يذهب المفكرون المحدثون الى أن طبيعة الصراع بين الحضارات ثقافي أولا، ثم ينعكس على البنى السياسية والاقتصادية وسواها، وعندما تتفوق ثقافة على سواها، فهذا يعني تحقيق الغلبة في المجالات كافة، ذلك أن الأمة المثقفة ذاتيا، لا يمكن أن تغفل الأسس السليمة للبناء السياسي والاقتصادي والتعليمي والصحي وسواه، لدرجة أننا يمكن أن نحسم النتيجة لصالحة الأمة المثقفة الواعية التي تعمل بجدية على تطوير العوامل التي تجعل منها أمة متفوقة وقائدة.
ماذا يعني هذا القول، هل يجب علينا أن نتثقف أولا ونبني ثقافة متميزة قادرة على أن تمنحنا أسباب القوة والتفوق على الطرف المخالف لنا، والذي يريد أن يهيمن علينا، كما تشير الى ذلك الطبيعة البشرية؟، نعم نحن بحاجة الى أن نبني أنفسنا ثقافيا، وأن نتفوق على الثقافات الأخرى، لاسيما أن الساحة باتت مكشوفة على المستوى العالمي لجميع الثقافات، ولابد أننا لاحظنا كيف تسعى الأمم الأخرى لنشر ثقافتها في محاولة لتدمير ثقافتنا، فإن تحقق ذلك وانهزمت ثقافتنا أمام الثقافات المستوردة، فهذا يعني هزيمة محققة لنا في جميع المجالات، لهذا علينا مواجهة الثقافات المستوردة بعد هدم الثقافة القديمة والشروع بالبناء الثقافي بعد معرفة الأمراض الذاتية.
في هذا المجال يؤكد الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، كما جاء في كتابه الموسوم بـ (السبيل الى إنهاض المسلمين) على أننا نحتاج: (لبناء الشخصية الإسلامية ثقافياً الى مرحلتين طبيعيتين هما: الهدم أولاً.. والبناء ثانياً.. فالمرحلة الأولى هي تحطيم الثقافات الغازية، وهدم البنى الفكرية المستوردة، والثانية معرفة الأمراض الكامنة في جسد الأمة، وذلك لأن الإنسان ما لم يعرف المرض لا يستطيع معرفة العلاج).
وحتى تكون الإجراءات الفعلية للبناء الثقافي صحيحة، علينا أن نعرف أمراضنا، ونقاط الضعف التي تعتري واقعنا في المجالات كافة، وفي المقابل علينا أيضا أن نفهم الطرف الآخر، كيف يفكر وما هي سبل الحرب الثقافية التي يخوضها ضدنا، فمعرفة النفس ومعرفة الآخر تفصيليا تقف من حيث الأهمية في درجة واحدة، وهذا يتطلب ممن يعنيه الأمر فهم العلل الذاتية أولا، وفهم نقاط ضعف الآخرين، كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (علينا معرفة أسباب تخلّفنا، وعلل استعمارنا واستغلالنا وعوامل سيطرة الديكتاتوريين والعملاء علينا، وأسباب تبعض المسلمين وتشتتهم إلى دويلات متناحرة؟).
المسترشدون بضياء الفكر المتوقد
وحتى نكون قادرين على إحداث التأثير في الآخر، ونكتسب قدرات الإقناع، فإننا في هذه الحالة نحتاج الى الوعي اللازم والثقافة المتميزة التي تمنحنا مفاتيح الدخول الى عقول الآخرين وقلوبهم، فكل الدلائل تؤكد على أن الإنسان الجاهل لن يكون قادرا على إقناع أحد مهما حاول ذلك، تبعا للقانون الشهير (فاقد الشيء لا يعطيه) فكيف يتمكن جال من منح العلم والثقافة للآخر وإرشاده الى سبل النور.
هنا بالضبط تكمن أهمية أن نكتسب الوعي والثقافة من خلال تطوير الذات علميا وثقافيا بالدراسة المنهجية والتطوير الطوعي للذات، فهذه النقاط الإجرائية كما نلاحظ ذات جهد فردي بحت، يعتمد على الرغبة الذاتية والاندفاع لتطوير القدرات الفكرية الثقافية للإنسان، حتى يكون عنصرا فاعلا مثقفا مفكرا نوعيا متمكنا من بث الفكر المضيء في ظلمات العقول المخالفة.
لهذا السبب يؤكد الإمام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (على المسلمين أن يكونوا مناراً للضالين بأقلامهم وسراجاً للمسترشدين وضياءً للجاهلين، ذلك أن المسلم الجاهل لا يستطيع إقناع الآخرين بأفكاره عكس العالم العامل).
