محاربة الفساد والفاسدين لا تقل أهمية وخطورة عن محاربة الاحتلال بل إنهما وجها عملة واحدة. عليه لا نقصد بالفساد هنا الأوجه الاجتماعية والسياسية من الفساد التي توجد بدرجة أو أخرى في كل المجتمعات، حيث يوظف مسئولون مواقعهم ومراكزهم الرسمية لجني مكاسب وامتيازات من المال العام أو من المواطنين بالابتزاز أو مقابل خدمات غير قانونية، أو تزوير الانتخابات الخ، فهذه الأشكال من الفساد وبالرغم من خطورتها فإنها نادرا ما تُهدد وجود الدولة واستقلالها. ما نقصده هنا هو الفساد المالي والسياسي لمسئولين في مراكز حساسة في النظام السياسي الفلسطيني حيث ما زال الشعب الفلسطيني خاضعا للاحتلال، إنه فساد أشخاص ونخب متواطئة مع الاحتلال بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مما يجعل الفساد والسكوت عنه، من القادرين على التصدي له، خيانة وطنية.

الفاسدون، يستغلون حالة الانقسام والحصار، وترهل وتفكك النظام السياسي، وحاجة كثير من الناس للاستفادة من التسهيلات التي تقدمها إسرائيل من خلالهم، لإذلال الشعب وامتهان كرامته وتطويعه لما يريده الاحتلال، مستقوين بوقاحتهم وبحماية إسرائيل لهم، وبكذبهم على الناس البسطاء من خلال الزعم أنهم يقدمون خدمات للناس لا يقدمها غيرهم.

الفاسدون مثلهم مثل الاحتلال يحاولون تتفيه وشخصنة الأمور حتى يفرغوها من مضمونها الوطني، لأنهم لا يؤمنون بشيء يسمى (وطني) وينظرون بازدراء للشعب ولقواه الوطنية. وهو ما تلجأ له إسرائيل أيضا عندما تزعم أن لا مشكلة لها مع الشعب الفلسطيني وأن خلافها مع القيادة الفلسطينية التي لا تريد السلام، وأحيانا تختزل المشكلة بشخص الرئيس.

فعندما يكتب المثقف أو يبدع في أي مجال من مجالات تخصصه موظفا تجربته الشخصية، فهذا لا يعني أن الدافع للكتابة شخصي فقط، وإلا لاعتبرنا مثلا أن كل من ينتقد وزارة الخارجية إنما يكتب كردة فعل على فشله أن يكون سفيرا أو لأنه يريد منصبا في وزارة الخارجية، واتهام مَن يكتب منتقدا الاعتقالات بأن دوافعه شخصية لأنه كتب بعد تعرضه للاعتقال، واعتبار كل مَن ينتقد النظام الضريبي مدفوعا بدافع شخصي لأنه يرفض دفع فاتورة ضريبة غير شرعية الخ.

المثقف والمبدع جزء من المجتمع ويعاني كما يعاني أبناء المجتمع، والوظيفة الاجتماعية النقدية والأخلاقية للمثقف تفرض عليه أن ينوب عن أبناء شعبه الذين يشاطرونه نفس المعاناة ومروا بنفس التجربة ولكنهم لا يستطيعون إيصال صوتهم للرأي العام ولأولي الأمر.

قد تنطلي حيِّل وأكاذيب الفاسدين على البعض من المواطنين، كما قد يسكت كثير من المواطنين البسطاء، لقلة حيلتهم، عن فساد الفاسدين، ولكن الغريب أن من يقولون أنهم قادة المشروع الوطني وحُماة الوطن ولا يتركون مناسبة إلا ويزعموا أنهم ضد الفساد والمفسدين، هؤلاء يتعاملون بحذر وتردد مع الفساد والفاسدين حتى داخل مؤسسات السلطة التي تُحسب عليهم، الأمر الذي يطرح تساؤلات إن كان الأمر عجزا أم تواطؤا ومشاركة في الفساد؟.

