q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

أساسيات التطور الذاتي للأمم

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

الأمة المتطورة هي نتاج أفراد متطورين، ونعود لنؤكد ما ذكره الإمام الشيرازي من أهمية بالغة يجب أن تشغل المسلمين والعرب بل والشرقيين وهي قضية بناء الإنسان الفرد، حتى يتم بناء الأمة القادرة على التنافس في جميع مجالات التطور والتقدم العالمي...

من طبائع البشر المهمة حبّه لمعرفة ما لا يعرف، واكتشافه لأسرار الأشياء، ومن ثم توظيف ما يتمكن من كشفه ومعرفته لصالح التطوير الذاتي للأمة، يجري هذا الهدف بطريقتين:

الأولى: الطريقة الطبيعية

وهذه تستند إلى طبيعة الإنسان التي تسعى لمعرفة الغامض من الأشياء والأمور، وحبه وتعلقه بما لا يعرف أو ما يجهل من الأشياء، وهذه الطبيعة المزروعة في كيان الإنسان هي التي تقف وراء تطور الأمم من حال إلى حال، فمن طبيعة الأمم أيضا الاستفادة من تجارب بعضها البعض، وتحويل معارفها إلى آليات لتطوير الذات عبر نقل التجارب العلمية والمعرفية والأدبية والانتاجية بمختلف أنواعها.

الثانية: طريقة الاكتساب المعرفي والعلمي.

وقد حدث هذا بين الأمم من خلال التراجم الكثيرة المتبادلة سواء بجهود فردية يقوم بها العلماء المهتمون، أو من خلال جهود جماعية رسمية حكومية من خلال ما تعقده الدول من اتفاقيات لتبادل التجارب والمعارف والمعلومات عبر الترجمة أو الوسائل الأخرى كالدورات التدريبية المتبادلة، أو المشاهدات والمعايشة المتبادَلة.

ولكن هناك نتيجة واضحة يتفق عليها الجميع، وهي أن الأمة هي المسؤولة عن تقدمها أو تخلفها، ولا يمكن أن تُقبَل التبريرات أو الحجج التي تُلقى على الأمم الأخرى، فمن غير المعقول ولا المقبول أن تلقي أمة معينة تخلفها على أمة أخرى، فكل أمة مسؤولة عن نفسها في هذا الجانب، لكن هذا الأمر لا يمنع الاستفادة المتبادلة بين الأمم.

الإمام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يتطرق لهذه المسألة في كتابه الموسوم بـ (السعي إلى بناء المجتمع)، فيقول:

(كل أمة رهينة بأعمالها، ولا تُؤخذ أمة بأمة أخرى، نعم على كل أمة أن تعتبر من سائر الأمم وتستفيد من تجاربها).

إذًا نحن نقف بوضوح أمام جواب واضح وقاطع للإمام الشيرازي يشرح فيه بجلاء عدم ارتباط تخلف وتأخر أمة ما بأمة أخرى، ولا حتى تقدمها، فالأمة يمكنها من خلال الجهود الذاتية الكبيرة والصحيحة التي تبذلها أن تتقدم وتتطور، وقد يحدث العكس تماما حين تتقاعس الأمم وتتراجع عن القيام بدورها التقدمي، فتكون في ذيل القائمة، بسبب التكاسل والعجز والفوضى وعدم الجدية في التخطيط وأخذ الأمور على محمل الجد.

هناك أمم كثيرة مضت وتراكم عليها غبار النسيان، ولهذا لا يمكن أن تكون مؤثرة في غيرها من الأمم، وهذا وحده يؤكد أن الأمم الأخرى تبقى عاجزة عن إلحاق التخلف بغيرها، ولكن في حال حدث نوع من التعاون المدروس بين أمة وأخرى، واتفاقيات متبادلة رصينة، يمكن من خلالها تناقل المعارف والعلوم والتراجم والتجارب، في عملية مكوكية غير قابلة للتوقف، وهذا ما أدى بالنتيجة إلى انتقال أمم من حالات الركود والتخلف إلى حالات النمو والتطور.

توظيف المعارف والخبرات والتجارب

المهم في هذا الجانب هو إرادة الأمة، وإصرارها على تحقيق التطور، ومن ثم تأتي الخطوات اللاحقة لتوظيف المعارف والخبرات والتجارب، لكن المهم أولا أن يكون هناك تهيئة وقواعد أساسية للبناء والتقدم والتطور، وفي حال توافرت هذه الإرادة لدى الأمة يمكنها أن تتقدم بجهودها الذاتية، ولا يمكن لأمة أخرى تعيق تقدمها أو تبقيها في خانة التخلف.

لهذا يؤكد الإمام الشيرازي بأن:

(الأمم مرهونة بأعمالها في تقدمها أو تأخرها، فالمهم عمل كل أمة بنفسها، ولا يمكن ـ عادة ـ لأمة أن تتطور بأعمال الأمم الأخرى أو تتأخر بها، لأن الأمم السابقة قد ذهبت وفنت).

فهل يمكننا القول أن الأمة هي التي تحدد موقعها في مجال التقدم والتطور بين الأمم الأخرى؟، الجواب هذا صحيح جدا، نعم كل أم هي المسؤولة حصرا عن تقدمها أو تأخرها، ولا يمكن قبول تبريرات التأخير وإلقاء اللوم على أمم أخرى، لاسيما في ظل الانفتاح المعلوماتي والمعرفي والإعلامي والفكري والثقافي الهائل الذي يشهده العالم اليوم عبر شبكات الإنترنيت، والمنصات المختلفة وسيل المعلومات الجارف على مدار الساعة.

الأمة التي تسعى إلى الخير سوف تجد ثمرات الخير بانتظارها، وسوف تكون النتائج في صالح أفرادها حتما، لهذا يبقى الجهد الذاتي المدروس مهم جدا، وهناك تجارب نقلت أمما من الفقر المقع إلى الغنى الهائل، كما حدث مثلا في دولة سنغافورة، هذه الدولة الآسيوية الصغيرة الفقيرة الخالية من الموارد، حرّكت في ذاتها إرادة سياسية إدارية قيادية متفردة، تمكنت من نقل الأمة السنغافورية من مخالب البؤس وسجونه الرهيبة إلى فضاء التحرر الإنتاجي الكبير، بحيث صار الدخل السنوي للمواطن السنغافوري هو الأعلى عالميا.

كيف حدث هذا؟، هناك استعداد ذاتي جمعي، مكّن هذه الأمة من الدخول في عالم التطور من أوسع أبوابه، وبدلا من التناحر والاحتراب والانشغال بالصغائر، تم الاستفادة من تجارب مجاورة، وتم اقتناص الفرص المتاحة، وبالتالي تحولت سنغافورة الفاترة المتأخرة إلى شعلة إنتاجية متفجرة على مدار الوقت، مما جعلها أمة نموذجية من حيث التطور على مستوى العالم، لأنها مضت في طريق الخير وابتعدت عن مسالك الشر.

يقول الإمام الشيرازي:

(وهكذا تكون كل أمة مسؤولة عن نفسها، إليها يرجع ما عملته وما كسبته من برّ وخير، وعليها يعود ما اقترفته وما جنته من ظلم وشر).

أسبقيات البناء المعنوي

وتوجد نقطة مهمة لابد من التركيز عليها، وهي اللبنة الصغيرة التي تتكون منها الأمة، أي الإنسان الفرد الذي تتكون من مجموعه هذه الأمة، هذا الفرد لابد أن يكون من طراز خاص، عقل متنور، وإرادة فعالة، وعقلية مبتكِرة، وطاقة غير ابلة للنضوب، هذا هو المواطن الذي تكون الأمة ناجحة بمجموعه واجتماعه.

وقد دعا الإمام الشيرازي مبكرا إلى بناء هذا النوع من البشر، فلا توجد أمة ناجحة ما لم يُبنى الإنسان معنويا وفكريا وعمليا أيضا، فلنصلح الفرد ونبنيه البناء المتميز، حينئذ سوف تُبنى الأمة المتميزة الناجحة، فهل سعت مجتمعاتنا إلى بناء الإنسان حتى تواكب الموجات التطورية الهائلة التي حصلت ولا زالت تحصل في العالم؟

لأنه (من المعلوم أن الأمة تتشكل من الأفراد، وإذا أردنا الحصول على مجتمع إسلامي صالح وأمة مؤمنة متقدمة، فعلينا بإصلاح الفرد أولاً) كما يرى الإمام الشيرازي.

من الأمور المؤكّدة أن كل أمة لها شخصيات متعددة، استنادا إلى تعدد مجالاتها في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فإذا كانت شخصيتها السياسية ناجحة نجحت هذه الأمة، وينطبق هذا على الاقتصاد والاجتماع، لهذا لابد من بناء الشخصية التكاملية للأمة حتى تكون قضية التطور والتقدم متاحة لها.

يقول الإمام الشيرازي:

(إن الأمم تُقاس بشخصياتها العلمية وكذلك السياسية، وهكذا الاقتصادية والاجتماعية منهم، مضافاً إلى سائر الأفراد، كل بحسبه، فإنهم الذين يعكسون قيمة الأمة بما يعلمونه ويعملونه ويكسبونه، أو ما يجنونه ويقترفونه، ويصبغون بتلك الصبغة ظاهرة الأمة، فتتميز الأمة بذلك العنوان).

وأخيرا يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:

(إذا كان أفراد أمة يعيشون عيشة هادفة، ويسعون في بناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، تقدم أولئك الأفراد وتقدمت الأمة بهم، وهذا هو ما يدعو إليه الإسلام ويحثّ عليه، فالإسلام يريد للفرد وللأمة وللمجتمع أن يكون مسلماً صالحاً بتمام معنى الكلمة).

بالنتيجة النهائية، الأمة المتطورة هي نتاج أفراد متطورين، ونعود لنؤكد ما ذكره الإمام الشيرازي من أهمية بالغة يجب أن تشغل المسلمين والعرب بل والشرقيين وهي قضية بناء الإنسان الفرد، حتى يتم بناء الأمة القادرة على التنافس في جميع مجالات التطور والتقدم العالمي.

اضف تعليق