q

ان تاريخ المرجعية الدينية العظمى في المنطقة هو تاريخ حافل بالإنجازات القيمة والكبرى، ولقد انتهت الرئاسة والقيادة المرجعية إلى جمهور من عباقرة الأمة وأساطين الدين وزعماء الفكر الإسلامي ومنهم المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي، وعلى الرغم من صعوبة تحديد انجازاته هنا في صفحات خصصت لذكرى وفاته، نذكر بإيجاز بعض خصال ومزايا هذه الأسرة العملاقة، وتاريخه العلمي وجهاده الخالد، وخاصة فكره السياسي حول النظام السياسي الاسلامي.

السادة من آل الشيرازي هم أعرق الأسر العلمية العلوية في كل من شيراز وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف وسامراء، وأشهرها في الملأ الشيعي، حيث نبغ منها جمهور كبير من أعلام الفكر وفرسان البيان وزعماء الدين وأبطال الجهاد وكانوا من حملة لواء العلم ودعائم المذهب والمرجعية العظمى خلفاً عن سلف، أباً عن جد، كان لهم دور فاعل في العالم الإسلامي والمجامع العلمية العالية والنوادي الأدبية لأكثر من قرنين، وإن آثارهم ومآثرهم غرة ناصعة في جبين الدهر تتلألأ ما دامت الحياة، وكان لهم تأثير واضح وكبير في صناعة الأحداث التي مر بها العالم الإسلامي، خصوصاً في البلدين المسلِمَين" إيران والعراق".

كل أرجاء العالم في نظر الامام الشيرازي ملك لله ووطن لعباده، وكان -قدس سره- يعيش حالة صراع دائم مع الكرب والبلاء الذي نزل بالإسلام والمسلمين؛ ولذا كانت كربلاء وشيراز عنده سيان، ويهتم بالهند وأوروبا وآسيا وأفريقيا على حد سواء، كان ينتظر يوماً ترتفع فيه راية التوحيد على جميع بقاع الأرض، ويرفل العالم أجمع، في ظل الحكومة الإسلامية العالمية، بالسلام، ويحقق السعادة والفوز بالآخرة، وإذا تعمقت في النظر فسوف ترى أن صوته لا يزال ينطلق من آلاف الكلمات التي كتبها في آلاف الدفاتر والكتب، ويصل إلى الأسماع، ولازالت سحابات كلماته تمطر مطر المحبة والعقل والرحمة، ونحن احتراماً لذكرى رحيله نحاول أن نفتح فصلاً من فصول كلماته الكثيرة، وهو نظام الحكومة الإسلامية.

ان الامام "آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي" نادرة من نوادر التاريخ الشيعي، في شخصيته، وسيرته، وفكره، وآثاره، وتتجلى جوانب العظمة في هذه الشخصية الفريدة مع مرور الأيام، وينمو الأثر الذي تركه على الناس عاماً بعد عام، فهو في الدرجة الأولى مؤمن شديد الإيمان بالله واليوم الآخر، متدين شديد المحبة لأهل البيت (عليهم السلام)، وكان زاهداً في زخارف الدنيا ومباهجها، ثم هو مرجع للفتوى، وزعيم ديني، من الطراز الأول.

ومن ينظر إلى كتبه ومؤلفاته يراه صاحب نظرية فكرية للنهوض بالأمة، وبناء مجتمع سعيد، ليس إلا، وصاحب فكر مستقبلي، ليسير بالأمة نحو مستقبل مرسوم بكل دقة نحو الهدف الأسمى وهو الالتزام بالدين وعمل الخير.