لا يكفي أن تنفي حركة فتح وبقية القوى السياسية عن أنفسهم تهمة الفساد، بل المطلوب منهم أن يحاربوا الفساد، فالساكت عن الفساد فاسد أيضا (الساكت عن الحق شيطان اخرس)، وإن لم يستطيعوا التصدي لفاسدين لاعتبارات سياسية ومصالح وعلاقات مُعقدة، فعلى الأقل من الواجب عليهم مناصرة مَن يواجه الفساد والفاسدين، ليس من منطلق الدفاع عن شخص بل لحماية حرية الرأي والتعبير، وحتى لا يُشجع سكوتهم الفاسدين على مواصلة فسادهم وتفسير سكوتهم بأنه شرعنة للفساد والفاسدين.

يزعم البعض ولتبرير سكوتهم عن الفاسدين، أنه لا توجد وثائق وأدلة مؤكدة على وجود الفساد، مثلا في هيئة الشؤون المدنية التي لا يُعرَف لها أية مرجعية وطنية واضحة، وهو عذر أقبح من ذنب. فإن كانت القيادات والمسئولون الكبار سواء في فتح أو فصائل منظمة التحرير أو المجلس التشريعي أو منظمات حقوق الإنسان لا يجرؤون على فتح ملفات حول شبهات فساد وخصوصا في هيئة الشؤون المدنية، خوفا أن يخسروا التسهيلات والامتيازات التي يوفرها لهم الفاسدون –مع أنها حق لهم وليس مِنَّة من الشؤون المدنية-، فلا ينتظروا من المواطن المقهور الذي ترتبط حياته بتصريح للخروج من غزة للعلاج أو العمل أو الدراسة أو التجارة أو رجل الأعمال الذي يتم مساومته لتزوير قيمة الأضرار لمنشأته المُدَمَرة الخ، لا يُنتظر من هؤلاء أن يواجهوا الفاسدين ويتحدثوا علنا عما يعرفوا وعما تعرضوا له من ابتزاز، وخصوصا أن المواطنين لا يثقون بأن الحكومة والسلطة والمنظمات الحقوقية يمكنها، أو ترغب، بحمايتهم وإنصافهم إن عاقبهم الفاسدون بحرمانهم من السفر أو إعاقة حصولهم على تعويضات منشئاتهم المُدمرة في الحرب. كما أن الحديث عما يجري في وزارة الشؤون المدنية لا يقتصر على التصاريح بل عن كل ما يتعلق بقضايا الإعمار وحركة المعابر.

هذه رسالة نوجهها أيضا للأخ رفيق النتشة أبو شاكر رئيس (هيئة مكافحة الفساد)، فحتى لا يتحول وتتحول مؤسسته (لشاهد زور) على ما يجري من فساد، نتمنى عليه ألا يجلس وينتظر من المواطنين أن يأتوا له ليقدموا شكواهم من الفساد والفاسدين، إن لم يؤمن لهم الحماية من سطوة ونفوذ الفاسدين. هذا إذا كان قطاع غزة ما زال ضمن المجال الجغرافي والسياسي والقانوني لعمل هيئة مكافحة الفساد!.

لا نعرف إن كان من المجدي مناشدة الرئيس أبو مازن لأن يعير بعض اهتمامه ووقته لما يجري في هيئة الشؤون المدنية في قطاع غزة والتي تتحكم في المنفذ الوحيد لمليوني فلسطيني وفي ملف الإعمار وحركة المعابر التجارية؟. ونكرر مرة أخرى إن الانقسام لا يُسقط مسؤولية الرئيس والسلطة عن قطاع غزة وأهله، وخصوصا عن المؤسسات التابعة للسلطة والتي ما زالت تعمل في القطاع، هذا إن كان الرئيس ما زال يعتبر قطاع غزة تابعا لإيالته.

ما يلاحظه المواطنون في الأيام الاخيرة من تغير في المعاملة من طرف هيئة الشؤون أمر إيجابي، ولكن يجب الحذر أن يكون ذلك في إطار اصطناع زوبعة في فنجان للزعم بأن الوزارة استجابت لحالة التذمر الشعبي مما يجري في الوزارة. قد تعود الأمور أسوء مما كانت إن لم تتم محاسبة أو إزاحة كبار المسئولين في الهيئة، فهؤلاء الخصم وليسوا الحَكم، ومن المهزلة المطالبة بأن تُرفع لهم شكاوى المواطنين للبث فيها.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق