتهم على التأثير على الشخص لاستخراج أكبر قدر من الأدلة منه.

وذكر الباحثان أن: "الأشخاص الذين يجيدون تحليل شخصية الآخرين يعتمدون اعتمادا كليا على قدرتهم على ملاحظة العلامات والأدلة التي يظهرها الشخص المستهدف الذي يعبر بصدق عن مشاعره، وعلى استغلالها على أفضل نحو".

واللافت في هذه النتائج الجديدة أنها تؤيد وجود أشخاص يتمتعون بقدرات استثنائية على فهم وتحليل شخصيات الآخرين وتساعدنا على التعرف عليهم (إذ يمكن اختبار مهارات هؤلاء الأشخاص في حالة وجود أشخاص آخرين أمامهم يعبرون بصدق عن مشاعرهم وأفكارهم).

وتفسح هذه الدراسة المجال لمزيد من الأبحاث والدراسات حول كيفية فهم شخصيات الآخرين وتحليلها بدقة، وما هي مواصفات الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات استثنائية على تحليل شخصيات الآخرين وما إن كان من الممكن تعلم هذه المهارات.

http://www.bbc.com/arabic

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق