نحتاج إلى صناعة جديدة للإنسان في مجتمعاتنا، إنسان لا يؤمن بالعنف، يرفضه بكل أنواعه، هذا يسهم بقوة في خلق مجتمع مسالم متجانس ينحو إلى التعاون والتكافل، وينتهي إلى تكوين منظومة فكرية لفظية مشذّبة من الخشونة بأنواعها، وهو أمر قابل للانجاز، حتى الأفراد بإمكانهم الاشتغال على أنفسهم لتغيير سلوكهم...
لم تخلُ حقبة تاريخية من الصراع المتأجج بين الحرية والاستبداد، ويعد اللاعنف أحد أهم الأساليب التي يعتمدها المعارضون للاستبداد لاسترداد حرياتهم من الحكام المستبدين، ويعرِّف معجم لسان العرب "الاستبداد" بالتالي: "استبدَّ بفلان، أي انفرد به دون غيره." أما المعجم المنجد في اللغة العربية المعاصرة فيعرِّف كلمة "استبدَّ": "حكمَ بأمره، تصرَّفَ بصورة مطلقة، غير قابل الاعتراض". كما يعرف نفس المعجم كلمة "استبداد": "تعسّف، تسلّط، تحكّم." ويورد المعنى الثاني: "ظلمٌ، وفرضُ الإرادة من دون مبرر.
الموسوعة السياسة، تورد تعريف "استبداد" كالتالي: إنّهُ "حكم أو نظام يستقل بالسلطة فيه فرد أو مجموعة من الأفراد دون خضوع لقانون أو قاعدة ودون النظر إلى رأس المحكومين." وتضيف الموسوعة تعريفا آخر لنفس الكلمة:" المستبد عرفا من يفعل ما يشاء غير مسؤول ويحكم بما يقضي به هواه".
أما اللاعنف فهو ممارسة شخصية لا يؤذي الفرد فيها ذاته والآخرين تحت أي ظرف. وينبع ذلك من الاعتقاد بأن إيذاء الناس أو الحيوانات أو البيئة لا لزوم له لتحقيق النتيجة المرغوبة ويشير إلى فلسفة عامة من الامتناع عن العنف على أساس المبادئ الأخلاقية والدينية والروحية.
وينظر إلى اللاعنف على أنه بديل لموقفين آخرين هما الرضوخ والانصياع السلبي من جهة، أو النضال والصدام المسلح من جهة أخرى. لذلك فإن اللاعنف يدعو إلى وسائل أخرى للكفاح الشعبي منها العصيان المدني أو "المقاومة اللا عنفية" أو عدم الطاعة وعدم التعاون.
وقد استخدم المصطلح بشكل متكرر كمرادف للمسالمة لكنه ومنذ منتصف القرن العشرين أخذ يعكس الكثير من التكتيكات التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي بدون استخدام القوة. وبهذا فإن اللاعنف يختلف عن المسالمة لأنه يواجه القمع والطغاة بشكل مباشر.
اللاعنف هو الأسلوب الذي سار عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله، لإصلاح المسلمين، وسعى بكل الوسائل المتاحة لتغيير ذلك المجتمع من خلال نشر ثقافة اللاعنف بينهم، والانتقال من القبلية والتطرف إلى التعاون والانسجام والابتعاد عن الاستبداد في الرأي كأفراد، ورفضه كأسلوب في إطار الحكم.
وباء يفتك بالشعوب المتأخرة
ومن يتأمّل صفحات التاريخ بدقة ورويّة، سوف يكتشف أن الاستبداد هو الوباء الذي فتك بالمسلمين، وأبعدهم كثيرا عن نواصي التقدم والتطور، فانشغلوا بمقارعة سلسلة من الحكومات والحكام المستبدين الذين ابتعدوا كل البعد عن منهج الرسول صلى الله عليه وآله في اتخاذ اللاعنف منهج حياة تضمن للجميع حقوقهم وفق عقد اجتماعي ينظّم طريقة الحكم باعتماد اللين وقبول الرأي المعارض.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (اللاعنف في الإسلام): (عندما يتأمّل الإنسان في تاريخ الإسلام العزيز يجد أنّ معظم المصائب والرزايا التي عانى منها المسلمون على امتداد التاريخ هي ناجمة عن سياسة العنف التي كان استخدمها الحكام).
الباحث الذي يدرس التاريخ السياسي الإسلامي ويتحرّى طبيعته جيدا، سوف يجد دون عناء كبير، أن الحكومات التي استولت على الحكم بأساليب ليست شرعية، هي المسؤولة عمّا وصل إليه المسلمون من تردٍّ وتراجعٍ شامل، طالَ مجالات الحياة كافة، وفي المقدمة منها توالد الأنظمة السياسية المستبدة.
وما يعاني منه المسلمون اليوم من مظاهر الضعف، وصور التشرذم، ودوّامات التناحر والتضادّ، إنما هو نتاج تلك الأنظمة الدكتاتورية التي لا تزال تنعكس مظاهرها وآلياتها حتى عصرنا الراهن في عدد من الدول الإسلامية ومن بينها العراق، ولا تزال حتى عصرنا الحالي تتكرر صور أنظمة الاستبداد، لتقف وراء جميع مظاهر الضعف والجهل والتخلف الذي يستشري في مجتمعاتنا.
