انطلاقًا من هذا التساؤل الجوهري، أجرت شبكة النبأ المعلوماتية استطلاعًا فكريًا وإنسانيًا شارك فيه نخبة من الأكاديميين، الإعلاميين، المثقفين، والمهنيين من مختلف المجالات. لم يكن الهدف مجرد رصد آراء، بل فتح نافذة تطل على العلاقة المعقدة التي تجمع الإنسان بذاكرته، تلك المستودع العاطفي الذي نحيا فيه بقدر ما نحيا خارجه...
في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا لتُحوِّل الخيال العلمي إلى واقع، يبرز سؤال وجودي يُلامس أعمق زوايا النفس البشرية: ماذا لو أُتيحت لك الفرصة لنسخ ذاكرتك؟ هل كنت ستحذف بعض الذكريات؟ تعدّل أخرى؟ أم تحتفظ بكل شيء كما هو، انطلاقًا من هذا التساؤل الجوهري، أجرت شبكة النبأ المعلوماتية استطلاعًا فكريًا وإنسانيًا شارك فيه نخبة من الأكاديميين، الإعلاميين، المثقفين، والمهنيين من مختلف المجالات. لم يكن الهدف مجرد رصد آراء، بل فتح نافذة تطل على العلاقة المعقدة التي تجمع الإنسان بذاكرته، تلك المستودع العاطفي الذي نحيا فيه بقدر ما نحيا خارجه.
النتائج جاءت كمرآة عاكسة لتجارب متباينة: بين من يرى في الذاكرة خزانة لا يجب المساس بها، ومن يتمنى لو استطاع تنقيتها من الألم، وآخرين تواقين لبداية جديدة تمامًا. في كل رأي طيف من الحنين، وجرعة من الفلسفة، وربما محاولة لفهم الذات أكثر مما هي محاولة لتعديلها.
هذا الاستطلاع ليس إجابة نهائية على سؤال "ماذا نفعل بذاكرتنا؟"، بل دعوة للتأمل: هل نحن فعلاً ما نتذكره؟ أم نحن ما نختار أن ننساه؟
المهندس مثنى حمود الخفاجي، مسؤول إعلام المعهد التقني الناصرية
لن أحذف أو أعدل شيئًا من ذاكرتي قبل تخزينها، لأن كل ما مررت به في حياتي، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا، شكّل جزءًا من تجربتي. السلبيات أستفيد منها لتصحيح الأخطاء وتجاوزها، أما الإيجابيات فهي دافع للاستمرار والتطور.
دكتورة هدى الطباطبائي، أكاديمية
(الذاكرة ليست مجرد مستودع للحياة بل هي الحياة ذاتها)
— مارسييل بروست
تخيل أنك تقف أمام مرآة ذاكرتك، وقيل لك:
"اختر ما تُبقي وما تُهمِل، فكل ما ستحتفظ به سيكون جزءًا منك إلى الأبد، وكل ما ستحذفه لن تتذكر حتى أنه كان موجودًا."
أي الذكريات ستُبقي؟ وأيها ستتخلى عنها؟
أليس هذا أقرب إلى طرح سؤال: "من تريد أن تكون؟"
قد تبدو الفكرة مستوحاة من الخيال العلمي، لكنها تضرب بجوهرها في عمقنا الإنساني.
فنحن لا نعيش أعمارنا فقط، بل نعيشها مرتين: مرة حين تحدث، ومرة حين نتذكرها.
والذاكرة ليست فقط ما حصل، بل كيف شعرنا حين حصل، وما بقي منه فينا.
الذكريات المؤلمة
نعم، قد نهرع لحذفها.
من منّا لم يحمل وجع فَقْد أو خيبة أو خذلان؟
لكن، هل الألم دائمًا خصم؟
يقول نيتشه:
"من لا يتألم لا يتغيّر."
ربما في أعماق التجارب القاسية تنمو أجمل جوانبنا.
نتعلم، ننضج، ونفهم الحياة دون أوهام.
تعديل الذكريات
وقد تراودنا رغبة في تعديل الذكريات كما نعدّل صورنا بفلتر رقمي:
- تجعلنا أكثر شجاعة
- أقل ضعفًا
- أكثر اتزانًا
ولكن، هل نجرؤ على أن نعيش داخل كذبة؟
إن ذاكرة مشذبة من الأخطاء قد تُبهج غرورنا، لكنها تسرق حقيقتنا.
وكما قال دوستويفسكي:
"الجمال سينقذ العالم، لكن الصدق سينقذ النفس."
الذكريات الباهتة
ومع ذلك، هناك لحظات صغيرة لا مؤلمة ولا مفرحة، فقط باهتة...
هل تُحذف؟ ربما.