في حين نحن في ظرفنا الراهن أمسينا في حاجة لا حدود لها، كي نتعلم كيف نواجه الثقافات التي تدفقت علينا كالسيول الجارفة في ظل العولمة، والانفتاح الهائل لوسائل الإعلام المختلفة، فضلا عن (السوشيال ميديا) وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة كالفيس بوك وتويتر ويوتيوب وتلغرام والواتساب وسواها، فكل هذه الوسائل وضعتنا في مواجهة الثقافات الأخرى وجها لوجه، وجعلتنا في وضع لا نحسد عيه في حالة عدم الاستعداد التام للمواجهة.
لذلك من الأهمية بمكان (رفع المستوى الفكري للمسلمين وجعلهم علماء في كافة المجالات حتى لا يكونوا عرضة للتمزق والتحطم إثر ضربات الأعداء وحتى يستطيعوا المقاومة أمام الأعداء) كما يؤكد الإمام الشيرازي على ذلك في كتابه المذكور نفسه، ذلك أننا اليوم نقف في مفترق طرق، فأما أن نكون في حالة استعداد تامة لمواجهة الفكر الآخر والثقافات الوافدة بكل ما تحمله من أخطار على شبابنا ونسائنا وحتى أطفالنا، وأما أن نستسلم لهذه السيول الفكرية الجارفة التي في حالة استسلامنا لها، فإن خطر الذوبان الثقافي سوف يمسخ شخصيتنا ويسلب من القدرة على المواجهة، ومن ثم فقدان فرصة الدفاع الذاتي عن النفس، وهذا بالضبط ما يسعى إليه الطرف الآخر، فعندما نصل الى حالة الاستسلام للآخر، ونعجز عن توفير سبل وأسس ووسائل المواجهة الصحيحة، فإننا سوف نعلن عجزنا عن المواجهة، ونحن قطعا لا نريد أن نصل الى هذه النتيجة الخطيرة.
المساعي الثقافية في البلدان الأجنبية
ليس المطلوب تطوير النفس أو العقل الذاتي فحسب، ولا يمكن الاكتفاء بمعرفة الفكر والعقل الآخر وحيثياته وتوجهاته، بل هنالك مهمة أوسع وأكبر وربما تكون أصعب من المهام الأخرى، ونعني بها تثقيف الأجانب بثقافتنا لاسيما المسلمين من الأقوام الأخرى الذين يجدون في القيم الإسلامية خلاصا وطريقا لهم، هؤلاء ينبغي أن يتم التركيز عليهم بقوة، وينبغي أن يصل إليهم الفكر الإسلامي الحقيقي بقيمه المعروفة الخالية من أشكال التطرف كافة، حتى يكون لهم تأثيرهم على الآخرين من أبناء مجتمعهم، فالتأثير الثقافي بهؤلاء أمر مهم جدا وهدف لا يصح التغاضي عنه أو إهماله، لأن تثقيف هؤلاء وتعليمهم على طرق نشر القيم والتعاليم الإسلامية يشكل مكسبا كبيرا لنا.
كما نلاحظ هذا المعنى في قول الإمام الشيرازي بكتابه نفسه حيث يقول سماحته: ينبغي (تثقيف المسلمين المتواجدين في البلاد الأجنبية بالثقافة الإسلامية وتعليمهم كيفية التبليغ للإسلام، وإعداد المسلمين في البلاد الأجنبية الكبيرة). فقد بات واضحا أن كسب هؤلاء وتعليمهم سبل وطرائق نشر القيم الإسلامية، أمر يصب في صالح المسلمين والبشرية جمعاء، ويصب أيضا في الهدف الأهم الذي يتعلق بأهمية البناء الثقافي الذاتي، ومحاصرة الفكر المستورَد وطرده خارج النسيج الخاص بمجتمعاتنا، وهو أمر لن يدخل في مدار المستحيل بطبيعة الحال.
ويذهب الإمام الشيرازي الى أكثر من ذلك عندما يدعو أيضا الى بذل المزيد من المحاولات والمساعي الجادة من أجل كسب الأعداء لصفوف المسلمين، وهو هدف متاح، إذا ما تم استثمار الفكر والقيم والأقلام المضيئة للمفكرين المتميزين الذين يعدّهم الآخرون عقول لامعة كأنها مشكاة الضوء التي تضيء دروب الحياة المظلمة بالفكر الريادي الحر، فإذا كان الإنسان المسلم بارعا في التفكير وواعيا وله المخزون الثقافي الكافي، فإنه حتما سيكون قادرا على كسب الآخرين من خلال الإقناع والتأثير الفكري النوراني.
لذلك يطالب الإمام الشيرازي المسلمين بالشروع في تحقيق هذه المهمة، عندما يقول سماحته: على المسلمين كسب (الأعداء إلى صفوفهم أيضاً، إذ يكونون بأقلامهم مناراً للضالين وسراجاً للمسترشدين وضياءً للجاهلين، ذلك أن المسلم الجاهل لا يستطيع إقناع الآخرين بأفكاره عكس العالم العامل).
اضف تعليق