q
العمل على إنشاء مؤسسات عالمية تمنع انتاج الأسلحة التي تسعى لتدمير البشرية وإبادتها من أجل تحقيق المصالح الضيقة للدول الكبرى والتي لاهم لها سوى تعزيز نفوذها وهيمنتها على العالم وإذكاء الفتن وتعزيز كل الجهود التي تعمل على إبقاء الإنسانية ساحة صراع وتوتر وحروب دائمة...

مرة أخرى، وبفعل هيمنة المنطق المادي، والتوحش الاستعماري، وهاجس التسلط على مقدرات الإنسانية عبر افتعال الأزمات والمشاكل بين الدول؛ تطل من نافذة المصالح الإيديولوجية صورة أخرى لحرب ستحرق إذا ما نشبت لاسمح الله الأخضر واليابس محدثةً الدمار والتخريب. لازال جنون العظمة، والتطبيق الحرفي لمقولة (أنا ربكم الأعلى) أنموذجين فاعلين يتحكمان بمصير الوجود البشري القابع في خدر فكري مستسلماً لعناصر العولمة المتوحشة، بينما تجتهد قوى الشر في تدعيم مصالحها بهدوء مستثمرة انشغال العالم بتعطيل عقله واستبداله بآليات الاتصال الجاهز، والذي يمكن أن يتصل بكل شيء إلا بالبحث الجاد والرصين عن مستقبل إنساني يرفل بالسلم مطمئناً ومبتعداً عن العنف.

ولكن، ومع هذا التاريخ الطويل للبشرية، والحافل بصور كثيرة لمآسي الشعوب جراء الحروب التي اندلعت ويراد النفخ في رمادها لتندلع من جديد؛ هل فكرنا بمسببات هذه الحروب؟ وإذا كانت ثمة أصوات ظهرت لتقف بالضد من الدمار والاستعمار والتوحش، لماذا لم ندرس القيمة الفكرية العالية لما نادت به من ضرورة التوقف عند مسببات إشعال الفتن والحروب؟

والجواب طبعا اننا لم ندرس ونتفحص مقولات المفكرين؛ لأننا نبتعد عنهم بمساحات شاسعة ساهمت العولمة في زيادة مسافات الابتعاد بذريعة أن هؤلاء المفكرين ضد التجديد والحداثة التي يُراد اختصارها بمظاهر الشذوذ وانقلاب الأخلاقيات والقيم، ثم التبرير الممنهج لهذا الانقلاب من خلال أدوات معرفية مدفوعة الأجر.

مؤسسات منع انتاج الأسلحة

لم تكن الأفكار التي صدرت من المفكرين الإسلاميين بمعزل عن هاجس القلق البشري المتنامي من تكرار مآسي الحروب وآثارها التدميرية، بل أن كثيراً من تلك الأفكار تفردت بطرح الرؤى السلمية العابرة لأحادية التنظير إلى آفاق التطبيق.

ومن تلك الأفكار ما طرحه المفكر الإسلامي المجدد السيد (محمد الحسيني الشيرازي) في نظريته الأكثر جدلاً وهي نظرية (اللاعنف) التي أراد بها تضييق الهوة بين الحلم بمستقبل إنساني يليق بكرامة الإنسان وقيمته، وبين السعي الجاد لتحقيق هذا الحلم.

والسيد الشيرازي في سعيه هذا يؤكد على قضيتين أساسيتين ترتبطان معاً لتحقيق هذا الهدف:

1/ تدعيم الداخل وتحصينه وقطع الطريق أمام ذرائع التدخلات الخارجية، وهنا يلزم الانتباه إلى مسألة التصدي إلى ظاهرة انتشار الأفكار المنحرفة وتبنيها وإلهاء الآخرين بها؛ ليسهل على القوى العالمية الاستعمارية التدخل وتنفيذ الأهداف بشكل يسير ومن دون معرقلات.

وتدعيم الداخل يكون من خلال انشاء مؤسسات تتبنى التصدي العلمي والمعرفي لانتشار الأفكار التي لا تلائم الخصوصيات المجتمعية وتنخر في جسدها فيقول : "لقد امتلأت الدول الإسلامية بالمبادئ الباطلة سواء منها المبادئ الإلحادية، أم المنحرفة الدينية، أم المنحرفة الحزبية، ولا يكفي في كفاح هذه المبادئ وعظ الخطباء وكتب المؤلفين ومكافحة الحكومات المخالفة لها ، بل اللازم أن تنظم منظمات شأنها تتبع المبدأ، وإيقافه عند حده أولاً ،بمختلف الوسائل "1

والعمل المؤسسي في ظل زمن تتحكم فيه العولمة من البعد السلبي لها لابد أن يخضع لآليات واشتراطات تحافظ على النسيج المجتمعي وكيانه الأخلاقي، نعم لا بأس من إنشاء المؤسسات التي تتعاطى مع كل ماهو جديد على صعيد الميديا والإلكترونيات لكن ليس على طريقة الآخر المختلف الذي يصادر محورية الإنسان في هذا الوجود بنظرة مادية فقط.

2/ العمل على إنشاء مؤسسات عالمية تمنع انتاج الأسلحة التي تسعى لتدمير البشرية وإبادتها من أجل تحقيق المصالح الضيقة للدول الكبرى والتي لاهم لها سوى تعزيز نفوذها وهيمنتها على العالم وإذكاء الفتن وتعزيز كل الجهود التي تعمل على إبقاء الإنسانية ساحة صراع وتوتر وحروب دائمة تنتعش من خلالها عمليات انتاج وبيع هذه الأسلحة الفتاكة.

فكرة المفكر الشيرازي هنا، وتأكيده على عولمة المؤسسات بهدف تضييق ممكنات الحرب والدمار؛ جديرة بالبحث والتأمل؛ كونها انطلقت من اتجاهاته الإسلامية المؤكدة دائماً على إحلال السلام في ربوع العالم وعدم اللجوء إلى العنف والعنف المضاد، فإنشاء مثل هذه المنظمات والمؤسسات من شأنه أن ينعش الأمل الإنساني بالسلم العالمي. ولا بأس أن تعاضد هذه الهيئات والمنظمات مؤسسات أخرى تتبنى اللاعنف كهدف رئيس لها فتتوحد جهود المؤسستين من أجل بلوغ الهدف الأسمى في السلام و الحفاظ على البشرية من الإبادة.

ولو عدنا لأصل تساؤلنا السابق وسألنا : لماذا لانقرأ بعمق وندرس مثل هذه الأفكار التي ظهرت وتظهر من أشخاص عاشوا بيننا؛ لوجدنا اننا نطبق العبارة الشعبية المتهكمة (نطرب عالغريب)، والغريب هو الذي يستغل طربنا التقليدي المنقاد من أجل الإيغال فينا، واستثمارنا لتحقيق غاياته واهدافه، الأمر الذي يجعلنا نساهم من دون وعي في ترسيخ وتأصيل الصورة النمطية عن مجتمعاتنا بأذهان الآخرين الذين لا يصدقون أن مثل هكذا عقليات تنويرية معتدلة وتنادي بالسلم تظهر في بيئاتناز

نحن اليوم أكثر المعنيين بإعادة قراءة أفكار عظمائنا من العلماء والمفكرين؛ لأننا مستهدفون وأماكننا ساحات حرب لتصفية الصراع العالمي بين القوى الاستعمارية على الثروات والنفوذ.

--------------------------
1: محمد طالب الأديب، ألف كلمة وكلمة للمجدد الشيرازي الثاني : 227

اضف تعليق