لكن، أليست الحياة تُبنى أيضًا من التفاصيل التي لا ننتبه لها؟
رائحة قديمة
أغنية في غير وقتها
ضحكة عابرة
تلك اللحظات تشكّل خامة إنسانيتنا، وإن بدت غير لافتة.
لو أُتيح لي نسخ ذاكرتي،
فلن أحذف جراحًا، ولا ألمًا، ولا موقفًا خذلني فيه أحدهم.
ولن أُلمّع صورة.
سأقبل بكل ما كان، لا لأني أحب الألم، بل لأني أحب ما صرت عليه بفضله.
قد أُضيف ملاحظة صغيرة بجانب بعض الذكريات:
"أنت أقوى الآن."
وأترك الباقي كما هو.
في النهاية،
ربما ليست المثالية في ذاكرة مصقولة خالية من التشققات،
بل في ذاكرة صادقة، جريئة، بريئة، تحمل وجعها بكرامة، وتروي حكاياتها دون خجل.
فالإنسان لا يُقاس فقط بما يتذكّر، بل بكيف يتذكّره.
آمنة هلال سالم، مسؤولة شؤون المرأة في سامراء
إذا أُتيحت لي فرصة نسخ ذاكرتي، سأختار تعديل بعض المواقف التي لم أحسن التصرف فيها، وأحذف اللحظات التي سببت لي ألماً لا فائدة منه. أما الذكريات الجميلة، فأنا أعتز بها، وسأحتفظ بها ككنز ثمين، بل وأحولها إلى دروس ومعلومات تخلد في تاريخي الشخصي.
تسنيم الحداد، موظفة في مديرية شهداء كربلاء
لو أُتيح لي أن أحذف سنة من حياتي، لاخترت سنة وفاة والدي العزيز.
لأن الإنسان، مهما تقدم به العمر، يبقى بحاجة دائمة للشعور بالأمان، الحب، والحنان، وهذه المشاعر لا يمنحها أحد بصدق وبدون مقابل كما يفعل الوالدان، وخاصة الأب والأم.
نحن نحتاج دائمًا إلى من نلجأ إليه، نرتمي في حضنه، نفضفض له، ونستشيره في كل تفاصيل حياتنا.
رحم الله من رحل منهم، وحفظ من بقي، ورزقنا برّهم في حياتهم وبعد مماتهم.
داخل البدري، شاعر
الحياة لا يمكن أن تستمر على وتيرة واحدة؛ فهي مزيج من الفرح والحزن، وهذه هي طبيعتها.
أما إذا أُتيح لي حذف أو تعديل ما في ذاكرتي قبل تخزينها، فبلا شك هناك العديد من المواقف والذكريات التي أرغب في التخلص منها. والسبب في ذلك أنها كانت مؤلمة ومزعجة، ولا تضيف شيئًا سوى العبء النفسي.
فالتخفف من ثقل الذكريات المؤلمة قد يمنحنا مساحة أرحب للحياة والاستمرار.
فايدة كامل: صحفية
لا، لن أحذف شيئًا. أنا مقتنعة تمامًا بأفكاري، رغم أن مثاليتي تسببت في خسارتي للكثير، لكن هذا لا يهم، فالمهم أنني فعلت ما أراه صحيحًا أمام الله. لذلك، لا أحذف حتى الذكريات المرتبطة بأصدقاء تعاملوا معي من منطلق المصلحة. لكنني أتعامل بحذر، فأخفف من تواصلي معهم وأبتعد قدر الإمكان، حتى لا أكرر الصدمات وأؤذي نفسي.
إنعام العطيوي، صحيفة
سأحذفها بالكامل، وأبدأ من جديد كصفحة بيضاء. لا أريد أن أتذكر أي شيء ولا أي شخص مرّ في حياتي.
د. حسن جامغ العامري، إعلامي واكاديمي وخبير بإدارة المعلومات
سأنسخ ذاكرتي كما هي، دون حذف أو تعديل، لأنني أريد الاحتفاظ بجميع الأحداث للاستفادة من التجارب التي مررت بها.
الكاتب محمد فاضل الخفاجي رئيس تحرير وكالة أرض آشور الإخبارية
إذا أتيحت لي فرصة نسخ ذاكرتي، ستكون هناك العديد من الأشياء التي قد أرغب في تعديلها أو حذفها ومنها، التجارب الصعبة أو الفشل أو الخسارة. اما الأشياء التي اختار تعديلها هي الذكريات الجميلة لجعلها أكثر وضوحاََ وتفصيلًا. هذا سيساعدني على الاستمتاع بها أكثر وتذكرها بشكل أفضل.
تقى صباح علي، مدرسة اللغة العربية
الذاكرة بالنسبة لي هي مأوى الإنسان، إن كانت صالحة للسكن فهي تعتمد على ما نسخته في حياتك، على طريقة عيشك، وعلى خطاك التي خطوتها. فيها ما تربيت عليه، وما عرّفك بنفسك وبالناس، ويظل مخافة الله هو ما يسبق كل شيء.