يؤكد الإمام الشيرازي على ضرورة بناء الكيان السياسي الإسلامي من جديد، فقد كان يعتقد أن جميع الأحكام والدساتير الإسلامية كحقيقة مطلقة في التسليم الوجداني التي يؤمن بها الناس، ولها من الاستحكام النظري، والدعم بالبرهان القوي، ما يحملك، بمجرد تصورها، على تصديقها فوراً، ولذلك اهتم الراحل الكبير بشرح فلسفة الأحكام والحكمة في التشريع الإسلامي اهتماماً خاصاً، ولم يدخر أية وسيلة لإصلاح قناعات المسلمين بالنسبة للتعاليم الإسلامية، لتهيئة الأجواء المناسبة لإيجاد نظام سياسي إسلامي يستند على الجماهير، فقد حلل بعمق الأوضاع العالمية من جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبنظرة مستقبلية، وخاصة أوضاع البلاد الإسلامية والمسلمين، وقد بين السيد الشيرازي في تحليله لمشاكل المسلمين بالقول "أن جميع مشاكل المسلمين تصدر من جهة واحدة، وهي أنهم، أي المسلمين، يفتقرون إلى حكومة إسلامية واحدة"؛ من هنا دعا المسلمين إلى تشكيل الحكومة الاسلامية القادرة على حل المشكلات العديدة التي تعاني منها البلاد الإسلامية، واستغلال كل الإمكانات المتوفرة من اجل تحقيق هذه المطالب، وقد كان الراحل الكبير متحمسا لهذا المطلب ومتلمسا بدعواه من الله تعالى بقوله "الله سبحانه المسؤول والمأمول أن ينقذ المسلمين من براثن الشرقيين والغربيين، والمنصوبين من قبلهم حكاماً على بلاد المسلمين، لترجع دولتهم الواحدة ذات الألف وخمسمائة مليون مسلم، وما ذلك على الله بعزيز..... والله سبحانه المسؤول أن يوفق البشرية لاتخاذ سبل السلام والانضواء تحت لواء الإسلام الذي ينتهي بهم إلى السلام في الدنيا ودار السلام في الآخرة".

وحول نوع النظام الاسلامي في فكره، فإن الإمام الشيرازي يرى أن يكون من النوع الاستشاري (الشورى) في مقابل النوع الدكتاتوري، ورغم كون النظام الاستشاري نظاماً ديمقراطياً، إلا أنه بعيد عن جميع العيوب والنواقص التي ابُتليت بها الأنظمة الديمقراطية المعروفة اليوم في العالم؛ ففي رأي الأمام الشيرازي "أن أحد معايب النظام الديمقراطي المعمول به اليوم، هو عدم وجود الحرية بمعناها الواقعي، وما الحرية التي يدعونها إلا كحرية الطير داخل القفص، بينما يتمتع الإنسان في ظل النظام الإسلامي بحرية واقعية، ولا يستطيع أي شخص أو مسؤول حكومي أن يسلب منه هذه الحرية، وفي ظل هذا النظام الحكومي تدار السلطة من قبل شورى الفقهاء والجامعين للشرائط الذين تنتخبهم الأكثرية بحرية مطلقة وبلا إكراه"، وعلى الرغم من رؤية الامام الراحل للنظام السياسي الإسلامي بانه قائم على مبدأ ولاية الفقيه، إلا أنه لا يقوم على ادارة شخص واحد، بل على اساس شورى للفقهاء المنتخبين من قبل الأمة، لوجود فقهاء جامعين للشرائط، ذلك لأن قيام حكومة الفرد الواحد بأي عنوان كانت سوف يقود بها المطاف إلى الاستبداد والدكتاتورية، وعليه فان الحكومة الاستشارية هي التي تقوم على آراء الأمة والانتخابات، وتنقسم إلى نوعين: ديمقراطي وإسلامي، وللاستدلال على إطلاق تلك التسميات يكتب سماحته: "وحيث أن الدولة الإسلامية... يكون رئيسها الفقيه الجامع للشرائط الذي تنتخبه الأمة، فإن الإسلام لا يقبل كون الدولة إسلامية إلا بشرطين: كون قانون الدولة قانون الإسلام، وكون رئيس الدولة رجلاً ترضاه أكثرية الأمة، وبدون هذين الشرطين فكل أعمال الدولة غير نافذة، والسبب أن يكون الفرد الحاكم المنتخب من الفقهاء الجامعين لشرائط الفتوى والإدارة، ذلك لأن الناس مسلمون ويريدون أن تدار شؤونهم العامة طبقاً للتعاليم الإسلامية.