هذا ما يشير إليه الإمام الشيرازي في قوله: (الحكام المستبدون الذين استولوا على المسلمين من دون شرعية لم يلتزموا بتعاليم الإسلام الداعية إلى اللين واللاعنف، وهم كانوا وراء ضعف المسلمين).
وللأنظمة المستبدة مؤيدين في جميع العصور والحقب، حتى في عصر الحكومات الرشيدة من أمثال حكومة الرسول (ص)، هنالك من كان يؤيد الحاكم المستبد ويؤيده وينتصر له، على الرغم من معالم القهر والظلم التي تظهر بوضوح بسبب قرارات جائرة تكمم الأفواه وتضرب المعارضة في الصميم، فهنالك دائما منافقون يؤيدون الحكام المستبدين طمعاً بالامتيازات والمصالح الآنية، على حساب حقوق الأمة والشعب برمّته!.
أنظمة القمع لا تلائم العصر
مما يمكن ملاحظته في الطبيعة السياسية لحكومات اليوم، هو تكرار الأساليب التعسفية نفسها، وتواجد الوجوه الانتهازية نفسها، من المنافقين الذين يعرفون من أين تؤكَل الكتف، وهو ما حدث قديما حتى في حكومة النبي (ص)، الذي عانى من المنافقين كثيرا، وسعى لنشر اللاعنف في سلوكيات المجتمع، لكن الانتهازيين المرضى بالنفاق والأنانية لم تثمر معهم الثقافة الجديدة وآثروا عليها طبائعهم القديمة التي تميل إلى ترجيح العنف والتطرف على سواه!.
يقول الإمام الشيرازي: (على الرغم من أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، عكف على تربية المسلمين على اللين واللاعنف وبذل كلّ ما بوسعه من أجل إخراجهم من نزعات الجاهلية الأولى، إلاّ أنّ البعض منهم لاسيما المنافقين، لم تؤثّر فيه تلك التربية حيث بقيت أنفسهم تميل إلى طبائعها القديمة التي منها العنف والبطش).
في مجتمعاتنا اليوم يوجد المنافقون الانتهازيون مثلما وِجِدوا في العصور الغابرة، وهؤلاء لا يعترفون باللاعنف، ولا يؤمنون به، ما يريدونه هو مصالحهم الشخصية أو الفئوية حتى لو استخدمت العنف سبيلا إلى أهدافها هذه، ويعني هذا أن أصل ثقافة العنف متجذر في هؤلاء، مما يعني استمرارا للاستبداد، وتوالداً للأنظمة الفردية المستبدة التي كانت ولا تزال تقف وراء تفشي الجهل والتخلف وغياب العدالة الاجتماعية.
في عالم اليوم لم تعد أنظمة الاستبداد ملائمة، ولم تعد طبيعة الحياة والعلاقات السياسية الدولية وغيرها، ملائمة لمثل تلك الأنظمة، فالتطور الهائل على الأصعدة كافة، يستدعي الانفتاح ونشر حرية الرأي والفكر والإبداع والابتكار، من خلال نشر ثقافة السلم واللاعنف واعتماد روح المنافسة العادلة، والتخلي الكامل عن كل أساليب وأنواع العنف المادي واللفظي.
نحتاج إلى صناعة جديدة للإنسان في مجتمعاتنا، إنسان لا يؤمن بالعنف، يرفضه بكل أنواعه، هذا يسهم بقوة في خلق مجتمع مسالم متجانس ينحو إلى التعاون والتكافل، وينتهي إلى تكوين منظومة فكرية لفظية مشذّبة من الخشونة بأنواعها، وهو أمر قابل للانجاز، حتى الأفراد بإمكانهم الاشتغال على أنفسهم لتغيير سلوكهم من العنف والغلظة إلى اللاعنف والسلم، وذلك من خلال تدريب النفس وجوارح الإنسان وحتى لسانهِ على اللين والعفو والتسامح، وصولا إلى مجتمع خالٍ من التطرف ومن كل آليات ومسببات التضارب والاقتتال وتصادم المصالح.
الإمام الشيرازي يقول في المصدر نفسه: (عندما يطبّع الإنسان نفسه على اللين واللاعنف، فإنّ آثار ذلك يوماً بعد آخر ستنعكس على سائر جوارحه وجوانحه، ومن تلك الجوارح المهمّة التي طالما أكّد الإسلام على تطبيعها باللاعنف هو اللسان، ذلك العضو الذي كثيراً ما يأخذ بيد الإنسان إمّا إلى الهلاك والضياع المحتوم أو إلى السعادة).
نخلص مما تقدم إلى أن الاستبداد هو المنتِج المحرِّك الأول للعنف، وبزواله كثقافة وسلوك من الفرد والمجتمع، تزول كل مسببات العنف، ويغدو المجتمع أقرب إلى التعاون والتسامح والانفتاح، والانشغال بما ينشغل به عالم اليوم من آليات التطور والتقدم والانتماء إلى روح العصر وعلاماته.
اضف تعليق