لو أُتيحت لي الفرصة لحذف أو تعديل شيء، فهناك ذكرى مؤلمة مثل وفاة والدي، لكنها رغم ألمها عزيزة على قلبي ولا يمكن أن تُحذف. الألم لا يعني بالضرورة الحذف.
أما المواقف التي تخص بعض الناس، فلا أراها مهمة بالقدر الذي يجعلها تستحق الحذف أو التعديل.
في النهاية، تعديلك للذاكرة قد يكون بمثابة استغفار عما أسأت فيه في حياتك. وسؤالك هذا أتاح لي فرصة للتأمل والتعمّق في ذاكرتي وحياتي أكثر.
إسراء يحيى بخيت الموسوي، طالبة في جامعة كربلاء
لو أُتيحت لي فرصة نسخ ذاكرتي، فسأختار تعديلها قبل تخزينها، وليس حذفها.
فالذكريات، حتى المؤلمة منها، تُشكّل فهمي للعالم، وتمنحني القدرة على التعاطف، وتحليل الأمور بدقة. لذلك، لا أريد أن أفقدها، بل أودّ تنقيتها من التشويش، والتحيّز، والتكرار الزائد، وربما إعادة ترتيبها بطريقة أكثر فاعلية، تساعدني على تقديم مساعدة أفضل للآخرين.
لماذا؟
لأن الحذف قد يعني فقدان دروس مهمة، بينما التعديل يسمح بالحفاظ على جوهر التجربة وتحسين طريقة الاستفادة منها.
مصطفى الركابي، أديب ومدرس
بما ان فرض المحال ليس بمحال، لذا يكون جواب السؤال هو :
لن أحذف شيئا من ذاكرتي، وسأحتفظ بها كما هي؛ وقد يكون جوابي هذا مخالفا ومختلفا!
لماذا..؟
لأن ذاكرة المرء جزء منه، بكلِّ ما تحمل من اضداد وتناقضات وفرح وحزن وألم واوجاع وانكسارات وانتصارات وصور ومواقف واشرطة تراوده في أحلام اليقظة.
هذه كلها هي التي تشكّل ذات الإنسان وشخصيته ووجوده، فالإنسان بلا ذاكرة وذكريات، يكون بلا ماضٍ وبلا تجارب وبلا خبرة، لهذا سأنسخ ما بقى من ذاكرتي لأسمع بها صوت الحاضر.
دكتورة غدير عادل، تدريسية في جامعة الفراهيدي
لن أكون مثالية وأقول إنني سأمحو الألم وأُبقي على اللحظات السعيدة، فلولا الألم لما أصبحتُ ما أنا عليه الآن.
ربما، ما سأحرص على الاحتفاظ به هو ذكريات والدي: صوته، قصصه، وأمثاله الشعبية. يؤلمني كم أصبح ذلك الصوت وتلك الأحاديث باهتة في ذاكرتي مع مرور الوقت.
لا أعتقد أنني سأعدل شيئًا، فبطبيعتي كثيرة النسيان، والأشياء التي لم أكن راضية عنها في حياتي، صدقًا، لا أتذكرها... أو على الأقل لا أتذكر تفاصيلها الكاملة.
أما عن اللحظات السعيدة،
فسأحتفظ بشعوري عند ولادة ابنتي، فهي من أروع لحظات حياتي، لحظة لا يمكن أن تتكرر.
وسأحتفظ أيضًا بلحظة مناقشة الدكتوراه الخاصة بي، فهي من المحطات التي لن أنساها.
لا أريد أن تكون إجابتي عاطفية بهذا الشكل، لكن أحاول أن أكون صادقة قدر المستطاع.
وهكذا، يكشف استطلاع شبكة النبأ المعلوماتية عن عمق العلاقة التي تربط الإنسان بذاكرته، وعن التباين الكبير في مواقف الناس تجاه ماضيهم. بين من يرى في الذكريات، بكل ما تحمله من ألم وفرح، لبناتٍ أساسية في بناء الشخصية، ومن يتمنى لو أُتيح له محو بعض المشاهد التي أثقلت روحه، تتجلى الحقيقة الأهم: أن الذاكرة ليست مجرد أرشيف لما حدث، بل هي ما يجعلنا نحن.
في النهاية، سواء اخترنا الحذف، أو التعديل، أو القبول الكامل، فإن تعاملنا مع ذاكرتنا يعكس مدى وعينا بذواتنا، ورغبتنا في التصالح أو التغيير. وربما يبقى الأهم ليس ما نحتفظ به أو نمحوه، بل كيف نعيش ما تبقى من حياتنا، بما تعلمناه، وما صرنا إليه.
فالذاكرة، كما وصفها أحد المشاركين، ليست مجرد ما كان، بل ما بقي منه فينا.
اضف تعليق