يرى الإمام الشيرازي أن الهيكلية السياسية في النظام الإسلامي يجب أن تقوم على أساس من الشورى، وفي رأيه أن أي نظام يكون أنفع للمسلمين، ولا يؤدي إلى الاستبداد وسيطرة الظالمين عليهم، يجب على المسلمين الأخذ به والسعي إلى تأسيسه. والنظام الوحيد الذي يتمتع بهذه الصفات هو النظام الشوروي في مقابل النظام الديكتاتوري الاستبدادي، ويستدل الإمام الراحل على وجوب تأسيس النظام على أساس الشورى، من لزوم ووجوب إدارة أمور الأمة بيد الأشخاص الأكفاء، وهذا لا يتحقق إلا في ظل نظام الشورى.

إذْ يقول في هذا الصدد: "إن النبي(ص) كان يأخذ بالمشورة في بعض الأمور، كما في غزوة بدر وغزوة الأحزاب وغيرها، وإذا كان النبي(ص) على عظمته يأخذ بالشورى حسب ما أمره الله سبحانه وتعالى (وشاورهم في الأمر) (آل عمران/159)، في الأمور التي كانت أقل خطراً من الولاية، كان لزوم الأخذ بالشورى لغير النبي(ص) الذين هم دونه (ص) في العقل والدراية، في الأمر الأهم الذي هو الولاية، بطريق أولى، فنحن مأمورون بالاقتداء به (ص)؛ حيث قال سبحانه وتعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (الأحزاب/21) ولو نوقش في الأولوية، فلا إشكال في كون ذلك من المؤيدات".

كما يؤكد المرجع الراحل بأن النظام الشوروي، هو الأقرب إلى طاعة الله سبحانه، والأكثر اتساقاً مع مصلحة الأمة، بقوله: "إنه لا إشكال في أن كل نظام كان أقرب إلى طاعة الله، وأبعد عن سيطرة الظالمين، وأنفع للمسلمين، فهو واجب لا يجوز التنازل عنه إلى نظام ليس كذلك، ولاشك أن نظام الشورى فيه هذه الخواص؛ إذ ليس في قبال الشورى إلا الديكتاتورية، والمجتهد العادل، وإن لم يكن مغيراً لأحكام الله بلا شك، لغرض أنه يفهم الأحكام، وأنه عادل لا يغير حكم الله، إلا أنه لاشك في كونه بشراً يخطئ ويصيب في تنفيذ الأحكام، وفي من يختاره من المنفذين؛ فربما كانت المصلحة الصلح مع الأعداء وهو يحارب أو بالعكس...".

كما ويؤكد الامام الراحل على شورى المراجع، وهم مجموعة من الفقهاء العدول تتوفر فيهم الشروط المطلوبة لتولي منصب الولاية الفقهية، وهذه الحالة الطبيعية في الدولة الاسلامية، ويتم من خلالها انتخاب احد هؤلاء الفقهاء ليكون حاكما او تشكيل مجلس مشترك يجمعهم يسمى (مجلس شورى الفقهاء) لإدارة البلاد، وشورى الفقهاء لا تتعارض مع مبدأ ولاية الفقيه، بل هي بعينها، الا انها تختلف عنها في طريقة ادارة الحكم، ففي ولاية الفقيه المطلقة تدار من قبل شخص واحد، لايشترط فيه مرجعية التقليد، له السلطة المطلقة، بينما في شورى المراجع تكون السلطة والولاية لمجموعة فقهاء من جامعي الشرائط المحددة للاختيار، هنا يبرز الفكر الديمقراطي للمرجع الرحل في طريقة ادارة الحكم وعدم جمعها بيد شخص واحد حتى لو كان جامعا للشرائط، بل يجب ان تكون لمجموعة فقهاء عدول في الدولة.

وحسب ما يعتقد الإمام الشيرازي فإن الالتزام بهذه الميكانيكية والآلية يستوجب إيجاد نوع من الرقابة الذاتية في القيادة، ويمنع من الانفراد الاحتمالي بالسلطة؛ لأن القيادة إذا كانت تحت الرقابة المستمرة والإشراف الدائم ستبذل قصارى جهدها من أجل التقليل من الانحرافات والخطأ الذي قد يطرأ عليها أو على مستشاريها، وعلى النقيض من ذلك، إذا تصور الحاكم ديمومة حكومته وأنه ليس مسؤولاً أمام أي مرجع أو مقام قانوني، فإنه سيؤول أمره شيئاً فشيئا إلى الاستبداد والفردية في الحكم، وسيؤدي ذلك إلى هلاكه وهلاك الأمة معه.

