زحف التفكك الأسري والاختلال المجتمعي

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

إن الإسلام أوجد الحلول السليمة لمعالجة حالة الطلاق وتبعاتها التي تُنذر بالتفكك الأسري ووضع القواعد اللازمة التي تقي الأسرة من شرور التفكك الأسري، لكن الإنسان غالبا ما يتسبب بالمآسي لنفسه، فهو كما يعبث بالبيئة والطبيعة، يعبث بالوضع الاجتماعي، ويتعامل بلا مبالاة مع حياته الاجتماعية مما ضاعف من نسب الطلاق...

(لقد ازدادت نسبة الطلاق في بعض البلدان الإسلامية التي تقلد الغرب)

الإمام الشيرازي

تعني حالة الطلاق حدوث انفصال بين الزوجين لأسباب كثيرة، بحيث يتعذر استمرار الزوجين في مواصلة حالة الوئام والانسجام فيما بينهما، كما أن الأطفال في حالة كثرة المشاكل بين الأب والأم تتعرض حياتهم للتعقيد والتشنج، وقد يُصابون بأمراض وعُقَد نفسية تدمر حياتهم وتجعلها مليئة بالعقد المستعصية على الحل، لهذا حاول المختصون من علماء دين واجتماع وعلم نفس أن يعثروا على الحلول التي تحد من هذه الظاهرة وتوقف زحفها على المجتمع.

ولكن هنالك أسباب عديدة جعلت من هذه الحالة (الطلاق) ظاهرة تعم المجتمع كله، ولهذا توجَّب إيجاد الحلول اللازمة ومعرفة الأسباب وتأشيرها والمباشرة في حلّها حتى يتخلص المجتمع من ظاهرة أخرى أكثر خطورة وهي ظاهرة التفكك الأسري التي تعمل على تقويض متانة المجتمع كله، وتسلب منه حالة الاستقرار الاجتماعي لتجعله في مهبّ الريح.

في السابق كان الناس يلومون الرجل أولا في حالة حدوث الطلاق ويلقون عليه المسؤولية لأنه أوصل العائلة إلى هذه النتيجة المؤسفة، فقد كانت حالة الطلاق نادرة في الأزمنة البعيدة وحتى الأزمنة المنظورة، ولكنها اليوم أصبحت لافتة ومخيفة بسبب سعة حجمها وانتشارها بين الأسر وعدم إقدام الأفراد وغيرهم من المسؤولين للحد من مخاطرها.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، تطرق إلى هذه الظاهرة في كتابه المسوم بالقطوف الدانية (الجزء الرابع) على سبيل إيجاد الحلول اللازمة، محذرا من انتشار الطلاق قائلا:

(من المشاكل التي تعاني منها المرأة في المجتمع المعاصر إشاعة حالة الطلاق وهجر الأسرة، ولا يخفى أن المجتمع سابقاً كان يلوم الرجل كثيراً إذا طلق زوجته، حتى أن أهله وأصدقاءه ينظرون إليه بازدراء، وذلك لأن حالة الطلاق كانت حالة نادرة شاذة).

إن الإسلام أوجد الحلول السليمة لمعالجة حالة الطلاق وتبعاتها التي تُنذر بالتفكك الأسري ووضع القواعد اللازمة التي تقي الأسرة من شرور التفكك الأسري، لكن الإنسان غالبا ما يتسبب بالمآسي لنفسه، فهو كما يعبث بالبيئة والطبيعة، يعبث بالوضع الاجتماعي، ويتعامل بلا مبالاة مع حياته الاجتماعية مما ضاعف من نسب الطلاق ليس في الغرب الذي توجد فيه دوافع كثيرة للطلاق من التحلل الأخلاقي بحجة الحرية الفردية.

عدم الالتزام بالأحكام الشرعية

لكن هذه الظاهرة تغوّلت حتى في مجتمعات الشرق ومنها الإسلامية أيضا، بعد أن عبرت الحدود المقبولة في المجتمع، وتم تجاوز الأحكام الشرعية التي تنظم العلاقات بين الرجل والمرأة، وكذلك ما يتعلق بالقضايا والحدود الاجتماعية، فكانت النتيجة انتشار الطلاق وهي نتيجة متوقَّعة بسبب الانفتاح غير المشروط الذي اخترق هذه المجتمعات وبدأ ينخر في متانتها الاجتماعية والعلاقات التي لم تعد سليمة أو قائمة على الأخلاق الفطرية.

وعلى الرغم من أن الإسلام لم يسمح بالطلاق، لأنه أبغض الحلال عند الله تعالى، لكن نلاحظ انتشار هذه الظاهرة حتى بين المسلمين، بسبب التجاوزات وعدم الاحتكام للتعاليم الإسلامية التي تنظم العلاقات الاجتماعية بطريقة دقيقة ومنضبطة، بحيث بلغ الأمر أن ينفتح الرجال والنساء في تجمعات مختلفة كلها تؤدي إلى العلاقات غير الشرعية فأدت إلى زيادة المشكلات التي تزيد من حالات الطلاق.

يقول الإمام الشيرازي:

(لقد ارتفعت نسبة الطلاق كثيرا حتى أصبحت المرأة اليوم تعاني من ضياع المصير وفقدان المستقبل. مع أن الإسلام لم يرتض بالطلاق وجعله حلاً أخيراً، وفي حالات الضرورة فقط من باب آخر الدواء الكي).

ومع أن رجال الدين وعلماؤنا الأفاضل وضعوا شروطا محددة للطلاق، وحاولوا بكل ما يمتلكون من حلول أن يجنبوا العوائل شر الطلاق، إلا أن هذه الظاهرة واصلت الصعود، والأسباب كثيرة ومتنوعة، حتى أن رجال الدين أحجموا عن إجراءات الطلاق الشرعية وحاولوا أن يصلحوا ذات البين بين الأزواج والزوجات، لكن هذا الاجراء لم يجدِ نفعا وواصلت نسبة الطلاق بالارتفاع.

حتى أن العلماء سعوا بكل الطرق والسبل المتاحة إلى تأجيل الطلاق، والقيام بمحاولات حثيثة للصلح بين الطرفين بسبب العواقب الكبيرة التي تنتظر أفراد العائلة كالأطفال، لكن هذه الإجراءات المهمة التي قام بها العلماء الدينيون لم تستطع إيقاف زحف التفكك السري نحو المجتمع.

حيث يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:

(إن علماءنا ما كانوا يقومون بإجراءات الطلاق بين الزوجين، إلّا بعد استنفاد كل سبل الإصلاح، حيث كانوا ـ ولا زالوا ـ يحاولون دائماً إتباع سبيل الإصلاح بين الزوجين المتخاصمين). ويضيف الإمام الشيرازي رحمه الله:

(وكان العلماء يتكلمون مرة مع الزوج، وأخرى مع الزوجة، وأحياناً أخرى مع أهليهما، ويحاولون التريث والتأجيل آملين الإصلاح فيما بعد، فإذا لم تنفع كل تلك الأساليب كانوا يجعلون من الطلاق آخر العلاج).

وقف غول الطلاق عند حده

ولهذا كانت النتيجة الواقعية هي انتشار كبير في هذه الظاهرة الخطيرة، أنتجت نوعا من الاختراق والانحلال المجتمعي، مع أنه كان محصورا بالمجتمعات الغربية تحديدا، ولكن بسبب عدم التعامل الصحيح مع هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة، أخذ آثارها بالانتشار المضاعف، وبدأ الطلاق يتزايد باضطراد، لاسيما بعد أن أخذت المرأة في الشرق بتقليد المرأة الغربية.

يقول الإمام الشيرازي:

(وهكذا أخذت الأسر تتهدم وتتفكك. ولا ينحصر هذا الأمر بالشرق ولا بالغرب، بل أن نسبة الطلاق ازدادت كذلك في بعض البلدان الإسلامية التي تقلد الغرب أيضاً، وأصبحت المرأة مظلومة في أغلب الميادين، في المجال الاجتماعي وفي المجال الفكري وفي المجالين السياسي والثقافي وغيرهما).

ومع أن المرأة تعرف ما هي النتيجة التي تنتظرها بسبب الطلاق، إلا أنها لم تلجأ إلى الحماية العقلية والدينية والسلوكية، وأخذت من طريق التحدي وسيلة لمواجهة ما تتعرض له من ظاهرة اجتماعية خطيرة، وهذا ما جعل المجتمع يتجاوز على المرأة ويظلمها أكثر فأكثر ويدفع بها نحو حافة الانحدار والسقوط من خلال ممارسة البغاء للحصول على ما يسد رمقها.

وفي الغالب يكون الأطفال ضحية الطلاق، ويتهرب الأب من التزاماته المالية والمعيشة الشريفة للأطفال، فيكون هؤلاء مشردين أو متسولين ويكونوا عبئا على المجتمع بسبب التصرفات القاصرة وغير المسؤولة التي يتحملها الأب أو الزوج والزوجة.

هذه النتائج المخيفة تلزم الجميع لمواجهة هذه الظاهرة، ولا يصح أن نتخلى عن ذلك، لأن الأضرار الاجتماعية سوف تكون كبيرة جدا ولا يتوقف الأذى عند حدود الرجل أو المرأة فقط بل يتجاوز ذلك إلى الجميع حيث التفكك الأسري يكون سببا مباشرا في تدمير المتانة المجتمعية.

حيث يقول الإمام الشيرازي:

(وما أكثر النساء اللاتي تعرضن للسقوط بسبب ظلم المجتمع الذي يعشنَ في وسطه، وقد تضطر بعضهنَّ إلى القيام بأعمال غير مشروعة من أجل لقمة العيش، وتنزلق إلى مهالك ممارسة رذيلة البغاء، وهذا هو أبعد حد للاستهانة بكرامة المرأة وعفتها).

إذن نحن نقف وجها لوجه أمام غول الطلاق ووباء التفكك الأسري الذي اخذ بالتصاعد والانتشار مما يوجب على الجهات ذات العلاقة الرسمية والدينية والمجتمعية أن تقوم بما يجب عليها لمواجهة هذا الداء الاجتماعي الخطير.

لذا لابد من إيجاد الحلول التي توقف الطلاق عند حده وتوجد السبل الكفيلة بالحد من هذه الظاهرة التي جعلها الله تعالى أبغض الحلال، ومن هذه الحلول، تثقيف المرأة على تعاليم الإسلام، وتثقيف الرجل على تحمل مسؤولية العائلة والأولاد، والتشبع بالأحكام السليمة التي وضعها الإسلام لتنقية المجتمع الإسلامي من المشكلات العقيمة بالأخص مشكلة التفكك الأسري.

اضف تعليق