نموذج الدولة الناجحة كان يتوافر في الدولة الاسلامية، ابان الإدارة المتميزة لقادتها العظماء، فقد كان سياسة الدولة الاقتصادية تقوم على ضغط النفقات، بما يحقق لها اقصى ربحية مرتقبة، ليس الضغط هنا بمعني التقتير وإنما التدبير، فالشعب عندما يحصل على حياة كريمة، والانسان عندما يجد فرصة عمل تليق به وبمؤهلاته، عند ذاك يعيش الجميع حياة مستقرة، تتميز بالتطلع نحو الأفضل دائما، لذلك كانت الدولة الاسلامية في عهد الرسالة النبوية الشريفة، تقوم على التدبير والاقتصاد المدروس، على الرغم من قلة الخبرات الاقتصادية آنذاك، ولكن لم يكن هناك وفرة في الموظفين، ولم تكن الدولة تزج نفسها في جميع المشاريع، كبيرها وصغيرها، كذلك أسهمت الحريات الواسعة المعطاة للناس بصورة عامة الى تطوير العمل والمشاريع الفردية والجماعية، وهذا ما ساعد بالفعل في التخفيف عن كاهل الدولة بخصوص كثرة الروات والاجور الشهرية وما شابه، لذلك لم تكن الدولة آنذاك تعاني من كثرة الرواتب ولا تعاني تضخما في الجهاز الاداري والموظفين، لدرجة ان نسبة العاملين آنذاك لا يتجاوز الواحد بالمئة من نسبة العاملين في الدول المعاصرة الآن.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) بكتابه القيّم، الموسوم بـ (الاقتصاد من المنظور الاسلامي) حول هذا الجانب: (إن تكاليف الدولة الإسلامية في أمر الدوائر والموظفين أقل من واحد بالمائة، من تكاليف الدول في الوقت الحاضر).
لذلك لابد أن يتنبّه قادة الدولة في عصرنا الراهن، الى اهمية ضغط نفقات الدولة الى اقصى حد ممكن، لاسيما في مسألة التضخم بالجهاز الاداري المنتمي الى القطاع الانتاجي او الخدمي للدولة، ولابد من التخطيط المدروس لرفع هذه المسؤولية عن كاهل الدولة، من خلال اجراءات عملية يضعها ويخطط لها خبراء في الاقتصاد، لأن تضخم الجهاز الاداري في الدولة، وزيادة أعداد الموظفين والعاملين، يؤدي الى استحالة ضغط نفقات الدولة، بالإضافة الى التشجيع على ظاهرة البطالة المقنَّعة، وكذلك تشجيع الناس على النمط الاستهلاكي بدلا من الانتاجي، فيصبح الجميع عالة على الدولة، يصبهم الكسل، ويكرهون العمل، فيما تتحمل الدولة عبء هؤلاء من خلال دفع رواتبهم، مع انهم لا ينتجون شيئا، بل يستهلكون فقط، وينهكون ميزانية الدولة برواتب قد تعجز الحكومة عن توفيرها في بعض الاحيان لاسيما في الدول الفقيرة.
لهذا يحذّر الامام الشيرازي من هذه الظاهر، قائلا بوضوح: إن (التضخم في جهاز الموظفين في الدولة هو أسوء من التضخم في الاقتصاد، بل قد يكون هو من أسبابه لأن التضخم في الجهاز الوظيفي، إذ يجعل المنتجين مستهلكين).
الحريات وقلة النفقات
من الواضح ان إطلاق الحريات امام الطاقات الكامنة للامة، سوف يساعد على العمل الحر، وقطف ثمار الانتاج، بعيدا عن تدخلات الدولة، وبعيدا عن ارهاقها بقضية الاجور والرواتب وما شابه، فعندما ترسم الدولة خطوطا واضحة لتقليل نفقاتها، ينبغي أن تمنح الناس حرية العمل وتقلل من القيود في هذا الجانب، علما ان العمل بحرية والانتاج الجيد سوف يقود الى رخاء أفضل لسائر الناس، وسوف يسهم في نشر الرخاء فيما بينهم.
وهكذا سوف تكون نفقات الدولة أقل، لأنها أعطت الحريات الواسعة للعمل والانتاج، من دون ان تضع قيودا أو تدخلات تكبل المشاريع أو تحد منها، كذلك عندما يحصل المواطن على ارباح جيدة بسبب جهوده التي بذلها في اجواء العمل الحرة، فإن السعي نحو الانتاج الافضل سوف يتضاعف، وهذا بدوره سيقود الى وفرة في الانتاج ومضاعفة الارباح والاغنياء.
كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي بكتابه المذكور آنفا، حيث يقول سماحته في هذا الشأن: ينبغي (توسيع الحريات في جميع المجالات، فإن الناس حيث كانوا يتمتعون بحرية واسعة في ظل الحكم الإسلامي كانوا يعملون بكل جد وإخلاص، والطريق أمامهم مفتوح، ولهذا كانوا يثرون، وقلما يوجد إنسان محتاجاً).
وعندما تكون هناك رفاهية بسبب الغنى، نتيجة للانتاج الافضل في ظل الحريات، سوف يكون هناك أمن، وتنتشر الأجواء المشجعة على العمل، وتقل الجرائم بصورة آلية، بسبب تحسّن الامور المادية وتصاعد المستوى المعيشي، يرافق كل هذه المزايا التي تعد من مواصفات الدول القوية المستقرة، تقليل في نفقات الدولة، وهذا هو الهدف الاساس من توسيع الحريات، وتقليل القيود، وتعميم الأمن، كل هذه الامور بالنتيجة سوف تساعد الدولة على تنفيذ خططها، في قضية ضغط النفقات، للتفرغ الى الغايات الأهم، وهذه العملية تهدف الى إشراك الشعب في تحمل الاعباء المالية، فلا يصح ان تكون الدولة مسؤولة عن اطعام شعب لا ينتج، ولكن من مسؤولية الدولة ان توفر الاجراءات والعوامل المساعدة على الانتاج ومنها توفير الحريات.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (إن الدولة الإسلامية - المنشودة- لكثرة ما فيها من الحريات وقلة ما فيها من القيود، وبفضل مناهجها الموجبة لتعميم الأمن والرخاء، والموجبة بدورها لقلة الجرائم، فإنها بفضل هذه المزايا، ستكون قليلة النفقات).
الاكتفاء بدور الإشراف
من الخطوات العملية المهمة التي تُسهم في ضغط نفقات الدولة، أنها لا تزج نفسها في القيام بالمشاريع الحيوية، وعليها أن تشجع غيرها بالقيام بذلك، على أن تكتفي بدور الاشراف والمتابعة والتصحيح والمراقبة وما شابه، فالدخول في مثل هذه المشاريع سوف يجهد الدولة ويشغلها، وسوف يجعلها محاصرة بالنفقات الكبيرة التي قد تعجز عن توفيرها، خاصة اذا كانت الموارد ضعيفة او معدومة، أو ان الموارد موجودة لكنها تستخدم بصورة فاشلة كما يحدث الان في بعض الدول الاسلامية ومنها العراق، حيث تذكر المصادر الموثوقة صرف اكثر من 30 مليار دولار على الكهرباء!! ولا يزال هذا القطاع يعاني من الفشل والفساد، إن زج الدولة نفسها في المشاريع بدلا من الاشراف عليها سوف يعرضها للإفلاس، خاصة اذا كانت اجهزتها الرقابية ليست مهنية بما يكفي.
لذلك (يجب أن تكتفي الدولة الإسلامية بالإشراف على المشاريع الحيوية عوضا عن القيام بنفسها بتلك المشاريع). كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في كتابه (الاقتصاد في المنظور الاسلامي).
ولابد من اتخاذ الاجراءات العملية الاقتصادية التي تسهم فعلا بضغط نفقات الدولة، ومنها على سبيل المثال، سياسة منح القروض لمن يرغب بفتح مشاريع انتاجية صغير او كبيرة حسب القدرة المتوافرة، ولكن لابد من تطبيق الشرط الاقتصادي السليم على حالات منح الدولة اموالا للمواطنين من اجل العمل او فتح مشاريع انتاجية، وأول هذه الخطوات لا ينبغي اعطاء المال للأشخاص القادرين على الانتاج الفردي او الجماعي، وانما تخصيص هذه الاموال بصورة فعلية لمن يحتاجها فعلا، حتى لا يساعد ذلك على نشر حالة الخمول في المجتمع، ويصبح القادر على الانتاج متكاسلا، علما ان الدولة مسؤولة بصورة تامة عن توفير فرص عمل مناسبة ولائقة، لجميع العاطلين من خلال التشجيع والتدريب والاشراف والتوجيه وما شابه.
لذلك يرى الامام الشيرازي:(أن الدولة الإسلامية، لا ينبغي أن تعطي المال الى من يتمكن من العمل، بل تعطي المال للضعفاء والعجزة، ولمن ينقص مكسبه عن حاجياته، أما الذين يعانون من البطالة فتهيئ لهم الدولة فرص العمل والتشجيع عليه).
اضف تعليق