ان قراءة الإمام الشيرازي للنظام السياسي الإسلامي وسائر الأنظمة الديمقراطية القائمة في العالم، سيظهر لنا بوضوح مدى تطور قراءة الإمام وتفوقها على سائر النظريات.

من حيث المشاركة في شؤون ادارة الدولة، اذ ان الديمقراطيات الغربية وغيرها تضع مصير الامة في يد مجموعة قليلة من الناس وهم المنتخبين، بينما يعتقد الإمام الشيرازي في نظريته حول النظام السياسي الإسلامي، بضرورة وحق مشاركة جميع آحاد الأمة في تقرير المصير.

إن ولاية الفقيه المطبقة في ايران هي تدار واقعيا بصورة فردية، فمع تأكيد الدستور على الأسلوب الشوروي في إدارة الدولة، لكن الإمام الشيرازي يعتقد أنه في هذا العصر الذي يتميز بكثرة الفقهاء، يجب أن تكون إدارة البلاد بصورة شوروية من مجموع الفقهاء.

كما ان نص الدستور الايراني لعام 1989 المعدل، على ان الولي الفقيه لايشترط فيه مرجعية التقليد، بل الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء‌ في مختلف ابواب الفقه المادة (109)، هنا يعني ذلك تجاوزا للعديد من مراجع الدين الكبار الذين لهم دور في الحياة الاجتماعية للدولة.

إن مدة الحكومة للولي الفقيه على أرض الواقع هناك تدوم مادام على قيد الحياة، علماً أن أعضاء مجلس الخبراء الإيراني يتم انتخابهم كل ثماني سنوات، وتشكل الرقابة والإشراف على مهام القيادة إحدى المهام الدستورية لهذا المجلس، لكي يمكنه عزل القيادة في حالة فقدانها للشروط، ولكن آلية صعود هؤلاء إلى المجلس تتم بصورة تمنعهم عملاً من ممارسة المسؤوليات الموكلة إليهم.

إن الدستور الدائم الإيراني يؤمن بولاية الفقيه المطلقة، بينما يقيدها الإمام الشيرازي بالالتزام بالأحكام الإسلامية ورضى الأمة.

إن الحاكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لديه مهام ومسؤوليات تنفيذية لا تمكنه في الواقع من القيام بمهمة الإشراف والرقابة على أجهزة الدولة، بينما يعتقد الإمام الشيرازي أن الحاكم يجب أن يتجنب المهام والمسؤوليات التنفيذية في الدولة، لكي يتمكن من القيام بدور الرقيب والمشرف على أداء الجهاز الحكومي والإداري على أحسن وجه.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

......................
المصادر:
قبسات من كتاب " فقه المستقبل" للإمام الراحل الشيرازي "قدس سره الشريف"، على موقع، www.m-alshirazi.com/print.php?id=1687
فرهاد الهيان، النظام السياسي الإسلامي كما يراه الإمام الشيرازي (قدس سره)، ترجمة: عباس كاظم، على موقع، www.annabaa.org/nba66/nitham.htm
د. خالد عليوي العرداوي، الفكر السياسي عند السيد محمد الحسيني الشيرازي، ط1، مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستر اتيجية، 2009، ص ص129-156.
الإمام الشيرازي في سطور، على موقع،
www.alshirazi.com/autobiography/shirazi/shirazi.htm
جماعة من العلماء. أضواء على حياة الإمام الشيرازي، ط4، (لبنان، بيروت)، 1993، ص 13، www.ahlulbaitonline.com/karbala/New/.../book.php
حسين صالح الشيخ، تأملات في الفكر السياسي عند الإمام الشيرازي، على موقع، www.alshirazi.com/roaa/books/alhekmah/part1/7.htm

اضف تعليق